القراءة مصطلحاً
د. عادل الفريجات
القراءة مفردة عربية محملة بالمعاني المتعددة ,لعل أولها: معرفة تركيب الكلمة العربية صوتياً, وكيفية النطق بها . والوصول إلى تلفظ يوافق عليه كل الناطقين بهذه اللغة , وهذا أبسط دلالاتها. وثانيها: قراءة نص صعب قديم وصلنا منذ زمن البدايات, حين لم يكن تنقيط أو إعجام, وقراءته تحتمل وجوها .كما في كلمة ( ثبت ) . ووجوه قراءتها دون تنقيط 🙁 نبت وبنت وثنت وثبت وتبث) وهذا كله دون تشكيل , ومع التشكيل تتوالد معان أخرى عديدة …
ولا ريب في أن معانيات كثيرة تواجه محققي المخطوطات القديمة غير المعجمة, أو المعجمة جزئيا , لإبهام الوجه الأدق للمعنى … وأتذكر بعض أخطاء علماء كبار في كتبهم المحققة والمنشورة , منها مثلا قراءة حرف السين شينا وبالعكس , وقراءة الزاي راء وبالعكس , والذال دالا وبالعكس, والجيم حاء وبالعكس , والنون باء وبالعكس … الخ. وقد قرأ ( د. مازن المبارك ) وكان أستاذا في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق في كتاب له منشور في مجمع اللغة العربية كلمة ( الأسماء) على أنها ( الأشياء ) . وهي قراءة غالطة دون ريب, وصححها له المرحوم ( أحمد راتب النفاخ) في مقال تصويبي لما اعترى طبعة الكتاب من أوهام وسقطات نشره في مجلة مجمع اللعة العربية بدمشق. وسمعت المفكر العراقي الشيخ ( غيث التميمي) يقرأ الآية الكريمة: ” والعاديات ضبحا ” على أنها ” والغاديات صبحا ” وبعضهم يقرأ الآية : ” وتبت يدا أبي لهب وتب ” على أنها ” وبتت يدا أبي لهب وبت”. والله أعلم .
ونشرت لي وزارة الثقافة بدمشق مختارات من كتاب ” تصحيح التصحيف وتحرير التحريف ” للصفدي ( دمشق 2015). وفيه إشارات كثيرة لظاهرتي التصحيف والتحريف . ومنها مثلا أن بيت الأعشى التالي قرئ :
فلو كنت في ” حب” ثمانية قامة ورقيت أسباب السماء بسلم
بالحاء لا بالجيم , فقال ثعلب : “خرب بيتك , أرأيت حبا قط ثمانين قامة ؟ إنما هو ” جب ” . (من تصحيح التصحيف وتحرير التحريف, دمشق, ص 27/28) . وروى الكلابي بيت عمر بن أبي ربيعة :
كأن أحور من غزلان ذي بقر أهدى لها شبه العينين والجيدا
فقال ابن الأعرابي : صحفت , إنما هو ” سنة العينين والجيدا ” ( المرجع السابق ص 131) وأراد ب ” السنة ” نعاس العينين وهو من صفات الغزلان والشابات الجميلات .
وهناك قراءات لكتابات قديمة ربما اهتدى إليها علماء ليسوا من أهل اللغة, فتعددت أوجه القراءة. وأمثل عليها بقراءة اسم الإلهة السورية ( تيكه ) فبعضهم قرأها ( تيخيه) وبعضهم ( تيكيه ). وهذه الإلهة كانت معبودة في أجزاء واسعة من سورية الكبرى , أعني فلسطين والأردن وسورية المعاصرة . وقرأ ( قاسم الطوير ) في كتاب له اسم مدينة ( إيبلا ) المكتشفة في سورية في سبعينيات القرن العشرين على أنه ( عبلة) أو( الصخرة البيضاء ) . مصححا قراءة بعض العلماء الغربيين الذين يعانون من صعوبة في نطق حرف العين, فيحرفونه الى همزة . ويقوي هذا الاحتمال أن بعض الكلمات الأيبلوية هي ذاتها في اللغة العربية مثل ( يد ) و(أخت) والأعداد من واحد إلى عشرة .
والقراءة , من وجه ثالث: قد تعني الفهم السليم لاجتماع كلمات المخطوط في جملة بعينها المفضي إلى عبارة مفيدة سائغة . وهنا تدخل عوامل كثيرة في الترجيح والاستبعاد , منها قواعد النحو وخصائص الموضوع والتاريخ والسياق وثقافة العصر وثقافة الكاتب والمصطلحات السائدة , ولهذا كتب المرحوم المحقق ( محمود شاكر ) تحت عنوان كتاب” طبقات فحول الشعراء ” لابن سلام الجمحي ( 231 هجرية ) الذي حققه ونشره في القاهرة :” قرأه وشرحه” محمود شاكر . وفي طبعته الثانية أعلن( شاكر ) تخليه عن مسؤوليته عن طبعته الأولى للكتاب نفسه , لما حوته من أوهام .
والمعنى الأعلى الرابع للقراءة هو: الفهم و التأويل . وقد آل مفهوم القراءة لأن يصبح مصطلحا من مصطلحات النقد الأدبي المعاصر , ونشرت وتنشر اليوم دراسات كثيرة لآثار فنية محددة تحت عنوان ” قراءة في رواية كذا ” أو ” قراءة في ديوان كذا “.
