أقرأها
دعني.. أنا لا شيَء , لا مُنتـمِ
ظمــــآنُ لم يبتلََّ يومــــاً فمــي
دعني.. فما أبصرتُ مِن عالمي
غيرَ السرابِ الــخادعِ المــــؤلمِ
و لــم أرَ الـــدُنيا ســـــوى زورقٍ
يسيرُ فوقَ الدمـــــعِ, فوقَ الدمِ
الشاعر الكبير مُصطفى الجوزو/ زوارقَ العبير
أ.حراء موسى
البُعد الرفيق الأوفى للحُب.. كما الرذيلة , شهياً.
بمحاذاة شفتيها, وحدهُ الموت ليسَ كافياً لكيي لظى اللهفة.. فحقن دماء مدينة لن يُخلفَ دون ذاكرة بِلا قبور..
بمحاذاة رغبتها , البصرَ ضوءٌ عارٍ أما البصيرة فهيَ ظُلمة مُهندمة.
أرض لم تُدرك اليُتم.. هي أرضٌ مُصادرة للخوف , أرض مهما قد تجاوز شبق عُمرانها أسقفُ السماء يظلَ أيلاً.. لا للاندثار بل للخيبة المطلقة.. فالمُدن التي لا تُعمد أحلامها بالدم, هي مُدن لم تُدرك الحياة بعد.
الواحدة بتوقيتِ الخوف
نظر إلى الساعةِ المعلقة على الجدارِ, لم يبق الكثير على توابيتِ النسيانِ .. لتُغادر محملة بحواسهِ. لهُ أن يسرقَ بعض التواريخ مِن ذاكرته.. لهُ أن يتشبث ببعضٍ مِنه سيبلغ سِنَ الفراغ بعدَ ساعاتٍ قليلة ٍ مِن النهبِ المُعلن.
أخرج وريقاتهُ المخبأ أسفل سريره , و كان قد عنونها ذات هزيمة بـ أسمٍ كان له ذات ولادة, ظنوا إنها ولادته..
ثُم غابَ مدوناً:
الواحدة بتوقيتِ الوطن,
تقول المذكرة إن اليوم هو الأول مِن شهرِ أب مِن عامٍ لا أدري كم بلغ الشعبَ فيهِ حُزناً لكنني لا أجزم خبرَ وفاتهِ!
أكتُب محاولاً لملمة رفاتي.. لستُ مُشيعاً, بل وفاءاً لأرضٍ رهنت ذاكرتي للموت , و ما أكتفت بسلبي لُغتي بل أخلفتني مجنوناً .
قلب صفحتاً جديدتاً .. مواصلاً:
طوفان دماءنا ضريبة الانتماء إلى الوطن.
نحنُ التائهون بين مسجدٍ و كنيسه.. بينَ وطنٍ و مذهب, نحنُ السائرون مع خط الصمت خوفاً مِن البتر المعلن. تُرى أيعدُ العراقي عراقياً إذا عاش دونَ أن يُسلب دمه, حُلمه.. و حتى ربه؟. تُرى أطالت قامة البهجة فلسنا نراها على أطرافِ أصابعنا.. أم إن وطن التاريخ.. لملم سريره و رحل؟
لستُ أدري.. لستُ ادري.
لكنني أدرك, إن الموت قد قاسمنا لقائنا الذي مضى و الذي قبله و الذي سيبتلَ لحظة تيه. نقف صامتين أمام الحقيقة, مشردين بعنفوان مديد.. نُربت على أكتافِ إخفاقاتنا بتهكم , مسألين أشجار النخيل و أصوات أطفال الطرقات عن رصاصٍ.. نرفضُ الاعترافَ بحضورهِ أحاديثنا دوماً.
