تجربة حارث الضاري و ذكاء علي الدحام
تجربة حارث الضاري وذكاء علي الدحام
د. علي القحيص
لكل إنسان سيرته، ولكل رجل تحربته، ولكل دولة رجال وزمان ،التجربة الثرية والسيرة التاريخية والدينية والإجتماعية الغنية للشيخ الدكتور حارث بن سليمان الضاري آل محمود ، الأمين العام لهيئة علماء المسلمين بالعراق وشيخ عشيرة زوبع من قبيلة شمر، تستحق أن ترصد وتسجل وتدرس، لأهميتها ومكانتها وتأثيرها، كونه سليل عائلة تاريخية كريمة وطنية راسخة، مشهود لها بالتضحية والفداء والنضال.
( 1941_ 2015).
كما أن تجربة وخبرة وتضحية وذكاء وفطنة وفراسة صديقه وصديقي الراحل، الشيخ علي الدحام العبدالعزيز المصطفى، شيخ قبيلة العبيد و أهم فرسانها، المشهود له بالدفاع عن وطنه ومواقفه الوطنية والقومية العروبية المشرفه ، أيضا تستحق الإشادة والتأمل والتوقف عندها جليا وطويلا.
( .1934- 2011).
لقد تشرفت وسعدت أن التقي بهما فرادى ومجتمعين، في بغداد والأردن ودولة الإمارات، نجلس معا في منزل ابو مثنى أو ابو فارس أو يزوراني احيانا في منزلي المتواضع جدا في عمان ، وكلما نجلس ونتسامر ونتسارر بالحديث المعمق الطويل المتشعب، وطرح الرؤى والمشورة وتبادل الأحاديث والآراء والتباحث في قضايا شتى، شمالا وجنوبا شرقا وغربا، وحتى حين يختلفان معا تجدهما كما الجبال الراسية حين تتلاقى، من كبر بأسهما وعنفوان كبريائهما ووزنها الثقيل الراجح، رجال خلص من طراز خاص جدا، في النبل والصدق والمرجلة والشهامة والمروءة ، فيهما من النخوة المتناهية ، والعزة العالية المتواصلة التي لاتنقطع أو تضعف، وملامح الكرامة المفعمة التي لا تنثني ابدا أمام عاديات الزمن، المرصعةبالأنفة والغيرة وفرط الحمية، والتواضع الجم وحفظ المعروف والجاه الكبير ، كنا نسرد الأحاديث برمتها، ونفلي التاريخ وننبش السير ونبحث في بطون الكتب وما تحفظه ذاكرتنا، وهما يسترجعان ذكرياتهما الغنية بالتجربة والبطولة والبراهين والمواقف الوطنية المعروفة، التي لا تشيبها شائبة، ولا تخدشها نواقص، وكنت أحاول أن التقط بعض أفكارهما الكبيرة والنيرة، لأبني عليها وأقارنها مع واقعنا المرير حاليا ما يجعلنا نتوصل إلى تنبؤات قادمة، لا يصلح الإفصاح عنها لوقتها الحالي. كانت لهما في تلك المرحلة آراء ثاقبة، وأنا شاهد عليها ومؤتمن على مر السنوات التي قضيتها معهما قبل عقود من الزمن .
وحين كنا نقرأ ونستنتج العبر ونقارن زمن الطيبين الماضي مع زمن الخذلان ، كانا يردان علي بالجواب (الله يعينك)، نحن اوشكنا على مشارف هاوية نهاية العمر ولعلنا نرحل مبكرا أفضل لنا مما نرى وقتا أسوأ مما نحن فيه الآن، لاننا لا نستطيع أن نترك ماضينا أو أن ننسلخ عن تاريخنا الماضي وموروثنا الأصيل، وما تركناه من سير ومواقف وأحداث يعرفها المنصفون ، ولانستطيع أيضا أن نجاري الموجود و نندمج ونتناغم و نعيش في وقت الانبطاح والتملق والكذب والرياء والتزلف الحالي ، نتمنى لك الصمود أو الجمود أمام هذا التيار العالي الجارف المتلون السريع ،لكي لا تتهور أو تتغير لاسمح الله !
كانا كبارا في كل شيء وحكمتهما أكبر، مستذكرين الزمن الماضي الجميل، و مستنكرين الزمن الرمادي الحالي، وتداعياته السلبية المخجلة ، بل ذهب أبو فارس أكثر من ذلك حين قال لي ذكرياتنا سوف (تأذيك كثيرا)، حاول أن تتجاهلها أو تنساها ، لأنها ثقيلة وقاتلة وصعب إستيعابها و هضمها وتحملها !
بينما قال أبو مثنى مضيفا على قول أخيه: سوالفنا هذه لا تنشرها إلا بعد أن نغيب ونرحل!
حقا حين كنت أجلس معهما ساعة كأني قرأت كتابا كاملا، لما كان يمتلكه الرجلان المميزان الكبيران، من مخزون وفكر متقد وارث معرفي وقيم عالية وعلم ديني وثقاقي وشعبي، مفعم بذكريات البطولة والمرجلة والعزة .
حينما يتذكران رجلا مهما ومقداما ينصفانه بحق ، بحكمة بالوصف الصحيح والدقة المتناهية ، وحين يطريان شخصا مسيئا أو رخيصا، فإنهما لا يضيعان الوقت بتشخيص حالته السيئة ، لأنه لا يستحق مضيعة الوقت، ولايستحق التوقف عنده.
لقد عاشا عزيزين ،جالسا وقارعا ملوكا وقادة كبار ورؤساء وأمراء وشيوخا وحكام دول وزعماء قبائل ، ولم ينثنيا عن مسيرة طريقهما الظافرة النظيفة المطرزة بالصدق والمكرسة بالنزاهة والمعززة بالعفة والطهارة والناموس، رغم اختلافهما في منهجيتهما وتوجهما وافكارهما، ولكن كانت تجمعهما قمة المجد العالية. قامتان تتصارعان على هامة المجد ، وكل ينافس الآخر للعلياء، رحمهما الله تعالى وأسكنهما في عليين .
وكلما أحبطت وأحسست باليأس وضعفت أمام نفسي، وأصبت بانتكاسة وإنكسار من هول السهام التي تطلق علي من أشباه الرجال الصغار والأقزام ، وكلما استصغرت نفسي واحتقرتها، عدت إلى صور الذكريات معهما لأرفع معنوياتي عاليا ، وأصبرها واقول لنفسي لا زلت أنا كبيرا!!
كاتب سعودي