وربما كان شاعر العربية الأكبر ( أبو الطيب المتنبي ) خير مثال على ابتكار شعر قابل للتأويل وفق زاويتين مختلفتين بل متناقضتين . وشاهدنا هنا في أبياته الثلاثة التالية في (مدح / او ذم ) حاكم مصر في زمانه ( كافور الإخشيدي ) الذي خذله ولم يلب طلبه :
وما طرَبي لمَّا رأيتُكَ بِدعةً لقد كُنتُ أرجو أنْ أراكَ فأطربُ
وتعذلُني فيكَ القوافي وهِمَّتي كأني بمدحٍ قبل مدحِكَ مُذنِبُ
ولكنَّهُ طالَ الطَّريقُ ولم أزَلْ أفَتَّشُ عن هذا الكلامِ ويُنهَبُ
فكافور بدعة وليس بديعا . وشتان بين اللفظين , وإن تقاربا في الحروف .والمتنبي يطرب لرؤية ( كافور ). والطرب يحمل معنيين متعاكسين , هما الإعجاب والتعجب , الأول إيجابي والثاني سلبي .والفرق بين بين التبجيل والاستغراب .والقوافي تلوم المتنبي , وهو أبوها ,لأنه يمدح من لا يستحق المديح , بل هو يبدو كمن يرتكب جرما حين يطري( كافور). والكلام , والمتنبي سيده , يفر منه , لأنه يسوقه إلى مقام لا يليق بالمخاطب فيه , وهو مدح رجل مكروه خذل أبا الطيب , ولم يلب رغباته .
والقراءة , من وجه خامس, صارت مصطلحا من مصطلحات الفكر السياسي , لأن بعض المواقف والقرارات السياسية تحتاج قراءة وشرحا وتفنيدا وتحليلا . وقد يوفق المحلل السياسي ,وقد لا يوفق فيما يذهب إليه . وهكذا نرى كم صارت تحمل لفظة القراءة من معان ودلالات .
ولا بد لي , سادسا , من الإشارة إلى القراءات الاستكشافية التي تعد أعظم من تلك القراءات, وأعني بها التي فك فيها العلماء العباقرة طلاسم لغة انقرض الناطقون بها, وغابت حقيقتها في مجاهل الزمن, فصارت طلسما أو كالطلسم , كما في الكتابة المسمارية , والكتابة الهيروغليفية , والكتابة الأوغاريتية .
والمعروف أن اللغات التي كتبت بالمسمارية هي الأكادية والآشورية والحثية وغيرها . وهذه الكتابة كانت فد بدأت قبل الميلاد بثلاثة آلاف عام, أي قبل اختراع لأبجدية ب 1500 عام . واستمرت الكتابة المسمارية حتى القرن الأول الميلادي .وهي تتكون من عشرات الحروف أو الرموز .وهنا اقتبس عن أحد الباحثين العراقيين قوله :
“مرّت محاولات حل الكتابة المسمارية بمراحل عديدة ومن قبل أشخاص كُثُر، كان من أقدمهم الباحث (تيسكن) الذي استطاع في عام 1798م قراءة أربع علامات من كتابات برسيبوليس العاصمة الأخمينيه التي نقلها العالم الألماني(نيبور) إلى أوروبا عام 1765م .
و تألفت من 42علامة، كما وتوصل( تيسكن) إلى معرفة إحدى العلامات المتكررة في النص, وهو المسمار المائل الذي يفصل بين الكلمات , وتمكن من إثبات أن هذه النصوص تمثل ثلاث لغات مختلفة، وأعقب هذه الخطوة نجاح الباحث الآثاري( مونتر) في سنة 1802م بالبرهنة على كون كتابات( برسيبوليس ) تعود إلى السلالة الأخمينية, وأن لغتها مشابهه للغة الكتاب المقدس المعروف ب (زند أفيستا)، كما استطاع أن يحدد العلامات التي تؤلف كلمة ملك ، وهذه الخطوات ساعدت كثيرا في التوصل إلى حل هذه الكتابة ،وأكد بأن تلك النصوص في حقيقتها نص واحد, ولكنه مدون بثلاث لغات مختلفة .
جاء من بعدهم (كروتفند) العالم الألماني الشهير الذي يعود له الفضل الحقيقي في إيجاد المفتاح الذي لولاه لما حلّت رموز الخط المسماري, ووضع اللّمسات الحقيقية الأولى لعلم سمّي بعلم الآشوريات.
أكمل (كروتفند) العمل الذي بدأه (مونتر) وتوصل إلى فك رموز الخط الأول الذي كان يضم 42 علامة مسمارية , التي كانت تمثل حروفا هجائية, وليس كتابة مقطعية ، كما تمكن من قراءة أسماء الأعلام وألقابهم المدونة باللغة الفارسية القديمة “.
وهناك, من وجه سابع, نوعان للقراءة , هما: القراءة الصامتة والقراءة الجهرية . والقراءة الجهرية أيضا تتنزل منازل , وتخضع لتلوينات مختلفة , فيما يسمى القراءة التعبيرية , كالتعجب والاستفهام والاستنكار . ومن أشكال القراءة الجهرية أيضا ( الإلقاء ) على جمهور . والإلقاء فن من فنون القراءة . وهناك شعراء يأسرون مستمعيهم بجودة إلقائهم , وشعراء يخيبون من يسمعهم لرداءة إلقائهم . وأمثل على الفئة الأولى بالشاعر الفلسطيني محمود درويش , والشاعر السوري عمر أبو ريشة والشاعر العراقي محمد مهدي الجواهري. وعلى الفئة الثانية بالشاعرين: أحمد شوقي , وعبد الوهاب البياتي .
وأخيرا شتان بين قراءة محملة بالمشاعر, وقراءة بليدة لا تنقل إحساسا بعينه , كأن يكون فرحا أو حزنا أو غضبا أو رضى. فكما توجد قراءة بين السطور, يوجد موقف أو رأي أو اجتهاد بين الكلمات المجهورة .