الأصول النظرية للتجزئة العربية
د. قيس محمد نوري
مدخل
لا شك في أن التجزئة للتكوين المجتمعي الواحد، سواء كانت بفعل عوامل ومؤثرات خارجية، أو بسبب عوامل داخلية بنيوية، هي فعل شاذ سوف يفضي إلى قرينه الأكيد، التخلف، لأن التجزئة هنا إنما تعني الانتقاص من التكامل والتوحد، بمدياته المتعددة، السياسية، والاقتصادية، والاجتماعية، والثقافية، والعسكرية.
إن الجزء أو مجموعة الأجزاء المتباعدة، حدّ الاحتراب، بتأثير الفعل الخارجي، وبتأثيرات العطب البنيوي النظمي العربي، لا تستطيع غير تكريس التخلف بأشكاله المتعددة. وإذا كانت العوامل، والمؤثرات الخارجية، لعبت دورها الكبير في تجزئة الأمة وتخلفها، عبر مراحل وصور متعددة، فإن العوامل الداخلية في البنية العربية، لعبت هي الأخرى دورها في الإبقاء على هذا الوضع الشاذ لحال الأمة، من خلال إفرازات “النظم” وقيمها ذات الجوهر القطري، الذي استمد مشروعيته التجزيئية من الأسس الاستعمارية في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، بحيث تحولت خطوط سايكس ـ بيكو إلى مقدسات يرتقي الإبقاء عليها حد الاحتراب. وبذلك فإن ((التعددية النظمية)) في الجسد العربي تستند إلى تفعيل خارجي اتسم بالعداء التاريخي للأمة، وهي بذلك ، النظم، لا تستند إلى مشروعية قومية، بل إلى نظرة قاصرة وعاجزة، يغلب عليها طابع ((الأنا))، ثم تطورت في بنائها حتى وصلت إلى ((إقطاعية سياسية)) في بعض أشكالها، ثم إلى إقطاعية عشائرية في حالات أخرى، وإقطاعيات أسرية، أبوية في حالات غالبة.
ثمة سؤال يكاد يكون لازمة، ويطرح نفسه بقوة: لماذا تتسم السياسات الغربية عموماً، بالعدوانية عندما يتعلق الأمر بالعرب؟ تلك العدوانية المعبَرعنها بأشكال وصيغ متعددة، متغيرة في الوقت نفسه بحسب ظرفية الزمان والمكان، إلا إنها ذات جوهر واحد يتجدد باستمرار، ويحافظ على مكانته مؤكداً حقيقة تتسم بالقوة، ألا وهي استمرارية الصراع وديمومته)[i]).
ولكي نستقرئ الجديد في السياسات الغربية تجاه المنطقة العربية، استقراء موضوعياً، لابد لنا من عودة إلى الأصول الفكرية وراء تلك السياسات، لأن الجديد يولد في شق مهم منه، من رحم القديم، وفي شق آخر، من المستجدات التي تطرحها الأحداث، بمعنى أن هناك ثوابت وهناك متغيرات، فالثابت هـنا هو الأصول الفكرية (المنطلقات)، والمتغير هو ما يفرزه المستجد ليطوح ثانية ليصب في خدمة الثابت. ولعل من أبرز الثوابت في الاستراتيجيات الغربية في ما يتعلق بتعاملها مع المنطقة العربية، هو الإصرار على ديمومة الفعل السياسي المنظم باتجاه تجزئة الوطن العربي إلى وحدات سياسية وكيانات لا تمتلك بمفردها عناصر القوة الكافية للدولة، مفتعلة في الوقت نفسه (وفق أسس محسوبة) حواجز متعددة عملت على تكريسها وصولاً بها إلى الدولة القطرية، التي اتضحت معالمها عقب الحرب العالمية الأولى بالخطوط الحمراء التي نعرفها. ولكي نفهم سياسات الغرب في عالمنا المعاصر، لا بد لنا من عودة إلى الأصول الفكرية له، التي عبرت عنها التنظيرات الغربية التي استند إليها مجمل الحركات الاستعمارية وما أفرزته من نتائج تجزيئية يعانيها العرب، وسوف يعانونها مستقبلاً في حال غياب المدركات الضرورية للوحدة كرد عملي وحيد لبناء المستقبل، والضرورية للعرب.
