الجامع المانع في مذكرات شيخ جامع
للكاتب العراقي عمر علي حيدر
أ.ساجدة الموسوي
في صيف 2021 م صدرت الطبعة الأولى من كتاب (مذكرات شيخ جامع) للصحفي العراقي عمر علي حيدر بالتعاون بين دار دجلة الأكاديمية ودار المرهج بواقع 650 صفحة من القطع الكبير عدا الملاحق ومنها المصادر التي لفتت نظري حيث بلغت 317 كتاباً ودراسة واحدة وعشرون مجلةً وصحيفة وهناك ملحق للصور ، فهل هي مذكرات بمعنى تسجيل السيرة الذاتية للكاتب على مر السنين مع سرد ما مرّ به من أحداث وقصص ومواقف أم هي وقائع وحكايات وضع لها الكاتب إطاراً وعنواناً فنطازياً ليستهوي القارئ كما كنت أظن في البداية؟ فالصحفي عمر حين عرفته في معرض الشارقة للكتاب أول مرة قبل حوالي ثلاث سنوات لايرتدي الملابس التقليدية لشيخ الجامع ، بل كما يبدو شاباً يرتدي الملابس المعاصرة بشكل أنيق ولا لحية له ولا حتى شارب .
ولم تدم حيرتي كثيراً حين علمت أن علي حيدر صحافيٌّ وكاتب تخرج من كلية الشريعة وتوظّف في وزارة الأوقاف ليكون شيخاً لأحد الجوامع في حي العامل ببغداد وارتدى الزي التقليدي لشيخ الجامع ووضع العمامة على رأسه ، في ذات الوقت استمر في عمله الصحفي يكتب في جريدة الزوراء وبعد الاحتلال استمر بوظيفته كشيخ جامع وصحفي يكتب في عدة صحف محلية .
وهذه المذكرات هي سيرته الحقيقية التي لم يراودها ولم يضف لها من خيال الرواة شيئاً ، بدأها من الطفولة حتى 2004 ، ذلك العام الذي قرر فيه مغادرة العراق بعد تعرضه لضغوطات شتى بسبب مواقفه في حماية الناس والوقوف ضد المحتلين .
ولكن سيرته الحياتية لم تأخذ ذلك الحيز الكبير الذي أخذته أيام الاحتلال الأمريكي خلال عامي 2003 ـ 2004 ، حيث وثّق كل مشاهداته وتفاصيل عمله كشيخ جامع وكعراقي يرى بقلبه قبل عينه أحداثاً يشيب لها الطفل الرضيع .
وهو لم يكتفِ بسرد تلك اليوميات المفجعة الموجعة بل دعمها بما ورد من كتب ومصادر سواء كانت موضوعية ومحايدة أم ناقمة وشامتة ، ومنها ما كتبه عراقيون أو عرب أو أجانب ، والملفت أن تلك المصادرمن الكتب التي صدرت بعد احتلال العراق أغلبها يزيد على الثلاثمئة صفحة من خلال ما ورد في الهوامش ، ولعلها أول مذكرات تدعم بهذا العدد من المصادر .
يقول الكاتب عمرعلي حيدر في مقدمة المذكرات :
” هذه الصور التي بين يديك ـ عزيزي القارئ ـ ستنبُضُ بالحياة اليوم ، مع أنها التقطت في أعوام الموت ، أخرجتها لك من صناديق الذاكرة قبل أن يحوّلها الزمان إلى رُكام ، وقبل أن تندثر إلى الأبد شخوص ُبعض من كان جزءاً من ذلك الحدث راغبين أم مُرغمين ” وقال يصفها :
” هي صور اجتماعية أرويها للتاريخ عن مدة حرجة عشناها من تاريخ العراق ، ومضى عليها اليوم قريباً من سبعة عشر عاماً ، وهي تروى عن ذلك الزمان ( 2003 ـ 2004 ) وقبله وبعده بقليل ”
وقبل الغوص في حيثيات ما ورد في الكتاب أود الإشارة إلى الأسلوب الواقعي والسرد الممتع في العرض وخصوصاً في الفصول الأولى التي استخدم فيها السجع الجميل والموحي بخبرته الخطابية كشيخٍ حقيقيٍّ لجامع ، ومقدمة الكتاب التي عنونها ( الخطبة الأولى ) .
