تحديات اللغة العربية
تحديات اللغة العربية
أ.دياب نبهان
اللغة العربية أقدم اللغات قاطبة في العالم وأقواها أصالة وأوسعها تعبيراً، وهناك من يعتبر العربية فوق اللغات الإنسانية قاطبة وأمها، بإعتبارها اللغة الكونية الأولى في التاريخ، وهي لغة نقية صافية تخلو من أي مفردات أعجمية، أو غريبة، كما وصفها القرآن الكريم، لساناً عربياً مبيناً
وقد دخلت اللغة العربية في مختلف لغات العالم، وقد أدت دورها في حضارة الإنسان، وما تزال تؤديه، ولم تكن في أي حقبة تاريخية متخلفة عن هذا الدور، إلا لعيب في الباحثين العرب، وأن ما يمكن أن تقع عليه العين من تخلف في أي ميدان، فمصدره الوحيد قلة الإهتمام بتطوير الفكر العلمي العربي ” فمن المعروف أن انتشار اللغة ـ أي لغة كانت ـ رهن بمدى اسهامها في المواقع الحضاري، ولئن ثبت في ماضينا المجيد أن لغتنا كانت لغة حضارة، مرت بتجربة ضخمة أبرزتها طواعيتها للاكتشاف والتوليد، فعلينا أن نثبت نحن اليوم أنها ما تبرح تمر بالتجارب الضخام، بل بتجارب أضخم مما سلف وأنها تواكب نماءنا الحضاري وما تنفك قادرة على اختراع التعابير الحية لكل الفنون”(1)
ويحدد الدكتور العلامة الشيخ صبحي الصالح الأسباب التي يتذرع بها من يرمون العربية بالعقم ويصمونها بالتخلف عن مجاراة الحضارة في عصر العولمة وغزو الفضاء وبما يلي
ـ اختلاف المصطلحات التي تم وضعها وتعريبها
ـ بطء حركة التعريب في الوطن العربي رغم الحاجة الملحة لوضع المصطلحات العلمية والفنية
ـ الإفتقار إلى مراجع علمية عربية في مختلف العلوم للتدريس الجامعي
ـ صعوبة اللغة العربية من حيث القواعد والكتابة
ـ منافسة بعض اللغات المحلية الدارجة للعربية الفصحى (2)
هذا فيما يتعلق بالواقع الراهن، ولكن نظرة على التطور الاجتماعي للأمة العربية من شأنها أن تكشف لنا أسباباً أخرى باعتباره أن اللغة مركب معقد يتصل بفروع مختلفة من العلوم، فهي تتصل بعلم الفسيولوجيا “(علم وظائف الأعضاء) لأن أعضاءاً مختلفة من الجسم البشري تساهم في انتاجها، وهي تتصل بعلم النفس لأنها مظهر لنشاط ارادي للعقل، وهي تتصل بعلم الاجتماع لأنها استجابة لحاجة الاتصال بين بني الانسان، ثم هي قبل هذا كله وبعده حقيقية تاريخية تظهر في المجتمعات الانسانية في صور متبانية وفي عصور مختلفة” (3)
الاحساس المبكر بالخطر
كان العرب في جزيرتهم الواسعة المترامية الأطراف قد بلغوا شأناً مهماً في جانب اللغة والأدب، وكانوا يتكلمون بلسان عربي فصيح لا تشوبه شائبة بالرغم من تعدد اللهجات (لهجة قريش، لهجة تميم) على سبيل المثال وغيرها من اللهجات الفصيحة، ولم يكن لهم اتصال قوي فعال مع الخارج إلا من جهة الغساسنة مع الروم، والمناذرة مع الفرس ولكن لا الروم ولا الفرس كانا يملكان رسالة حضارية معروضة على العرب وانما كانا قوتين استعمارتيين يديناه للقوة والهيمنة الغاشمة التي لا تعترف إلا بالسيطرة وفرض النفوذ
وجاء النبي محمد صلى الله عليه وسلم برسالة الإسلام والتوحيد ومعه القرآن العظيم الذي نزل بلسان عربي مبين، فإنصب الاهتمام أول الأمر على نشر دعوة التوحيد في الجزيرة العربية، وإنهاء الوثنية وعبادة الأصنام فيها إلى غير رجعة، ليتوحد عرب الجزيرة تحت راية الإسلام، وحسم الموقف لصالح لغة قريش مع ما في هذه اللغة من إعجاز وبيان وبديع مع اجازة القراءات الاخرى للقرآن الكريم الذي قال عنه نبينا محمد صلى الله عليه وسلم بأنه نزل على سبعة أحرف، أي