أولاً: الأصول الفكرية للسياسات الغربية تجاه العرب)[ii])
إن التجزئة كانت دوماً هدفاً أساسياً تمحورت حوله كتابات المفكرين الغربيين عند تناولهم الشرق بشكل عام، والوطن العربي، بهويته العربية والإسلامية بشكل خاص، لأهداف ومبررات عديدة كانت بداياتها أهمية الموقع على الطرق الاستراتيجية نحو المستعمرات، ومن ثم لتصاغ الأهداف نفسها في العصر الحديث لاعتبارات أملتها طبيعة التطور الذي وصلت إليه حضارة ((الشمال الغني)) ومستلزماتها الضرورية، وفي المقدمة منها الطاقة.
حتى الموضوعية التي اتسمت بها دراسات الغربيين عن العالم الإسلامي في القرن الثامن عشر كانت قد ارتبطت، ولاسيما في المراحل المتأخرة منه، بمتطلبات التوسع الأوروبي، فقد انتهت في الواقع إلى تكوين عقل جبار، مثل عقل فولني (Volney) الذي يشكل كتابه رحلة في سوريا ومصر عام ١٧٨٧ عملاً فكرياً قائماً على التحليل الدقيق للجوانب السياسية والاجتماعية، ولكنه يصب في عصب التوسع الأوروبي يقدر ما كان مشحوناً بالروح العدائية تجاه الإسلام والمؤسسات السياسية الإسلامية التي كانت قائمة في زمانه، ويقدر ما انتهى إلى اعتبار الوطن العربي مكاناً يحتمل أن تتحقق فيه الطموحات الغربية الاستعمارية)[iii]). ومع مجيء حكومة الإدارة، تتجدد آمال فرنسا في مد نفوذها إلى مناطق أخرى في العالم، بما فيها الوطن العربي، وكان بطل هذه الآمال نابليون الذي قام بالحملة الفرنسية على مصر عام 1798. وينبغي أن نتذكر أن فولني هو الذي كان من الناحية المبدئية قد حضّر للحملة المذكورة، وقد اعتمد نابليون اعتماداً كبيراً في حملته هذه على دراساته. ولا شك في أن ذلك كان يكشف عن المضمون التوسعي لهذه الدراسات)[iv]).
أما شاتوبريان فيقول: ((لم تدر الحروب الصليبية حول انقاذ كنسية القيامة وحـسب بل دارت حول معرفة من الذي سينتصر على هذه الأرض)) )[v]). إن الانتصار هنا يعني الاستحواذ على خيرات هذه الأمة التي تفيض أرضها لبنا وعسلا، وهو بهذا لا يخرج عن الأساس الذي وضعه البابا أوربان الثاني عام 1095 في خطبته لحث الصليبيين على التوجه إلى بيت المقدس عندما قال: ((ليست هذه الحرب لاكتساب مدينة واحدة فقط، بيت المقدس، بل هي لكسب أقاليم آسيا كلها مع غناها وخزائنها التي لا تحصى، فاتخذوا وجهة القبر المقدس، وخلصوا الأراضي المقدمة من أيدي المختلسين وأنتم املكوها لذواتكم، فهذه الأرض كما قالت التوراة تفيض لبنا وعسلا)) )[vi])
وشاتوبريان لم يتردد في القول بأن الفتح الغربي للشرق ليس فتحاً، بل حرية، والشرق في نظر لامارتين يولد من جديد، وتملك أوروبا الحق في حكمه: ((هذا النمط من الحكم محدداً بهذه الطريقة، ومؤسساً بوصفه حقاً أوروبيا، سيتكون بشكل رئيسي من حق احتلال أرض أو أخرى، وكذلك الشواطئ، من أجل تأسيس إما مدن حرة هناك، أو مستعمرات أوروبية ومرافئ تجارية)) )[vii])
إن طبيعة وجوهر السياسات الغربية في الشرق والوطن العربي تحديداً، تنطلق من نظرة الغرب إلى الثقافة العربية والإسلامية باعتبارها ثقافة عدوة، وهذا العدو لا بد من محاريته واحتلال أرضه وتجزئتها كلما استطاع الغرب سبيلاً إلى ذلك. هذا كله ينطلق من نظرة استعلائية وإحساس عنصري بالتفوق جوهره ودوافعه ((المركزية الأوروبية)) وضمن هذا الإطار فقط نستطيع أن نفهم احتلال فرنسا الجزائر (۱۸۳۰) وانكلترا عدن (۱۸۳۹) والتخطيط لاحتلال مناطق أخرى من الوطن العربي، ولا سيما بعد الجهود الاستكشافية التي قام بها المختصون بهذه المناطق، وبشكل خاص جهود عالم الانثروبولوجيا بورکاردت (Burkhardt) الذي طاف الجزيرة العربية وزار منابع النيل)[viii]).