لقد فصّل الكاتب مذكراته إلى سبعة فصول غطت كل ما أراد قوله كذكريات لمرحلة عصيبة بل كارثية من تاريخ العراق الحديث فيها الخاص والعام وإشارات لوثائق وشهادات ومصادر سواء أكانت دقيقة فيما طرحته تلك المصادر أو منحازة .
الفصل الأول : الحياة في الجوامع : في هذا الفصل تناول الكاتب كل ما يتعلق بوظيفة شيخ الجامع ، واجباته ، شخصيته وثقافته وسلوكه الاجتماعي أزاء ما يتعرض له من مواقف والمآخذ التي تحسب عليه ، حتى أن هذا الفصل يصلح أن يكون كرّاساً تعليمياً لكل من يمتهن هذه المهنة بما يرضي الله والمجتمع .
ومن طرف ما ذكره ” شيخ الجامع لا يجوز له أن ينام ، فهناك من يأتيه دائماً في أوقات العورة الثلاث بلا فرق بين صيفٍ أوشتاء أو حربٍ أو سلم ، ربما ليستفتيه أمراً أو يحل عنده ضيفاً وقد يأتيه أحدهم بعد الثانية والنصف صباحاً كالورطة ، ويطرق بابه كالشرطة ، وعندما يخرج على الطارق فزعاً وهو يقول : منو ؟ يأتيه الجواب سريعاً : شيخنا عندك تابوت ؟ ” .
الفصل الثاني : الشيخ الصحافي : وفي هذا الفصل يتحدث الكاتب عمر علي حيدر وبشكل جميل وطريف عن طفولته ومشاكساته لأبيه الكاتب والإعلامي المعروف المرحوم علي حيدر ، ويبدأ هذا الفصل بقوله : ” لستُ طارئاً على مهنة الصحافة ، وأنا من أسرة صحافية معروفة فوالدي هو الكاتب الصحافي المعروف علي حيدر صالح ( 1950 ـ 2001 ) كان صحافياً وأديباً بارعاً وقلماً بارزاً ومراسلاً حربياً مرموقاً وثّق لمرحلة مهمة من مراحل تاريخ العراق في الثمانينات ، وقد صال وجال في في الكثير من المجلات والصحف العراقية … ”
ثم أشار إلى أخيه مشرق علي حيدر مواليد 1971 ، الذي نشأ صحافياً بشكل مبكر من حياته وسبق عمر في مجال الصحافة بأعوام .
ويقول ” وعيت على الدنيا ونشأت بين أكداس الكتب والجرائد والمجلات ” ثم يستطرد في ذكرياته وكيف أصبح شيخاً لجامع ولم يغادر العمل الصحفي لأن الصحافة تجري في دمه .
الفصل الثالث ممهدات الاحتلال الأمريكي :
وفيه ركز الكاتب على تأثيرات الحصار الاقتصادي الطويل الذي فرض على العراق عام 91 واستمر ثلاثة عشر عاماً ، والذي جعل العراق منعزلاَ عن العالم وبدأت بوادر الضعف على التعليم والصحة مما أحدث انكسارات في بعض المفاهيم والقيم ونتجت عنه ظروفاً قاسية عانى منها المجتمع برمته على الرغم من محاولات الإعلام تصبير الناس ومحاولات القيادة كسر الحصار لكن ما تلا الحصار كان أمرُّ وأدهى ، وفي هذا الفصل يورد الكاتب نص ما ورد على لسان بوش الابن وهو يحاول إقناع الرئيس الفرنسي جاك شيراك للمشاركة في الحرب ضد العراق حيث يقول لشيراك :” إننا نتقاسم يا جاك إيماناً واحداً ، أنت من الروم الكاثوليك وأنا ميثودي ، لكننا مسيحيون وملتزمون بتعاليم الإنجيل … ” وقال : ” بدأ يأجوج ومأجوج العمل في الشرق الأوسط ” بهذه العقلية انساق بوش ليحارب العراق …
الفصل الرابع بغداد قبل الحرب الأمريكية البريطانية :
وفيه تحدث الكاتب عمر علي حيدر عن الاحتياطات التي اتخذتها الحكومة العراقية لمواجهة العدوان كحفر الخنادق والاستعدادات العسكرية وقيام الناس بتخزين المواد الغذائية ، وتناول حرب الشائعات ، وكيف ازدحمت بغداد بممثلي وكالات الأنباء والصحفيين من كل أنحاء العالم ، وأشار إلى وضع الجوامع ، وأول النغزات الطائفية .