لهجات وذلك جنباً إلى جنب مع توحيد العرب وتوحيد كلمتهم، وصفوفهم وأهدافهم، ليندفعوا إثر ذلك لإعلاء كلمة الله في الأرض وتوحيده، لتنتشر الفتوحات في كافة الاتجاهات ويختلط العرب بالأعاجم وتدخل أمم برمتها بالإسلام لتظهر علامات منعاد في اللغة، وحدث اللحن في الألسنة والتصحيف في القراءة الذي أدى إلى تحريف اللفظ من صورة إلى صورة أخرى مغايرة مما أخذ يؤثر في سلامة اللغة العربية وفصاحتها ويذكر الزبيدي في طبقاته ولم تزل العرب بالأمصار تنطق على سجيتها في صدور الاسلام، وماهي الجاهلية، حتى أظهر الله الاسلام على سائر الأديان، وقد دخل الناس في دين الله أفواجاً، وأقبلوا عليه إرسالاً، واجتمعت فيه الألسنة المتفرقة واللغات المختلفة منشأ الفساد في اللغة العربية. (4)
لذلك تصدى القادة، واعلام العربية الافذاذ، وقادة الفكر الاسلامي لهذا الاشكال الخطير، فحاول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب أن يضع اللبنات الأولى، لقواعد اللغة، ثم يطلب من أبي الأسود الدوؤلي. ان يتوسع في هذا الباب، وينحو هذا النحو فكان “النحو العربي” وعمل الدوؤلي على ضبط الحرف العربي من حيث الحركات واستخدام التنشيط وسيلة لذلك، وجاء بعده عالمان جليلان هما “يحيى بن يعمر” و “نصر بن عاصم” فقاما بدور عظيم حين أوجدا “الاعجام” فعصما الحرف العربي من التصحيف والتحريف. (5)
ثم جادت عبقرية الأمة العربية بعالم جليل هو “الخليل بن أحمد” مؤسس علم العروض، وأول دارس لعلم الصوت، ويبتكر الحركات المعروفة لدينا الآن، فأتت خير وسيلة لضبط الحرف العربي ومنعه من الالتباس
وفي أواخر القرن الثاني للهجرة أدرك العرب أن هناك خطراً هداماً يهدد سلامة اللغة العربية، وهذا الخطر هو المد الشعوبي والذي كانت بلاد فارس وما تزال منبعه الدائم، فتصدى علماء العربية لهذا الخطر، وأخذت جهودهم تظهر في مجالات متعددة منها التأليف، التي كان هدفها سلامة اللغة والحفاظ على كيانها ودحض الدعوات المشبوهة والشعوبية الفارسية على نحو خاص. (6)
كيف ظهرت العامية
إذا كان اللحن في اللغة، والتصحيف في القراءة قد ظهر نتيجة الفتوحات العربية واختلاط العرب بالأعاجم، فإن بعض المفردات الأعجمية وجدت طريقها إلى العربية وهي دخيلة عليها، إضافة إلى تناسي الإعراب في الحديث الدارج بين الناس والتلاعب باللفظ كما يستسيغه الناطق وتكسير الكلمة وتغيير بنيتها مع مرور الزمن حتى ابتعدت عن أصلها وأصالتها فكانت اللهجات المتعددة في الرقعة الجغرافية الواسعة التي شملت عموم الوطن العربي
كانت العامية في بدايتها “لحناً في اللغة فأمست لغة في اللحن”(7)، فكانت محدودة النطاق، مشخصة الألفاظ محذورة على فقهاء العربية وعلمائها وسدنتها فأصبحت مع الزمن البعيد لغة الجميع في الحوار والحديث اليومي، أما الفصحى فهي لغة الكتابة والتدوين والتدريس والمناظرات أي هي اللغة الرسمية المتفق عليها
وكانت البداية عصر بني أمية، حيث وجدنا الكوفة والبصرة أهم حاضرتين عربيتن تصطدم فيها اللغة العربية باللغات الأجنبية، وقد أصبح سكانها اخلاطاً من العرب والموالي من الفرس وغيرهم، فكان ينزلق إلى العربية على ألسنتهم كثير من الألفاظ الدخيلة التي وجدت لها طريقاً إلى التعريب
إضافة إلى ظهور أجيال عربية ناتج زواج العربي من الأجنبية، كانوا يتأثرون بأمهاتهم في نطقهم الحروف والكلمات فكانت تلك البيئة أخصب الأمكنة التي ساهمت في نشوء اللهجات العامية.