كان الفكر الغربي، على الدوام، متحفزاً لتطويق أية بادرة نهوس عربية أو إسلامية على الأرض العربية، بغض النظر عمن يتولاها، فهي خطر على الحضارة الأوروبية، وهذا الخطر يستوجب التحريض بشن الحرب لإجهاض مثل هذه البادرة، ومن ثم فرض منطق الغرب وحضارته، والهدف دائماً الاستحواذ، وقد عبّر عن هذا الأمر بدقة المفكر الاقتصادي فردريك ليـت (Freiderick List) بشأن إدارة محمد علي في دراسة أعدها سنة 1834 وخصصها لآسيا، أكد فيها ليست : ((أن القضية هي ليست قضية عرب، بل قضية مصير الحضارة الأوروبية في آسيا. فإذا ما تمكن محمد علي من إقامة إدارة ليبرالية استطاع أن يسيطر على هذه البلاد الواسعة حتى الخليج العربي عند مصب دجلة والفرات)). ثم يقول: ((على ألمانيا أن تلعب دوراً فعالاً في يوم ما، وأن يكون لها نصيب في اقتسام آسيا لخير الحضارة الأوروبية)) )[ix])
بهذا تجد ارتباطاً وثيقا ما بين نزعة ((المركزية الأوروبية)) بطابعها التحقيري والتفوق الأوروبي، وفرض الحضارة الأوروبية والاستعمار، فنحن في الواقع إزاء بنية فكرية متكاملة، وبدلالة هذه البنية يتحدد الموقف الأوروبي من العرب. لقد صُورت هذه المنطقة في حيثيات هذا الفكر باعتبارها خواء مهلهلاً، وبالتالي فهي تفتقد الوحدة الجغرافية والوحدة الإقليمية والوحدة التاريخية والوحدة الحضارية.
إن هذه الرؤية ليست فقط تبريرية، وإنما في حقيقتها تمارس عن عمد نوعاً من التغييب لحقائق معاكسة تماماً، وتلغي بنظرة استعلائية قروناً طويلة من العطاء الإنساني للحضارة والهوية العربية الإسلامية ومنجزاتها الكبيرة في مجالات الفكر والعلوم والفلسفة والمنطق.
ثم جاءت الحرب العالمية الأولى التي لا تعدو في حقيقة أهدافها مشروعاً استعمارياً وضع نزعة ((المركزية الأوروبية)) موضع العمل المباشر، هذه النزعة التي تؤكد التباين بين الأوروبي وغيره، وخصوصاً العربي. وهذا التباين هو لصالح الأوروبي، يحقق له السيطرة والهيمنة والاستحواذ، بل يشكل التفاضل دافعاً جمعياً ومبرراً للاستعمار. إن جيمس بلفور، أكد منذ عام ١٩١٠، في محاضرة له، التباين بين الشعوب الأوروبية والشعوب الأخرى، ولاسيما الشعب العربي المصري، ليتخذ منه مبرراً للهيمنة (فالأمم الغربية فور انبثاقها في التاريخ تظهر تباشير القدرة على حكم الذات، لأنها تمتلك مزايا خاصة، وهذا ما يفتقد إليه سكان الشرق). ويتحدث كرومر عن العروق المحكومة، وهذه ((لا تمتلك في ذاتها القدرة على معرفة ما هو خير لها (الافتقار إلى الدقة) الذي يتحلل بسهولة ليصبح انعداماً للحقيقة، في حين أن الأوروبي ذو محاكة عقلية دقيقة وتقديرية للحقائق خال من أي التباس)).
