عن روحانيات باريس بمناسبة مقدم الشهر الفضيل
بقلم السفير/ د. خالد محمد فرح
ربما بدا هذا العنوان مخاتلاً أو ومستفزّاً ، وربما مستنكراً ومفارقاً تماماً للسياق الحضاري والثقافي والديني والاجتماعي العام الذي يوحي به مجرد سماع أو قراءة اسم باريس مدينة النور ، وعاصمة الجمهورية الفرنسية ، التي طالما عُرفت وزهت بأنها الابنة الكبرى للكنيسة الكاثوليكية بالتحديد.
ولكن من ناحية أخرى ، فإنه ما من شك في أن باريس هي مدينة كونية أو كوزمبوليتانية ، شاملة ومضايفة وموطأة الأكناف ، يجد فيها الملايين من سكانها من أتباع كل ديانةً ونحلة وطائفة ، أنفسهم يعيشون في أمن وسلام ووئام واحترام للخصوصيات والهويات المتباينة ، سواء كانوا مواطنين ، أو مقيمين إقامات رسمية طويلة أو قصيرة ، أو لاجئين ، طالما أن ذلك يتم في إطار احترام النظام والقانون والتقيد بهما.
وهكذا درج المسلمون – على سبيل المثال – الذين ظلت أعداد كبيرة منهم تعيش في العاصمة الفرنسية منذ عقود طويلة ، وخصوصاً أولئك الذين تعود أصولهم الى بلدان المغرب العربي الكبير وشمال افريقيا ، بالاضافة الى آخرين تعود أصولهم الى بلدان افريقيا جنوب الصحراء ، وبعض دول الشرق الاوسط، درجوا على خلق أجوائهم الاجتماعية والثقافية والروحية الخاصة بوصفهم مسلمين، وخصوصاً خلال ايام وليالي شهر رمضان المبارك.
هنالك أحياء ومناطق معينة في باريس ، يحس المرء فيها بروحانية إسلامية خاصة ، منها على سبيل المثال منطقة ” معهد العالم العربي ” الشهير بوصفه مؤسسة ثقافية وتعليمية وترفيهية مرموقة، تجسد بحق الثقافة العربية ، والاسلامية تبعاً لذلك. وهو يقع الى جوار محطة ” جوسيو ” لقطار الانفاق ، وفي ذات تلك المنطقة ، مكتبتان عربيتان ، احداهما تسمى مكتبة ” الشرق ” والاخرى مكتبة ” لبنان ” على ما أذكر. وهل بالمنطقة مقاهي عربية تقدم الشاي بالنعناع ؟.
وهنالك بالطبع مسجد باريس الكبير الذي جرى افتتاحه في عام 1926م ، والذي يقع في الحي اللاتيني الشهير والدائرة الخامسة بالعاصمة الفرنسية. وهو الآخر بمعماره الاندلسي والمغاربي المميز ، وحديقته الرائعة ، والمنطقة الجميلة المحيطة به ، يعبق باجواء روحية مميزة على الدوام. وقد نشأت حوله ايضا ، بعض المكتبات الاسلامية ، والمقاهي المغاربية التي تقدم الشاي اللذيذ بالنعناع.
تسعى إلى مسجد باريس الكبير لأداء صلاة الجمعة في نهار رمضان ، فتجده غاصاً بالمصلين من شتى الجنسيات والالوان والسحنات. تمكث برهةً مسبحاً أو مهلّلاً أو تالياً القرءان الكريم ، غالباً من على شاشة هاتفك النقال ، ثم ما يلبث ان ينطلق صوت الحق والنداء الخالد عبر الأذان الثاني الذي يُرفع بين يدي قدوم الإمام ، مؤذنا بصعوده الى المنبر. ثم يرفع شيخٌ طاعنٌ في السن ، لعله المأموم نفسه عقيرته طالباً من جموع المصلين الاستماع الى الخطبة في سكينة وهدوء قائلاً:
” روى أمامُنا مالك عن أبي الزّناد عن الأعرج عن أبي هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: من قال لصاحبه والإمامُ يخطب فقد لغا ، ومن مسّ الحصى فقد لغا ، ومن لغا فلا جمعة له .. أنصتوا يرحمكم الله !! ”
وأنا أقر بأنني قد وعيتُ متن هذا الحديث الشريف بهذه الصيغة وسنده لأول مرة ، من شيخ جامع باريس الكبير ذاك. وتأمّل هذا الحب والتوقير للإمام مالك بن أنس ، الذي ينتشر مذهبه الفقهي بين المسلمين في سائر بلاد المغرب العربي الكبير ، وجل بلاد افريقيا المسلمة جنوب الصحراء ايضا ، بما في ذلك بلادنا السودان.