الفصل الخامس بغداد خلال الحرب الأمريكية البريطانية على العراق :
في هذا الفصل تناول الكاتب بشكل تفصيلي توقعات وقوع الحرب ، أو عدم وقوعها من قبل الرئيس صدام حسين واعتقاده أن روسيا وفرنسا لديهما عقود ومصالح في العراق ربما سيحولان دون تهور بوش ، وبين الكاتب إصرار بوش على وقوعها
يقول الكاتب :” في 3 أذار / مارس 2003 بدأت الحرب فعلاً بقصف الأحياء السكنية في البصرة ، ربما كان جس نبض ، كانت صور دمار بعض المنازل المدنية تملأ الصحف ، علّقتُ البعض منها في لوحة الجامع ووضعتُ على باب الحرم ورقة صغيرة 4 A بخط يدي مكتوباً عليها ( لا تحزن إنَّ الله معنا ) التوبة 40 / كان لها الأثر الكبير في نفوس الصغار والكبار من المصلين ..”
ويقول : ” القصف بالصواريخ كان يستمر ساعةً أو نصفها ، ثلاث مرات في اليوم وأكثر ، متقطع أو متتابع ، كأنه وصفة طبية ! ، كنت ُ أهرع إلى سماعة الجامع عندما يبدأ وأكبّر وأدعو :
أللهم اجعلها برداً وسلاماً
اللهم احفظ العراق والعراقيين
اللهم اجعل نيران العدا عليهم
اللهم رد كيدهم في نحورهم ونحورهم في كيدهم
اللهم لا نهلك وأنت جارنا
اللهم لا نضيع وأنت ملاذنا
اللهم عليك بهم فهم لا يعجزونك … ”
وفي هذا الفصل وثق الكاتب عمر علي حيدر شجاعة العراقيين في التصدي لقوات الاحتلال الغاشم كما تحدث عن جرائم الجيش المحتل خلال القصف وقتل المدنيين الأبرياء ، كما وثق مجريات الاحتلال الأمريكي البريطاني ضد الشعب العراقي وآثاره الكارثية الناتجة عن استخدام المواد المحرمة دولياً والتي نتج عنها ظهور حالات السرطان بكثرة والتشوهات الخلقية للأجنة عدا ما لحق البنية التحتية والبيئة من تدمير .
لقد أكدت المصادر الموثوقة أن الحرب على العراق غير شرعية وأن أسبابها مفتعلة وغير صحيحة ، وأورد الكاتب عن سكوت إي بالمر : ” لم أفهم كيف أننا سنجتاح بلداً لأنه يملك أسلحة كيمياوية ونووية في حين أننا نملك أسلحة نووية وكيمياوية وقمنا باستخدامها ؟!! ” .
الفصل السادس الحواسم : وفي هذا الفصل عرّف الكاتب هذا المصطلح الذي بات معروفاً للعراقيين وغيرهم ، وظهور الغوغاء من أراذل المجتمع ممن استمرأوا أن يسرقوا القصور ودوائر الدولة وممتلكاتها على مرأى من جنود الاحتلال ، وهو فصل مؤلم من فصول الاحتلال البغيض .
الفصل السابع بغداد بعد الاحتلال الأمريكي :
وهو أطول الفصول وأهمها من ص 285 لغاية صفحة 607 .وتناول أوضاع العراق في ظل الاحتلال من كافة النواحي السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية وتفرعات كل ناحية وبالتفصيل .
ويمكن أن أشير إلى أهم ماورد فيه بما يلي :
- تخلي القوات الأمريكية المحتلة عن واجبها في حماية العراقيين وفق ما تقتضيه القوانين الدولية فعمت الفوضى والقتل على الهوية وقتل العلماء والأساتذة الجامعيين والضباط بمختلف الرتب والطيارين وغيرهم ممن كان له دور في حرب الثمانينات كما ظهرت النعرات الطائفية والعشائرية وتراجع التعليم والثقافة .
- حل الجيش العراقي وتحطيم البنية الأمنية والعسكرية وبناء ميلشيات عديدة وأحزاب طائفية ولكل من هذه ميزانيات فلكية ومحطات فضائية وصحف ومنابر .
- كثرة الحسينيات التي اتخذت من المقار البعثية والحكومية مقرات لها وبدأت الممارسات المذهبية تزداد يوماً بعد يوم بتقليعات وأشكال جديدة .