بعد كل هذا، أليس من المبرر أن يخضع الشرقي للغربي؟ إن كرومر كان قد قدم جواباً، وكان الجواب عملياً، إذ تمثل باحتلال إنكلترا مصر. ثم تأتي الحرب العالمية الثانية بأبرز نتائجها من صعود الولايات المتحدة الأمريكية إلى قمة الهرم الغربي لتصبح “مركز القيادة العالمي” وتتصدر على غيرها في قيادة الغرب بكل أبعاده الاستعمارية، وهي لم ترث الأبعاد التجزيئية في الفكر الغربي فقط، وإنما زادت عليه بتأسيس مفاهيم أمريكية جديدة شكّلت إضافات تعتبر في جوهرها امتداداً لكل ما سبقتها إليه أوروبا، وهذه المرة أيضاً كان الإنسان العربي والوطن العربي هو الهدف، كما كان دائما منذ عهد البابا أوربان الثاني.
النظم الغربية، من دون استثناء، وضعت برنامجاً لمعاداة الأفكار القومية العربية، استند إلى خلق عقدة نفسية ـ اجتماعية، غربية مبنية على رؤية سلبية للعرب والإسلام، بدعوى: أن الإسلام من أبرز مصادر الارهاب والعنف والحروب، ومن العوامل المهددة للأمن والاستقرار لشعوب أوروبا ورفاهها، لأنه دين، كما تحاول الدعاية المضادة تصويرة ضد التقدم والتحضر والديمقراطية. هكذا لعبت مؤسسات التربية، ووسائل الدعاية والأحزاب، دوراً سلبياً عبر تكوين الانطباع التالي: إن التحضر والتمدن والتنمية، من سمات الدول الصناعية السبع، وباقي الدول الأوروبية والاسكندنافية، أما بقية الشعوب فتتصف ما بين متوحشة ومتخلفة او في طريقها إلى التنمية)[x]).
وعبر سيكولوجية الخوف من وحدة العرب، برز النظام الامبريالي العالمي الذي عمل على تجزئة الأمة العربية إلى مجموعات ودول متباينة، حيث ظهرت نظم جمهورية ونظم ملكية، فأخذ بعضهم بالنظرية الليبرالية الاقتصادية، وآخرون طبقوا نظريات اشتراكية، وإلى جانب هذا وذاك، برزت أشكال من الإمارات والمشايخ والتجمعات والاتحادات الإقليمية)[xi])
ثانياً: السياسات الغربية المعاصرة تجاه العرب
بين الحربين العالميتين الأولى والثانية صيغت مفاهيم الانتداب والحماية والوصاية، ثم الاحلاف والمعاهدات كصيغ قانونية دولية تحمي وتكرّس عملية الاقتسام وتؤسسها على قاعدة التبعية، إلا أن تلك الصياغات كان قد سبقها فعل استعماري غربي منظم، فقد دشّن التدخل الإنكليزي في مصر واستسلام محمد علي عام ١٨٤٠، بداية عهد جديد في تاريخ البلدان العربية، هو عهد تغلغل الرأسمال الأجنبي المتزايد فيها. ويمكن اعتبار هذا العهد فاتحة الاستعباد الاستعماري للبلدان العربية وعهد تبعيتها الاقتصادية، وكان من نتائجه تحويل الوطن العربي إلى مستعمرات.
إلا أن هذا الاستعباد واجه رفضاً ونزوعاً عربياً نحو التحرر والاستقلال، وقد تجلى هذا المشروع عملاً ونضالاً في ثورة الشريف حسين العربية الكبرى، التي كشفت من ذلك الحين عن عمق العداء بين الوحدة العربية والقوى الاستعمارية العالمية)[xii])
ولعل أبرز مظاهر فعل التجزئة الذي مورس من قبل الغرب في هذه الرحلة، بل أخطره، تمثل في اتفاقية سايكس – بيكو ووعد بلفور.