أما العصر العباسي فقد شهد تفشي العامية، ووجدت لها رقعة جغرافية واسعة وخاصة في القرن الرابع الهجري، حيث انتشار اللهجة العامية إلى جانب العربية الفصحى، حيث أصبح لكل أقليم لغته ولهجته الدارجتين
يقول محمد عطيه الابراشي: أن اللغة الفصحى أصبحت غريبة عن البيئة الاجتماعية والبيت وبلغ من غرابة الفصحى عندهم أنهم كانوا يدعون أمثال المتنبي(9) وغيره متقعراً، وكان يعد فصيحاً عندهم من سلم من الخطأ في مراعاة الاعراب والصرف وتجنب العبارات الدارجة، كما أن العامية طريقاً سالكاً إلى صنف من اشعار العرب في هذا العصر لتخذ له فنوناً مختلفة اشتهر منها : الزجل والمواليا والكان كان والقوما، حتى غدت أكثر الناس تتكلم العامية وأقلهم الفصحى
ولسبب هذا الخطر كما يقول الأستاذ أحمد أمين الذي امتدت آفاقه واستشرى بين العامة وهدد سلامة اللغة ظهر إلى جانبه رد فعل عنيف وقوي حمل لواءه علماء أفذاذ في مجالات متعددة من فروع اللغة وقد حملوا تبعات ثقيلة وكثيرة منها ارجاع العامية إلى اوكارها ونزعات الشعوبية إلى أماكنها، والعمل على احياء اللغة العربية الفصحى وتوسيعها في الميادين المتعددة ومن هؤلاء العلماء “الثعالبي” الذي الف كتباً كثيرة في نواحي كثيرة، في فقه اللغة، في شعراء القرن الرابع الهجري وله فضل التعريف بشعراء كثيرين لولاه لما عرف عنهم شئ، ومن هؤلاء كذلك “المبرد” الذي تخرج على يديه “الزجاج” الذي انجب العالم المشهور “ابن جني”.(9)
وهكذا بقيت اللغة خالدة رغم انتشار العامية فهي لغة الأدب الرسمي حيث حافظت على مكانتها وسلامتها لغة وكتابة وظلت الاداة التي نقلت الموروثات الثقافية عبر القرون وعن طريقها وبواسطتها اتصلت الأجيال العربية جيلاً بعد جيل وهي حملت الاسلام وما انبثق عنه من ثقافات وحضارات وبها توحد العرب قديماً وبها يتوحدون اليوم واللغة العربية هي أداة الاتصال ونقطة الالتقاء بين العرب وشعوب كثيرة حيث أخذت هذه الشعوب جزءً كبيراً من ثقافتهم وحضارتهم
العامية والدعوة الحديثة لاحلالها مكان الفصحى
يقول الدكتور محمد محمد حسين في كتابه “الاتجاهات الوطنية في الأدب المعاصر” أن هذه الدعوة بدأت أواخر العام 1881 ميلادية حين إقترح المقتطف جريدة مصرية كتابة العلوم باللغة التي يتكلمها الناس في حياتهم اليومية، ودعا رجال الفكر إلى بحث اقترحه ومناقشته، ويستطرد الدكتور حسين (10) فيقول: ولا أراني في حاجة إلى أن أتحدث عن “المقتطف” وعن ميوله السياسية والجهات التي كان يخدمها وقد تكلمت عنه وعن شقيقه “المقطم” في الجزء الأول من هذا الكتاب ثم هاجت المسألة مرة أخرة في أوائل العام 1902 ميلادية حين ألف أحد قضاة مصر “قاضي في محكمة الاستئناف الأهلية” وهو بريطاني الجنسية ويدعى القاضي “ولمور” كتاباً سماه “لغة القاهرة” وضع لها فيه قواعد واقترح اتخاذها لغة للعلم والأدب والادب كما اقترح كتابتها بالحروف اللاتينية
تنبه الناس للكتاب حين أشاد به “المقتطف” في باب “التفريظ والانتقاد” فحملت عليه الصحف مشيرة إلى الوضع الخطير من هذه الدعوة التي لا تقصد إلا محاربة العربية والاسلام في لغته
وفي ذلك الوقت كتب الشاعر “حافظ ابراهيم” قصيدته المشهورة التي يقول فيها متحدثاً بلسان اللغة العربية
رجعت لنفسي فاتهمت حصاتي وناديت قومي فاحتسبت حياتي
رموني بعقم في الشباب وليتني عقمت فلم أجزع لقول عداتي
ووسعت كتاب الله لفظاً وغاية وماضقت عن آي به وعظات
فكيف أضيق اليوم لوصف آلة وتنسيق اسماء لمخترعات