مَن نحنُ؟ عاشقان؟ موطنان؟ نهران؟
نحنُ الذين ما تقاطعت أقدارُنا بل قطعتنا. نحنُ الذين قد خلعنا عنا أوجاعنا تحتَ سقف كذبةِ.. مثلٌ قد قرأتهُ في كتابٍ و حكايةٍ سمعتها مِن حكواتي الحارة . نحنُ مجرد أروقة لن يطأ غير الفقدِ بلاطُ أمالها.
ما مِن بدايات لا شيء يُدعى مُنطلق بل هُنالك خيار و رحمة الحياة.
الثانية بتوقيت الحُب
قلبَ الصفحة :
لستُ أدري مِن أي نخلات العراق قد خُلقت لتبدوا بكُلَ هذهِ الفتنه.. غِرار إلهٍ اغريقية لم يُعرفَ سبيلاً لكتابتها ضِمنَ تاريخ المُدن..
هل لكِ أن تعفيني عَن هواكِ يا موطنَ الياسمين و ضريح السُدم؟. هل لكِ أن تبتريني مِن سريركِ ليلة المعراجِ إلى المِلن؟.. غربلتني عَيناكِ, أنا المحتومَ في صفادَ النصرِ, بُت تائهاً ولهاناً يبحثُ عَن حُضنكِ بينَ وجوهِ النساء.. بين المحن!.
قُلتِ وأنتِ تخلعين أحد قرطيكِ:
-وحدهُ الورد ليسَ كافياً ليطفأ فتيل قبرٍ, ما نالَ ساكنهُ مِن الحياة سوى مِتراً و نصف مِن الحق.
-الحق خديعة الجوع.. محاولة للتربيت على كَتفِ الحقيقة,
محاولة للتراضي مع الشظف!.
واصلتِ و أنتِ تخلعين القرط الأخر:
-و هل أبخسَ مِن عصرٍ يبكي جيلهُ شوقاً لأيامٍ عُجاف لَم تُبارِ عرضَ أمله؟, و هل أكره مِن أرضٍ يبكي فيها اليتيمُ شرفهِ قبل أهلهِ؟
وقفتِ دونَ أن ترحمِ ارتجافِ الأرضِ تحتك, لتُغلقي ستائراً اشتاقت لتقبيلَ أطرافَ أصابعك ..
-بالطبعِ هُنالكَ أشر مِن ذلك..
سمرتِ نظركِ نحوي باهتمام:
-عصرٌ لم تطأ قدماكِ.. مُناه!
تَلومين موطناً قد نهبَ أرواحَ شعبه, مُتغافلة عَن جريمة اختلاسكِ كوني..
ها أنتِ كما المُدن العربية تُتوضئين بدمي.. و ذات لحظة سُتلقيني جُثتاً تائه لاقترافي فعلُ حُب.
– حتماً.. الشهداء هُم فعلُ حُب!
فعلٌ كان الدم لهُ الحظ الأوفر في اعتلائه.. أما الموت فهو ردِ الفعل المناسب لهذهِ الولاء..
بينما أنتَ .. فقد تعلمنا السلبَ مِن الوطنِ, لا تُسألني كيف ملكتُ قلبك..
كاتب لعين.
قُلتِ و أنتِ تدسين رأسكِ في كتابٍ, أدرك جيداً إن مواربة أخرى معك سيخبطَ رأسي.
الثالثة بتوقيت النشوة
بالقربِ مني..
شهية.. كلغة.
كدجلةٍ شتاءً.
كحقٍ في الوطن.
يسرقَُ النعاسَُ عينيكِ.. أراهُ حائراً, كعادته.. قد أضاع الدربَ بين أجفانك. أكادُ أسمع أصوات صلواتهِ, ليسَ لإنهاء مأزقهِ, بل ليدوم طويلاً!
/الرابعة بتوقيتكِ/
بمحاذاة شفتيكِ: النساء و الدم.. حروب لطالما خسِرها الوطن!
بالقربِ مِني, تغطين في النوم: تتسلل الفراشات إلى مدينتنا, تُشاطرني الهزيمة أمام خُصلاتكِ السمراء.