وقبل أن نشير إلى الأهداف الأساسية التي توختها اتفاقية سايكس - بيكو، نجد من الضروري إلقاء الضوء على الدبلوماسية السرية التي مارستها بريطانيا في ما يتعلق بالتأسيس للمرحلة اللاحقة، فقد كانت تلك الدبلوماسية في ما يختص بالمنطقة العربية وما تمخضت عنها من اتفاقيات ووعود، تطبيقاً عملياً للفعل التجزيئي الغربي تجاه العرب، فعندما أعلن الشريف حسين في تشرين الثاني / نوفمبر 1916 عن تأسيس مملكة عربية مستقلة وتنظيم حكومة عربية، اعترضت بريطانيا على ذلك، على رغم وعودها للشريف حسين، فارسل مكماهون رسالة إلى الحسين أعرب فيها عن سخطه، ومنع نشر الأخبار عن الحكومة العربية في الصحف وغير ذلك من أوامر، وأعلنتا حكومتا انكلترا وفرنسا انهما لا تعترفان بلقب الحسين الجديد ((ملكا على الأمة العربية)) إلا أنهما وافقتا على الاعتراف بالحسين ملكا على الحجاز فقط، وهذا أمر لا ضير فيه عليهما، ولا سيما أن الحجاز (المتأخرة بالنسبة إليهما) بعدد سكانه البالغ 600 ألف سمة (في حينه) لم يكن يغير همهما)[xiii]).
وعندما وصل فيصل إلى باريس في كانون الثاني / يناير 1919 رئيساً للوفد الحجازي إلى مؤتمر الصلح واجه ثلاثة مؤثرات كبرى، تشكل في حقيقتها إفرازاً للسياسة الاستعمارية التي اتبعها الغرب تجاه العرب، وتعمل على مقاومة انجار الآمال العربية، إحداها بريطانيا الاستعمارية في العراق وفلسطين، وثانيها المصلحة الاستعمارية لفرنسا في سوريا، وثالثها – وهو متحد مع الأول – المصلحة الصهيونية في فلسطين)[xiv]). ودارت الخصومة الاستعمارية حول مصير الأراضي العربية الممتدة بين البحر المتوسط حتى الأراضي الفارسية، وتضم سوريا وفلسطين والعراق.
ما الذي فعلته اتفاقية سايكس ـ بيكو؟
إنها استهدفت تمزيق سوريا والعراق وفلسطين، بحيث تمنع قيام نواة دولة الوحدة العربية، وهي غاية أساسية ذات أبعاد استراتيجية استعمارية، وتمثل امتداداً للسياسات الغربية تجاه المنطقة العربية، وتأتي تطبيقاً لمعاداة بريطانيا (مركز القيادة الغربي آنذاك) فكرة قيام دولة عربية مستقرة على الطريق البري الذاهب إلى الهند (كبرى مستعمراتها).
وليس اعتباطاً التركيز على هذه الأجزاء العربية بالذات، لكون سكانها من العرب كانوا أنضج سياسياً وأكثر تطوراً من سكان المناطق العربية الأخرى، لذلك وبغية تقويت الفرصة على العرب لإقامة نواة الدولة العربية الواحدة، تم إحكام السيطرة الاستعمارية من خلال وضعها تحت نظام الحكم الأجنبي المباشر.
ثالثاً: تحديات التنمية التابعة
بعد قيام حركات التحرر الوطني بعد الحرب العالمية الثانية، ونشوء الدولة القطرية، تجددت التبعية للامبريالية مع الشروع في خطط التنمية، فهذه الخطط التي هي شرط أساسي من شروط الاستقلال، اصطدمت بعوائق أهمها حاجة هذه الدول إلى التقانة، وكانت تجربة باندونغ وسياسة الحياد الايجابي تعبيراً عن هذا النزوع، لتجاوز هذا المأزق بعد أن تمرکز انقسام العالم إلى ثنائية من الصراع الدولي بين معسكرين سياسيين، استراتيجيين، ونمطين اقتصاديين وايديولوجيتين عالميتين (شيوعية ورأسمالية).
وهنا أعادت الرأسماليات الغربية، بزعامة الولايات المتحدة الأمريكية، تجديد سيطرتها على العالم من خلال تعثر السياسات الانمائية في دول العالم الثالث، ومنها العربية، وسقوطها في شباك التبعية)[xv]) التي اتخذت وجوهاً عدة أملتها حاجات مختلفة، ومنها القروض والحاجة إلى استخدام الخبراء وشراء التقانة، أضف إلى ذلك بروز بؤر من الحروب الأهلية والإقليمية، كان لها الدور الأكبر في تجدد الامبريالية)[xvi]).