أنا البحر في أحشائه الدر كامن فهل سأل الغواص عن صدفاتي
أرى لرجال الغرب عزاً ومنعةً وكم عز أقوام يعز لغات
أرى كل يوم بالجرائد مزلقاً من القبر يدنيني بعد أناة
وأسمع للكتاب في مصر ضجة فأعلم أن الصائحين نعاتي
لم تجد دعوة المقتطف المصرية صدى لها في الأوساط العلمية والفكرية في مصر كما أمر دعوة الانجليزي “ولمور” لم تكن إلا سبباً لإثارة السخط والاستنكار لذلك فقد خمدت هذه الدعوة ولكنها ما لبثت ان ثارت من جديد بعد ربع قرن. ففي سنة 1926 ميلادية، دعا انجليزي آخر، كان يعمل مهندساً للري في مصر وهو السير “وليم ولكوكس” إلى هجر اللغة العربية وخطا بدعوته هذه خطوة عملية، فترجم أجزاءً من الانجيل إلى ما سماه “اللغة المصرية” فأيده بذلك سلامة موسى، وقد كان هذا سبباً لثورة المصريين من جديد، فهاجموا الفكرة، ونددوا بها وفضحوا بما يكمن وراءها من دوافع سياسية وفتنة بغيضة، رغم ذلك فأن دعوة ولكوكس، هذه قد جذبت إليها نفراً من دعاة ما يسمى التجديد، وبدا أن الدعوة آخذة بالانتشار حين اتخذت اللهجة العامية في المسرح الهزلي لتنتقل فيما بعد إلى المسرح الجدي، حيث تجرأت وقتذاك فرقة تمثيلية تتخذ اسماً فرعونياً (11) وهي فرقة رمسيس، فوجدت مسرحياتها اقبالاً ورواجاً عن الناس في مصر، وظهرت السينما من بعد فاتخذت اللهجة المصرية المحلية ولم يعد للعربية الفصحى وجود في هذا الميدان
كما كان للأدب دوره في ذلك، حيث كتب هيكل رواية “زينب” باللهجة المصرية الدارجة، واستعملها الكثير من كتاب القصة في الحوار ولا يزال دعاتها يمكنون لها في هذا الميدان حتى استطاعت أن تتسلل متلصصة إلى الحصن الذي قام لحماية اللغة العربية الفصحى والمسمى “مجمع اللغة العربية” فظهرت في المجلة الناطقة باسمه سلسلة من المقالات عن اللهجة العامية كتبها عضو في هذا المجمع وهو اسماعيل اسكندر المعلوف (12)
ومما يدعو إلى العجب هنا حقاً أن يختار مجمع اللغة العربية لعضويته رجلاً معروفاً بعدائه للعربية وهو عداء ورثه عن أبيه وجهر به حين سجله في مقالة له نشرتها مجلة الهلال المصرية سنة 1902 ميلادية في عدد 15 آذار 1902 تحت عنوان “اللغة الفصحى واللغة العامية” لإسكندر المعلوف، دافع فيه عن اللهجات العامية وقال أنه يشتغل بضبط أحوالها وتقييد شواردها لاستخدامها في كتابة العلوم، وقد أكد في هذا المقال أن اختلاف لغة الحديث عن لغة الكتابة هو من أهم أسباب تخلفنا الحضاري والثقافي، ورغم ذلك أن من الممكن اتخاذ أي لهجة عامية لغة للكتابة، المصرية أو الشامية، وأنها ستكون أسهل على سائر المتكلمين بالعربية، على اختلاف لهجاتهم من العربية الفصيحة (13)
ويلاحظ من خلال هذا الرأي أن صاحبه يقفز عن حقيقة قوية يمكن ملاحظتها في الواقع، وبالرغم من انتشار اللهجات العامية في ديارها ورغم مضي عقود عديدة على هذا الرأي، فإن العرب إذا اجتمعوا في مؤتمر لا يتكلمون إلا العربية الفصيحة
الأمر الآخر فإن “مجمع اللغة العربية” قد تشكل أصلاً لحماية اللغة العربية الفصيحة والترويج لها لا لكي يكون منبراً للدعوة إلى العامية والترويج لها كذلك
والأمر الآخر أن من مفارقات “مجمع اللغة العربية” آنذاك أن يكون من أعضائه من هم ليسوا عرباً مثل المستشرق “ه.أ.ر.جيب”، وقد كان المستشرقون من مستشاري وزارات الخارجية والمستعمرات في بلدانهم
ميادين استهداف اللغة العربية الفصحى
ثم استهداف اللغة العربية في ميادين ثلاثة رئيسية.
