مسابقة الأدب العربي ـ جائزة مارون عبود – الدورة الثانية 2021
الجائزة الثالثة
يقوم مركز ذرا للدراسات والابحاث بباريس على تنظيم الأنشطة والفعاليات التي تبرز الادب العربي في كافة جوانبه ومن ذلك مسابقة الأدب العربي التي أفردت نسختها الثانية للنصوص القصيرة لغير المحترفين وإستهدفت الهواة، تم الإختيار النهائي للنصوص الفائزة الثلاث:
الأولى: محاكمة فيروس كورونا ـ عصام إسماعيل الضبع من مصر
الثانية: مناجاة من تحت الركام ـ نور رؤوف سمكو من العراق
الثالثة: برقيات عشقية ـ سجى سامي حمدان من فلسطين
مسؤول القسم الثقافي
برقياتٌ عشقية
سجى سامي حمدان
المكان والزمان: المقعد الرابع، الصف الخامس الابتدائي.
كانت قد شرعت معلمة اللغة العربية بشرح أنواع الرسائل وأركانها حتى وصلتْ النوع الثالث: “البرقية”، لم أستطع يومها كبح ملامح الصاعقة على وجهي: أن كيف تبعث أم الجندي أو محبوبته برقية تتكون من خمس كلمات أو أقل خلال الحرب؟ كيف يمكن لهذه الأم أن تختزل مشاعر وحدتها واشتياقها وقلقها في هذا العدد من الكلمات فقط؟
كنت أظن وقتئذٍ أنَّنا خلال الحرب يجب أن نقول كل ما يعترك صدورنا دون استثناء، موظفين في سبيل ذلك كل ما ورد في معاجم العربية وما لم يرد، فهذه لحظةٌ أخيرة؛ تقولُ فيها أو لا تقول.. تلك هي المسألة.
كبرتُ، وعرفتُ الحروب، حدث أن ركضتُ وجسدي مشبعٌ بالأدرينالين إثر انفجارٍ ما، استيقظتُ في ليالٍ عديدة خلال محاولة الطائرات تحويل الحياة إلى ردم.. حتى أنه ذات مرة باغتني الانفجار وأنا عاكفةٌ على دفتري أكتب، ركضتُ مفزوعةً، وعندما عدت إلى مكتبي وجدت الكلمة لا زالت في المنتصف.. لم أكملها؛ أبقيت الألف على اعوجاج استقامتها، تركتها دليلاً، توثيقاً خفياً لن يستطيع المحقق كونان –بعظم قدره-فك لغزه.
الصف الخامس بالذات لا أنساه، لا لأن الأمهات ما فتئنَّ من تقديم الشكاوى بأن منهاجه قد وضعه “علماء”، وأن صعوبته لم تسبق وأن حصلت، لكنه كان اصطدامي الأول مع الحياة..
واقفةً في منتصف الشارع الرئيسي اتأففُ من طول انتظاري، ناقمةً على الباص المدرسي الذي سيأخرني عن الاختبار، حين دقت “ساعةُ الصفر”، الدخان الأسود يعلو السماء من اليمين والشمال، زجاجُ النوافذ يسقط فوق رأسي، الناس تركض، وحدي كنت واقفة “أعيشُ اللحظة” قبل أن تُداهمني قدماي بالإقلاع دون أمرٍ من عقلي بهذا، لا أنظر ورائي، غير آبهةٍ بالوشاح الذي سقط عن عنقي فألقيت عليه نظرةً وكررت الركض..
ذاك الوقت.. كنت صغيرةً جداً على إدراكي أن ما حدث لي “حلاوةَ روح”..
وإنْ لم أعرف المصطلح فيما بعد؛ لبقي ككثير من المشاعر المجهولة التي لا نجدُ لها توصيفاً ينصفها..
كبرت ورأيت ما هو أصعب من الصف الخامس، لكن موضوع “البرقية” ظل مسيطراً عليّ لفترة طويلة..
قد كانت الأمور تبدو معقدة، لم تزل كذلك..
ماذا إن تأخر الرد؟ وطال الانتظار؟ والقلب مأخوذٌ بجلبته وهو معذورٌ لهذا..
لربما حين وصلت رسالتها كانت كلماتها مدداً يحارب أفضل من مئة جنديٍّ مُدرَّب، ذلك أنها حملت قلباً عاشقاً؛ ورسائل العاشقين تصلُّ آخر الدنيا دون وسيلة اتصال..
ماذا لو ضاعت الرسالة بين أكوام البريد، وظن العاشق أنَّهُ منسيٌّ فحزن، فسَمَحَ لأيّ رصاصةٍ أن تستقر بقلبه؟
ماذا لو وصلت إلى مقر الجيش؟ وخرج الجندي للحرب قبل استلامها بدقيقةٍ واحدة؟ هل يعود لقرائتها؟ أم تعود الرسالةُ وحدَها؟
ماذا إن قرأها ولم يُسعفه الوقت لإرسال الجواب، ثم قُتِلَ المُحاربُ والردُّ في جيب بزته العسكرية فقطع الموتُ طريقَ الرسالة؟ هل تقيم الكلمات الحداد حينها وتنتحبُ داخل الورقة.. بجوار قلبه؟ كيف للكلمات أن تبقى مجتمعةً وأشلاءُ صاحبها مبعثرة؟
قائده في الجيش .. أسيسلمها الورقة كباقي أشياء الجندي المقتول؟ كيف؟ وما هو المشهد؟
كبرتُ بما يكفي لأدرك كيف نركض طرق الحياة بقلوبنا، وأن القدمين هما وسيلة لذلك ليس إلا..
وأن الكلمات التي نسطرها خلال الحرب بين انفجارين لا يُسعفنا فيها الوقت لكتابة كل شيء، وإنما كلمة.. تجر ورائها ما تجر من مخاوف، عواطف، أو اطمئنان!
ومن هنا وجدت القناعة أن ليست بكمية ما نكتب، بل بما يخفي ورائه ويعلن لقارئه، ما بين الحروف، ما بعد الكلمات من معاني..من شغف!
هي لا تريد أن تعلمه سوى أنها بخير، ولا تريدُ سوى أن تعلم أنه كذلك، وباقي التفاصيل لا تهم، هذا إن كان الاثنان على قيدٍ سارٍ من الحياة.
كثيرةٌ هي الاحتمالات، وواحدةٌ هي الحقيقة:
لا تلميحَ في الحرب، ولا سرَّ يُخبأ.. إنَّهُ وقتُ التصريح المحضّ!