وعندما شُغلت الأجزاء العربية في العقود الأخيرة بالتنمية، وجدت أن التنمية القطرية متعذرة، وأنها توصل إلى طريق مسدود، وأن التنمية في البلدان العربية، إما تكون قومية المنطلق، متكاملة البنيان والأهداف، أو لا تكون)[xvii])، ذلك أن التنمية وفقاً للمنطلقات القومية هي الرد العملي والعقلاني الذي يستجيب لمنطق العصر وضروراته نحو الوحدة والتحديث.
رابعاً: سياسة الولايات المتحدة الأمريكية (مركز القيادة الغربي) تجاه العرب
ليس من شك في أن السياسات التي اتبعتها الولايات المتحدة الأمريكية، منذ أن برزت كقوة قائدة للنظام الرأسمالي بعد الحرب العالمية الثانية، تجاه العرب، تعتبر امتداداً للسياسات الاستعمارية السابقة لها، منطلقة من جوهر واحد لم يتغير، وهو الاستحواذ والاستلاب، وقد عبّرت عنها المواقف الأمريكية من مجمل القضايا المصيرية العربية. إلا أن تلك السياسات كانت تواجه في ظل التوازن الدولي قبل غياب الاتحاد السوفياتي عن مسرح التأثير الدولي، نوعاً من الكوابح حتمتها طبيعة العلاقة بين القطبين المتضادين وهامش حركة كلٍّ منهما، خصوصاً في المناطق الاستراتيجية من العالم، وفي المقدمة منها الوطن العربي.
ليس هنا مجال الحديث عن طبيعة ذلك الصراع وما آل اليه، إلا من حيث استمرار وتواصل السياسات الغربية المعادية للعرب، خصوصاً في ما يتعلق بالسياسات الأمريكية. فمنذ انتهاء الحرب الباردة بين الغرب والسوفيات في نهاية الثمانينيات اخذت تبرر في الولايات المتحدة، وبدرجة قوية، عقيدة عسكرية تخطط للمواجهة مع بعض دول العالم الثالث (والدول العربية من ضمنها) التي تمتلك بعض أسلحة الدمار الشامل أو تخطط لتطويرها أو الحصول عليها في حال حاولت دول كهذه القيام بما يضر بالمصالح الأمريكية)[xviii]). وكانت هذه العقيدة موجودة من قبل، ولكن بدرجة أقل من حيث الشمول والعنف في استعمال القوة، إلا أن انتهاء الحرب الباردة أدى إلى ظهورها بقوة، من حيث نوعية الدول في العالم الثالث الممكن التصادم معها، ومن حيث درجة استخدام القوة لحسم الصراع. ولقد اقتضتها مصلحة المجمع العسكري – الصناعي التي ترى ضرورة الاستمرار في الإنفاق على التسلح، وبنسب عالية، للمحافظة على الأرباح الهائلة الناجمة عن ذلك ، فالمبرر السابق وهو مجابهة الخطر السوفياتي، قد ضعف كثيراً، لذلك ظهرت الحاجة إلى مبرر آخر، واتضح ذلك حين حذر وزير الدفاع الأمريكي في التقرير الذي قدمه إلى الكونغرس في كانون الثاني / يناير 1990 من أن على الولايات المتحدة الأمريكية ((ان تعترف بان التحديات أبعد من أوروبا ستضع أعباء مهمة على قدراتنا الدفاعية)) )[xix]).
وتضمنت الاستراتيجيا الجديدة القضاء على التهديدات بسرعة، وفرض أحدث الأسلحة واستخدامها لتحقيق ذلك، ((باختصار، ستحارب الولايات المتحدة قوى العالم الثالث الصاعدة باستخدام أسلحة مخصصة للحرب مع الاتحاد السوفياتي)) )[xx]).
تجدر الاشارة هنا إلى أن القوى المرشحة للتصادم مع الولايات المتحدة ليست القرى الصاعدة في العالم الثالث فحسب، وإنما أيضاً الدول المنتجة مواد أولية استراتيجية مهمة بالنسبة إلى الرأسمالية الغربية، وبالأخص منها النفط. فالولايات المتحدة عينت نفسها حارساً على هذه المواد وعلى تأمين تدفقها إلى البلدان الغربية، وبأسعار مناسبة.