اللغة
ـ هناك من دعا إلى اصلاح قواعد اللغة
ـ هناك من دعا إلى التحول عنها إلى العامية
ـ هناك من دعا إلى التحول عنها إلى الحروف اللاتينية كتابة
ـ هناك من دعا إلى العناية بالآداب الحديثة وبما يسمى “الأدب الشعبي” أي كل ما هو متداول بغير العربية، فيما يختلف في القطر العربي الواحد، باختلاف الأقضية والنواحي وتعدد البيئات
وكما أوضحنا سابقاً فإن هذه الدعوات قد اثارتها وتبنتها صحيفة “المقتطف” المصرية سنة 1881، ثم اثارها القاضي الانجليزي في القاهرة “ولمور” سنة 1902، ثم مهندس الري في مصر الانجليزي أيضاً “وليم ولكوكس” سنة 1926، كما أثارها بعض الكتاب المصريين من أمثال سلامة موسى، ولطفي السيد، إلى جانب بعض الصحف والمجلات خلال هذه الفترة وبعدها، وقد يعتري تلك الدعوات المشبوهة الكمون، إلا أنها تعاود الظهور بين الحين والآخر، حتى يومنا هذا
والذي يستعرض مقالات الكتاب في ذلك يدرك أن هناك هدفاً واحداً سعى إليه أصحابه من كل وجه وبكل وسيلة وهو محاربة الفصحى والتخلص منها، فهم يدعون تارة إلى العامية دعوة صريحة، وتارة أخرى يدعون إلى التوسط بينها وبين اللغة الفصحى، وتارة ثالثة يدعون إلى فتح باب التطور والتحديث في اللغة، وحق الكتاب في تغييرها وإلى أسقاطها واسقاط أبواب معينة في قواعد النحو أو تعديل تلك القواعد، وإذا لم يفلحوا في ذلك، يكتفون بالدعوة إلى دراسة اللهجات العامية وحصر مفرداتها وأساليبها ووضع القواعد والمعاجم لضبطها واحصائها باسم العلم والحداثة واتباع المناهج الأوروبية في البحوث والدراسات اللغوية الحديثة، ويروجون لحجج متهافتة وخبيثة في الوقت نفسه تركزت حول الادعاء بصعوبة تعلم اللغة العربية من ناحية، وعجزها عن تأدية أغراضها الأدبية والعلمية من ناحية ثانية، وقد أضيف إلى هذين زعماً ثالثاً مثل الدعوة إلى الفرعونية في مصر، والفينيقية في بلاد الشام، ولعل من أكثر الأمور غرابة في هذا الشأن أن أول من أطلق دعوة الفرعونية أو تمصير اللغة العربية هو أحمد لطفي السيد الذي أصبح بعد ذلك رئيساً لمجمع اللغة العربية
وقد كتب سلامة موسى في مجلة الهلال المصرية “ان التأفف من اللغة الفصحى التي تكتب بها يرجع إلى ما قاله “قاسم أمين” وهو مصري من أصل كردي ومن دعاة تحرير المرأة عنها كلمته المشهورة “ان الأوروبي يقرأ لكي يفهم أما نحن فنقرأ كي نقرأ” واقترح الغاء قواعد الاعراب، وتسكين الحركات كما فعل الأتراك في حقبة كمال أتاتورك
حيث إنصبت الدعوة على اصطناع العامية السورية بدلاً من اللغة العربية الفصحى واستندت في ذلك، على أن اللغة العامية أوفى تعبيراً، وأرقى معان وأحلى ألفاظاً من اللغة الفصحى، وانها لذلك يجب ايثارها على الفصحى، وقد هبت الصحف السورية والفلسطينية والعراقية آنذاك لتسفه هذه الاراء ونسبها إلى ضعف الحمية القومية كما رد خليل اليازجي على دعوة المقتطف بإبراز نقطتين
ـ إن اتخاذ العامية لغة للكتابة فيه هدم بناية التصاريف العربية بأسرها واضاعة كثير من اتعاب المتقدمين، ثم تكلف مثلها في المستقبل
ـ إن عامة الناس وجهالهم يفهمون العربية الفصيحة ويتذوقونها على غير ما يدعيه خصوم العربية