- استهداف الجوامع وقتل الكثير من شيوخها ، ولقد كان للشيخ عمر علي حيدر من خلال إدارته للجامع مواقف وطنية مشهودة في مناكفة المحتلين ودرء الفتن في محيطه الاجتماعي ، وقيادة جمهرة من الشيوخ لتقديم المساعدات العينية لأهل الفلوجة كما قادهم في تظاهرة احتجاج أمام سجن أبو غريب ضد احتجاز مجموعة من النساء حتى تم إطلاق سراحهن . كما أنه حاول احتواء الشباب بدورات تقوية دراسية وعمل دورات لتعليم القرآن الكريم .
- نتيجة مواقف الكاتب الوطنية وخطبه تلقى عدة رسائل تهديد ، ولذلك قرر أن يترك العمل وخرج من العراق ، والحقيقة كان موقفه مشرفاً .
- في ظل التراجع الذي حصل في التعليم والثقافة ونفشي الفقر ظهرت الشعوذات والدجل .
- كان للشعر المقاوم وقعه المؤثر في تلك المرحلة .
الأربعون العمرية :
وهو عبارة عن أقوال داعمة وموثقة للمرحلة التي عاشها الكاتب بعد احتلال العراق بعضها له وبعضها لكتاب وسياسيين وعسكريين وأدباء عالميين بلغت أربعين حديثا ً ، فعلى سبيل المثال وتحت عنوان ( أرواح العراقيين ثمناً لشجاعتهم ) مما قاله الجنرال ويسلي كلارك في كتابه الانتصار في الحروب الحديثة ص 92 : ” لقد قاتل كثير من العراقيين بضراوة وبإنكارٍ للذات .. )
كما استشهد الكاتب عمر علي حيدر ببعض العناوين التي أوردتها الصحافة
الخليجية والعراقية نذكر بعضها :
ـ مليون طفل عراقي تسربوا إلى الشارع
ـ مخابز وأفران تتوقف عن العمل بسبب شحة النفط الأبيض
ـ الصحة : اغتيال 98 طبيباً وأبناء أطباء تم اختطافهم أو اغتيالهم منذ سقوط صدام
ـ القبض على 200 إيراني بحوزتهم عملات مزورة في كربلاء .
وآخر العناوين كانت ( ومضات ) وهي استدراك الكاتب لبعض المعلومات التي يراها مهمة ولم تستوعبها العناوين السالفة .
فعلى سبيل المثال يقول الكاتب : ” وبعد الاطلاع على عشرات المصادر يمكن القول ـ بلا مبالغة ـ إن الصحاف هو أشهر شخصية من الشخصيات المؤثرة في الحرب العراقية الأمريكية 2003 ، وسيبقى أثره بارزاً فيها على مر التاريخ .
وأنهى الكاتب الشيخ عمر علي حيدر آخر هذا الجهد التوثيقي المضفور مع ذكرياته ضفراَ بخطبة ثانية نادت بوحدة العراقيين ووحدة العراق ومما جاء فيها : ” ورسالتي لكم يا أبناء العراق عامةً ، ويا من سيقود العراق على مر التاريخ أن تكونوا يا عباد الله أخواناً، وعلى الخير أعوانا ، وأن لا تتوقفوا عن المطالبة بحقوقنا المهدورة من الاحتلال الأمريكي البريطاني بعد ظهور أعذارهم الكاذبة في غزو وتدمير بلادنا ، والأضرار الكبيرة التي رافقت ذلك ، والتي لو دفعوا من أجل ( بعضها ) أموال الدنيا ما استطاعوا أن يعيدوا روحاً مظلومةً واحدة أزهقوها ، ولا أسرة شتتوها ، ولا تراثاً دمروه ولا عالماً هجروه أو قتلوه ، ولا هوية مسخوها ، ولا أجيالاً ضيعوها ، ولا بيئةً خربوها ، ولا صناعةً سحقوها ، ولا حرثاً أفسدوه ، ولا نسلاً أهلكوه … ) .
ثم يلي هذه الخطبة مجموعة من الصور ، ثم فهرست الأعلام ثم المصادر العربية والأجنبية التي بلغ عددها 317 مصدراً ( بالرغم من أن بعض تلك المصادرغير محايدة ) تليها الدراسات فالصحف والمجلات . وآخر الصفحات هو فهرست الموضوعات بما جعل الكتاب برمته يبلغ 706 صفحات عدا الغلاف .
شاعرة وكاتبة عربية