هذه الخلفية تفسر إلى حد بعيد تصعيد العدوان الأمريكي على العرب في الثمانينيات وأوائل التسعينيات، والأمثلة على ذلك كثيرة ومعروفة، ويمكن ان نذكر منها، على سبيل المثال، إعطاء الولايات المتحدة إسرائيل الضوء الأخضر للاعتداء على لبنان عام ١٩٨٢، والاعتداءات الامريكية المتكررة على ليبيا، كما أن إدراك اسرائيل دعم ادارة ريغان إياها هو الذي شجعها على ضرب المفاعل النووي العراقي في تموز / يوليو ١٩٨١، وهو الذي شجعها على ضم مرتفعات الجولان في كانون الأول / ديسمبر 1981. ومنذ مجيء الرئيس الأمريكي بوش، أصبحت السياسة الأمريكية أسوأ بالنسبة إلى العرب مما كانت عليه خلال إدارة ريغان، إذ حاربت إدارة بوش بصورة نشطة محاولة بعض الأقطار العربية زيادة مناعتها تجاه إسرائيل وطلبت من العرب تقديم المزيد من التنازلات لإسرائيل. ولعلنا نتذكر الرسالة الفجة التي بعث بها بوش إلى القمة العربية الاستثنائية المنعقدة أواخر أيار / بغداد تحت شعار “الأمن القومي العربي” والمخصصة لموضوعين أساسيين، هما هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل والتهديدات الغربية للعراق، وطالب بوش في الرسالة القادة العرب بعدم معارضة هجرة اليهود السوفيات إلى إسرائيل، وبعدم الربط بين نزع الأسلحة الكيماوية ونزع الأسلحة النووية، وبالاعتراف بإسرائيل، فقد طالب العرب عملياً بالرضوخ للهيمنة الاسرائيلية، وبالتخلي عن تطوير أي رادع يحول دون استعمال اسرائيل أسلحتها النووية في حرب محتملة في المستقبل مع العرب، وبالاعتراف بإسرائيل على رغم احتلالها الأراضي العربية.
كل هذا سبق العدوان الأمريكي – الأطلسي على العراق، وبهذا تحققت مخاوف الكثيرين من انتهاء الحرب الباردة، إذ كانت أولى نتائجها عربدة الامبريالية الغربية في حربها العدوانية التي استهدفت تحقيق أهداف عدة تصب في مجملها لصالح الأهداف الغربية ذات الطابع الاستعماري القائم على الاستحواذ.
إن خلفيات العدوانية الأمريكية كثيرة ومتشعبة، ومسبباتها تغوص في أعماق العقلية الغربية تجاه العرب، ودوافعها، وإن بدت جديدة ووليدة المستجدات الدولية والإقليمية، إلا أن الثابت أنها كانت مشروعاً استعمارياً استهدف تحقيق:
– مصالح تتعلق بحماية إسرائيل، وضمان تفوقها العسكري الاقليمي في مواجهة البلدان العربية مجتمعة، من منطلق أنها الحليف الوحيد الذي يمكن الاعتماد عليه، فضلاً عن أن للارتباط الأمريكي بإسرائيل دوافع سياسية ودينية وتاريخية وفكرية تخص فلسفة المجتمع الأمريكي وتوجهاته الداخلية والخارجية)[xxi]).
– مصالح اقتصادية تجارية تتعلق بحماية تدفق النفط وضمان السيطرة الأمريكية على عمليات استخراجه ونقله وتسعيره واستثمار عوائده ضمن حدود تضعها الأهداف الأمريكية (الغربية).
– تجريد العراق من عناصر القوة، وفي المقدمة منها عرقلة انتقاله إلى العالم الصناعي.
– مصالح تتعلق بمنع تحقيق الوحدة العربية، والوقوف في وجه تطلعات العرب نحو الوحدة بعين الريبة بالنسبة إلى مستقبل المصالح الأمريكية، والغربية عموماً، والعمل على تهميش مصالح العرب وأهدافهم وتطلعاتهم، إلا عندما تصب هذه الجوانب في وعاء السياسة الأمريكية والأهداف والمصالح الغربية عموماً.
تأسيس
أمام كل هذا، ما هي سبل الخلاص من التخلف، لصيق واقع الأمة؟
لا شك في أن أول المهمات على هذا الطريق، العمل على صياغة النموذج المعرفي، العربي – الإسلامي، بجوهره الإنساني، ذلك ان التغريب يشكل أهم التحديات التي تواجه الأمة على طريق وحدتها ونهضتها، فالتغريب لا يؤدي إلا إلى تقليد لا يعبّر في مطلق الأحوال عن الحاجات الملحة للامة.