أعذريني : لأنني قد أحببتك فقلبي لم يولدَ في محطاتٍ و لا يعرفَ كيفَ يقطعُ التذاكر, لكنهُ يحفظُ طرقات القوافي وكيفَ تأن القصائد. قد لا تسمعين ضجيج قلبي, لكن لي أن أسمعه.. هُنالك حروب كثيرةٌ داخلي, حروب جميلة, حروبٍ تأبى السلام, و ها أنا كلغتي شهيدك .. و ما اللغة؟ : اللغة ظلٌ فار, حقيقة خائفة.
أما نحنُ معشر الكُتاب جموع غفيرةٍ مِن الأحرفِ المهزومة, تأبى الانصياع وراء الأمان المُطلق.
بمحاذاة شفتيكِ: المُدن كما الحُب لا تعرف سبيلاً للخلود سوى قتلِ عُشاقها. فإن لم تنل الشهادة في سبيل امرأة ستُكفن بعِطرِ أزقةِ عبراتِ الوطن.
مؤرقة, مورقة, امرأة ولدت مِن عصورٍ لا أثر لمرورها, و لا أدلة .
مدينة تحترفُ الصمت , تُجيد نزع المُهجِ مِنكَ.. سرقة الضوء مِن خافقك, مُخلفةً حواسك جثثٌ صامته وليس هامدة, فهي لا تشتهي سوى حقنِ تاريخها المسلوب بالأصوات*.. فطالما كان الصوتِ الرفيق الألذ لاندثارِنا.
بمحاذاة شفتيكِ: حتماً لنا أن نسمع أنين القبور.. عويل الكفن!.
أدركَ مباغتةَ الوطن لي. أعلمُ إنني لستُ إلا ضحكة عابرة, شهوة قصيرة قامة تدفقها, ولربما انتصار صغير.. تعلقٌ سيان حضورهُ مِن الرحيلِ.. ففي النهايةِ ستنتهي كُل هذهِ النشوة بصفعةٍ مِن الحقيقة, و ستُغلق الستائر.. و تلفظ الموسيقى, لكنني ألحُ على عيشِ السراب, ألحُ أن أكون غمامةً تنتظرُ الشتاء وورقة تنتظرُ القلم.. ليسَ بلاهتاً, بل إباء. فأنتِ مجرتي الصغيرة, أرضي الخضراء, حمائم النهرِ و الجداول و المنازل و ضحكةِ الأطفال و خاتمةِ القوافي.. كيفَ لي؟, مِن أين لي؟ أن أبتدأ التناهي.. تُرى مِن عينيكِ اللتين تختصران كُلِ خيباتِ الوطن.. أم مِن مذابح وجنتيكِ؟.
بمحاذاة شفتيكِ: الغوثُ يا رب, الغوث.
الصمت حدود نقيمها كي لا ننكسر أكثر, محاولة للحفاظ على أعناق قلوبِنا مِن البترِ,
إلا صمتُ المُدن ليلاً.. فهو هُدن.
بمحاذاة شفاهكِ: لم تُسدلِ ضفائركِ , بل أطنبتِ ضفافَ الفُراتِ!
الأمرُ أشبه بتيه, تيه طويل مِن اللا انتماء.. أن تولدَ و قد أنجبَ ماضيكَ و قبرك قبلك, أن تحيى سائراً كالأبله في واقعٍ لستَ تملكهُ لكنهُ يملُكك, أن تحيى على هٌيامٍ , أجبنٌ أنتَ مِن أن تبوحَ فيهِ لقلبك.