أما مجلة الهلال المصرية فقد أبرزت الاعتبارات التالية
ـ ان المسلمين لا يستغنون عن الفصحى لمطالعة القرآن الكريم والحديث النبوي وسائر الكتب الدينية
ـ ان اللغة العربية ليست غريبة على افهام العامة إلا إذا أريد التقعر واستخدام الألفاظ الغريبة، ولغة الانشاء العصرية فهي شائعة في الصحف ويفهمها الخاصة والعامة على حد سواء
ـ لا يجوز قياس العربية على اللاتينية لأن الفرق بين اللاتينية وفروعها أبعد كثيراً من الفرق بين العربية والفصحى وفروعها العامية
فالعامي الانجليزي والفرنسي والايطالي مثلاً ينظر إلى اللاتينية نظرة إلى لغة غريبة أما العامي العربي فإنه يفهم اللغة العربية الفصحى، وإذا ما فاته فهم بعض الألفاظ فإن المعني الإجمالي يندر أن يفوته
ـ أن الزعم بأن اللغة العربية بدع في اللغات، بامتياز اللغة المكتوبة فيها عن اللغة المحكية، زعم باطل فالانجليز يكتبون العلم بلغة لا يفهمها عامتهم، ويسمونها لغة علمية والعامي الفرنسي لايفهم أبحاث “رينابي” في فلسفة التاريخ كما العامي الانجليزي لا يفهم ما كتبه “سبينسر” في فلسفة العمران، والعامي الألماني لا يفهم ما كتبه “شوبنهاور” في فلسفة الوجود
ـ ان الذاهبين إلى أن يتخذ كل شعب في قطر عربي لهجته العامية هم القائلون انحلال الوطن العربي وتشتيت شمل الناطقين بالعربية فإن أمم أوروبا لم يهملوا اللغة اللاتينية ويستبدلوها إلا بعد أن أصبحت كل أمة منهم دولة قومية مستقلة يهمها الانفصال عن جيرانها أكثر مما يهمها الانضمام اليهم لما تتطلبه مقتضيات الاستقلال والسيادة
وهناك حقيقة ثابتة وقائمة، وهي أن اجتماعات الاتحاد الاوروبي تقتضي عشرات المترجمين لترجمة الحوار، أو الحديث إلى لغات الاعضاء في الاتحاد، أما الاجتماعات العربية حيث تجري فيها لغة واحدة وهي العربية التي يفهمها ويتكلم بها كل أعضاء الجامعة، وهي بذلك تشكل قاعدة صلبة وقوية يقوم عليها بنيان الوحدة العربية
الخط العربي
ظهرت الدعوة إلى تيسير الخط العربي في مطلع القرن العشرين في كتاب القاضي الانجليزي في القاهرة “ولمور” عن “اللغة المصرية” الذي اقترح كما أسلفت إلى جانب الأخذ بالعامية كتابة، هذه العامية هي الحروف اللاتينية، وتعرضت دعوته إلى هجوم شديد من قبل الكتاب والشعراء المصريين وعامة الشعب المصري، إلا أن بعض الكتاب قد سقط فريسة هذه الدعوة المشبوهة التي كانت تهدف إلى فصل مصر عن بيئتها العربية أمثال سلامة موسى، وأحمد لطفي السيد
وبعد تراجع هذه الدعوة لمدة عقدين من الزمن، عادت إلى الظهور من جديد، حيث بدأ الحديث عن اصلاح الخط العربي وبدأت تظهر في الصحافة آراء الكتاب وعلماء اللغة، التي أكدت أنه لا يمكن كتابة اللغة العربية بغير حرفها لأن ذلك يقطع الصلة بيننا وبين تراث أجدادانا، وان في الحروف العربية ميزة لا تتوفر في غيرها من اللغات، ففي العربية من الحروف والأصوات ما لا يوجد له نظير أو مقابل في اللغات الأوروبية، وثبتت مواقف علماء اللغة العربية ومناصروها وسكنت الدعوات لاستبدال الخط العربي بالابجدية اللاتينية وحيث أن هذه الدعوات قد كتب لها الفشل والاندحار، لأن اللغة العربية هي غير اللغة التركية، وان الخط العربي سيدوم إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها
الأدب العربي
الميدان الثالث الذي انصبت عليه الدعوات احلال العامية محل الفصحى، هو الادب العربي وقد ظهرت دعوات حاولت صرف الناس عن الاهتمام بالادب العربي القديم فهي تارة تدعو إلى ان يهتم كل قطر عربي بآدابه المحلية، كأن يعني المصري، بالادب المصري، والعراقي بأدب العراق وكذلك الشامي والمغربي، رافقتها دعوات، بالعناية بالآداب الحديثة والتشكيك بسلامة ما وصل الينا من الادب العربي برمته، وظهرت آراء تدعي انتحال الأدب العربي وعدم صحته، وخاصة الادب الجاهلي الذي يعتبر شعره درة على جبين اللغة العربية حيث كان الشعر ديوان العرب، فيه كل القيم التي تظل محط اعتزاز العربي وتشكل لبنات من بنائه الاخلاقي والانساني كالشجاعة والمروءة والفروسية وغيرها
وهذا باب واسع يحتاج إلى بحث عميق وشامل، ولكن الخلاصة أن هذا الأدب قد هزم كل الدعوات المشبوهة للنيل منه، وظل الأدباء العرب يقدمون اعمالهم باللغة العربية الفصحى دون اللهجات العامية، وان كان البعض منهم قد حاول أن يكتب الرواية أو القصة باللهجة الدارجة في بلده فإن تلك الاعمال لم تجد لها رواجاً في السوق العربي، وحتى في الاقطار العربية التي ظهرت فيها، وظل الأدب المكتوب باللغة الفصحى سيد الموقف، وظلت الجماهير العربية على وفائها للغتها العظيمة، لغة القرآن العظيم
وتظل اللغة العربية طوق النجاة، لهذا الشعب العربي الذي تعرض ويتعرض لهجمات تستهدف قيمه ومفاهيمه ونمط حياته وعاداته وتقاليده، كما تستهدف تراثه ومعطياته الحضارية العلمية والانسانية العظيمة التي كان لها الفصل في تمكين أمم وشعوب أخرى من ناحية التقدم
ان التمسك بلغتنا العربية الجميلة التي تعلو على لغات الأرض باعتراف علماء اللغات في العالم، وإعادة الاعتبار لها، إنما يشكل الأساس الذي تنهض عليه الشخصية العربية ومعطياتها الحضارية والإنسانية، وهي التي تنقلنا من التبعثر والانقسام والشرذمة إلى الوحدة والتوحد، من الاحباط إلى الفاعلية والفعل، ومن اليأس إلى الأمل، ومن التخلف إلى الرقي والنهوض، وبها تستعيد أمتنا جدارتها بالحياة وحقها في الريادة والسيادة، لتساهم بفعالية قوية، في تعميم قيم الحق والعدالة والإنسانية
الهوامش
1 – الدكتور صبحي الصالح ـ دراسات في فقه اللغة ص 351
2 – المصدر نفسه ص 349
3 – الدكتور حكمت الألوسي، محاضرات على طلبة الماجستير في معهد البحوث والدراسات العربية بغداد 1986 ـ ص 24
4 – طبقات النحويين واللغويين ـ سلامة اللغة العربية ص 19
5 – عبد العزيز عبد الله ـ سلامة اللغة العربية ص 146
6 – المصدر نفسه
7 – الرافعي ـ تاريخ اداب العرب ص 234
8 – محمد عطية الابراشي ـ لغة العرب ص 14
9 – أحمد أمين ـ ظهر الاسلام ج2 ص99، ص 122
10 – الدكتور محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الادب المعاصر ج2 ص 355
11 – ديوان حافظ ابراهيم ج1 ص 253
12 – مصطفى لطفي المنفلوطي “النظرات” ج3 ص 37
13 – مقالات المعلوف ج1 ـ ج2 ـ ج3 ـ ج4 بتاريخ: 1934 ـ 1936 ـ 1937 ـ مجلة مجمع اللغة العربية بالقاهرة
14 – د. محمد محمد حسين ـ مصدر سابق ـ ج2 ـ ص 362 ـ بيروت 1970