فالتقليد تكرار لصور وأصول كانت وما تزال، عدوانية الهدف والغاية. فالنموذج المعرفي الغربي لم يخفِ أبدأ عدوانيته تجاه الموروث المعرفي والهوية الإسلامية وضروراتها ولازمتها العربية.
التجزئة والتخلف في الواقع العربي حقيقة قائمة، باقية، مترسخة، ما لم يدرك عرب اليوم أن لا خلاص من دون العودة إلى الذات العربية.
– الوعي بالذات، والوعي بالاستهداف الجديد، القديم، وحده الكفيل نحو صياغة المستقبل الذي يليق بالأمة
مفكر وأكاديمي من العراق
([i]) انطر قيس محمد نوري، (( ملامح من السياسات الغربية إزاء المنطقة العربية (دراسة عامة) )) مجلة العلوم السياسية (جامعة بغداد)، السنة 5، العدد ١٢ (تموز/ يوليو ١٩٩٤)
([ii]) قيس محمد نوري، ((سياسة الغنائم في المنطقة العربية، آفاق عربية،)) السنة 17 (تشرين الأول/ أكتوبر ۱۹۹۲)، ص ۱۳ – 18.
[iii])) عبد الرضا الطعان، التطور التاريخي للفكر الغربي المتعلق بالمنطقة العربية (بغداد: دار الشؤون الثقافية، 1987)
[iv])) المصدر نفسه، ص 29.
[v])) المصدر نفسه، ص 29.
[vi])) انتوني ويست، الحروب الصليبية، ترجمة شكري محمود نديم (بغداد: شركة النبراس ومؤسسة فرانکلین، ١٩٦٧)، ص 17.
[vii])) الطعان، المصدر نفسه، ص 31.
[viii])) المصدر نفسه، ص 32.
[ix])) المصدر نفسه، ص 32.
[x])) غازي فيصل، ((الامبريالية الرأسمالية: سياسة تفتيت الوطن العربي،)) آفاق عربية، السنة 17 (تشرين الأول/ أكتوبر 1992)، ص 19.
([xii]) عبدالله عبد الدائم، ((الأيديولوجيات القومية العربية بين التجديد والترشيد والردة،)) المستقبل العربي، السنة 13، العدد141 (تشرين الثاني نوفمبر/ 1990)، ص 5.
([xiii]) فلاديمير لوتسكي، تاريخ الأقطار العربية الحديث، ترجمة عفيف البستاني (موسکو: دار التقديم، ۱۹۷۱)، ص 458.
([xiv]) جورج انطونيوس، يقظة العرب: تاريخ حركة العرب القومية، ترجمة ناصر الدين الأسد وإحسان عباس؛ تقديم نبيه أمين فارس، ط ۲ (بيروت: دار العلم للملايين(1966)، ص ۳۸۷.
([xv]) واجهت التجارب التنموية الدول العالم الثالث، ومنها العربية، مثل فشل المنهج المستقل، حيث عادت إلى تكرار النماذج الاشتراكية والرأسمالية.
([xvi]) وجيه كوثراني، ((ثلاثة أزمة في مشروع النهضة العربية والإسلامية)) المستقبل العربي، السنة 11، العدد 1۲۰ (شباط/ فبراير 1989). ص 5.
([xvii]) عبد الدائم، ((الايديولوجيا القومية العربية بين التجديد والترشيد والردة،)) ص 5
([xviii]) محمد الأطرش، ((أزمة الخليج: جذورها والسياسة الأمريكية تجاهها،)) المستقبل العربي، السنة 11، العدد 155 (كانون الثاني/ يناير ۱۹۹۲)، ص ۲۷.
([xix]) Michel T.Klare “Behind Desert Storm: The New Military Paradigm,” Technology Review (May – June 1991), p.31
[xxi])) يوسف الحسن، البعد الديني في السياسة الأمريكية تجاه الصراع العربي -الصهيوني (دراسة في الحركة المسيحية الأصولية الأمريكية)، سلسلة أطروحات الدكتوراه، 15 (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1990).