أكتبُ أنا لأكبحَ الانهيار, الاستسلام.. لا أبحث عن من يُربتُ على كتفي بل لِمن يستمع . فالبوح الصريح يُزيدَ الشاطئ عُمقاً و أنا أكتبُ يا سيدتي خوفاً مِن أن تُلملم رِمالي ثوبها داخل البحر. فالوقت يسير دونَ أن يلتفت و بدوري .. لي و لصمودي أُفلت . تبدأ مُنجراً خلفَ أمنية ولدت لحظة خوف وقُتلت ذات اللحظة.. فتُشركَ بمنطقك مِن أجلَ إحياء رمادها. القليل للضُعفاءِ حتماً, ولكن مِن أين لنا بالكثير و قد غدا العُلا بسيما الدم؟!.
صمتَ الفقد أكثر صُخباً مِن أن يُنضد بلغة . لكن على شُرفة الرِشا* يُمكن أن يحدُثَ كُل شيء, يغوصُ طائرُ السنونو و يطيرُ السمكُ.
بمحاذاة شفتيكِ: جميلةٌ أنتِ.. كآذان الفجر.
الخامسة بتوقيت الحقيقة
ما الحقيقة؟ : الحقيقة جُملٌ بلا حياء, جملٌ قد بلغت سِن الواقع.
بغدادي.
أنقُلَ لكي رسائل حُزني بالورق الممُزق, فما عاد للزواجلِ أن تحمِلَ رسائل بؤسي وما عادت السماءِ كفيلتاً بأن تُهدي للحمامِ أمانهُ. . أكتبُ لكي مِن أمام الجدار و قد طفح النسيانِ بأوصالي, قطعاً , لم يعلَ اعتقادك فلم يضربَ العُمر بي صدعَ الهرم بعد. إنهُ فقط يُعاقبني لانتهاك ِ خطوط السرد, إنهُ يحولَ بي لأنني قد أحببتكِ كــ امرأة و ليسَ فقط كمدينة.. فقد عزَ علي كثيراً أن أدعَ الشعراء و القراء و الشعبَ أن ينعاكِ, أن ينعى ماضيكِ .. أن يبكِ افتتاناً يظنونَ رحيله, عزَ علي كثيراً أن قتلك كما فعلوا, أن أنساكِ كما يرغبون, أن أحرقك كما يعزمون.
بغدادي.
قد ذبُلَ الورد.. صارَ شُتاتاً, يضحك على قبرهِ المارة و تتوضأ برمادهِ الأماني لتسجد لِما ليست لهُ لكنها مُلكه.
بغدادي.
ذبُلَ الصمت.. صارَ كفناً, لوجع لا بُدَ مِنه.. لموتٍ لابُدَ عليهِ.
أما القلب فقد صارَ يتيماً و بلغَ مِن الحُبِ الردى. . و لا شيء يشفعَ, لا حولَ ينفعَ و لا قول فقد ماتَ الحُلمَ ليعيش الوطن.. ليعيشَ الآلم.
/الخامسة و النصف بتوقيتَ الشهادتين/
طرق أحدهم الباب.. خبأ وريقاتهُ تحتَ الغطاء على عجلٍ , قال:
-أدخل.
دخل شاب بملامح باردة قد أكتسى البياض جسده, كان المُمرض:
-سيدي, لديكَ موعد للعِلاج بالصدمة الكهربائية بعدَ نصف ساعة مِن الأن, جهز حالك.. راجياً عدم المقاومة, فهنالك قائمة طويلة مِن المرضى بعدك.
أومأ برأسه إليه. ثُم عادَ إلى أورقتهُ ثُم قلب صفحة بيضاء وكتب في منتصف الصفحة:
الضربات هي الأخرى لها حقٌ علينا بالحفاظِ على حُرمتِها, فلا تكتفِ بزجنا في غياهبها فقط بل تُعرينا مِما بقي لنا مِن أضغاثِ كرامة.
جمع الأوراق مُنضداً ثُم خبأها تحتَ السرير. ملصقاً قصاصة صغيرة تحت غِطاءِ كأس الماء قد وضعت عليها كلمات بحبرٍ أحمر:
تحتَ السرير أوراق, أقرأها
كاتبة من العراق