في المرتين السابقتين اللتين أقمت فيهما اقامة طويلة نوعاً في فرنسا لدواعي العمل في باريس ، بين عامي 1996 و 1999 ، و 2011 و 2013م على التوالي ، سكنت في المرة الأولى في منطقة الديفانس ذات العمارات والأبراج الشاهقة ، وفي المرة الأخرى أقمت بضاحية ” نويي سير سين ” الارستقراطية ، ولكنني كنت ألتمس الأجواء الروحية حقيقةً في حي ” بيتو ” ، بمسجده الواسع ، وحوانيته ، ومطاعمه ، ومقاهيه العربية والمغاربية على وجه التحديد. كان من بين تلك المحال التجارية والخدمية ، بقالة كانت تملكها وتديرها سيدة مسنّة فاضلة من أهل الكتاب الأول ، وكانت تساعدها ابنتها الشابة. ربما كانت من ضمن أولئك الذين هاجروا منذ بضعة عقود الى فرنسا من مصر ترجيحا. وقد كنا وكان سكان ذلك الحي ، وغيرهم من رواد تلك البقالة ، يجدون فيها كل ما يخطر على البال وما لا يخطر أيضاً ، من مستلزمات البيت ” الشرقي “، من خردوات ، ومواد غذائية ، وأطعمة مجففة ومعلبة ومملّحة ، بما في ذلك الملوخية والبامية ، الى جانب شتى أنواع التمور والزيتون والمخللات والأجبان التي تروق لأذواقنا نحن السودانيين خاصةً ، كالجبنة البيضاء الاسفنجية القوام والجافة نوعاً ما ، التي ليس كمثلها شىء في ” تظبيط ” طبق الفول. هذا مع العلم بأن فرنسا هي بلد الثلاثمائة نوعاً من الجبن ، كما قال الجنرال شارل ديغول ، كناية عن اختلاف أمزجة مواطنيه وتوجهاتهم ، ولكن تبقى الحقيقة هي أن أياً من تلك الاصناف الكثيرة من الجبن، لا يصلح مطلقاً لتصليح الفول يا هذا.
وكنت قد عثرتُ في بعض أرفف تلك البقالة ذات مرة ، على زيت سمسم نقي للغاية وحسن الاستخلاص جدا ، معبأ في زجاجات صغيرة سعة الواحدة منهن حوالي 400 ملّليتر ، اي اقل من نصف لتر ، فطرتُ به فرحاً، ولم استكثر على تلك الزجاجة الصغيرة مبلغ ال 4.5 يورو بأسعار ما قبل نحو عشرة أعوام التي كنت أدفعها ثمناً لها حينئذ.،وما أدراك ما زيتُ السمسم في إضفاء طعم شهي ونكهة مميزة ، خاصةً على طبقي سلطة الطماطم بالبصل الأخضر والليمون، والفول المصلّح أيضا.
كنت أذهب مع زوجتي بالسيارة في عطلة نهاية الاسبوع في نهار رمضان الى قصاب جزائري بمنطقة الدروب الأربعة les Quatre Chemins , ليس بعيدا حقا عن مسكننا بالديفانس ، فنشتري منه مؤونة البيت لاسبوع من مختلف انواع اللحوم الحلال بالطبع ، وعلى رأسها نقانق اللحم البقري ، أو ” المارقيز ” طبقنا المفضل في شتاءات رمضان في باريس ، إلى جانب حساء ” الحريرة ” المغربي الدسم واللذيذ ، والذي تعرفنا عليه لاول مرة في باريس أيضاً، كمظهر من مظاهر التبادل الثقافي التي تتيحها تلك المدينة الرائعة.
وما اروع رمضان في الشتاء في باريس وفي سائر اوروبا ، حيث يقصر النهار جدا ، حتى لا يكاد الصائم يحس معه بجوع ولا عطش ، أما في الصيف ، فالعكس هو الصحيح ، والله المستعان ، وثبّت الله الأجر ، ولذلك ترى كثيرا من المسلمين يفرون الى بلدانهم لصيام شهر رمضان الصيفي بها ، ان استطاعوا لذلك سبيلا.
كانت إذاعة الشرق بباريس وما تزال ، مؤسسة إعلامية وثقافية وترفيهية عربية رائدة ومرموقة في فرنسا، وظلت تلعب دوراً معتبراً وغير منكور في صناعة وتكريس ذلك الجو الروحي الإسلامي طول العام ، وخاصة خلال شهر رمضان المعظم ، حيث درجت على رفع الأذان للصلاة في الأوقات الخمسة ، بل درجت على تنبيه الصائمين لوقتي السحور والامساك ، حتى انها مرةً جاءت على ما أذكر بتسجيل لنداءات مسحراتي بصوت الفنان المصري الراحل ” سيد مكاوي “، وهو يردد: اصحى يا نايم وحّد الدّايم الخ ، هذا فضلاً عن إذاعة تلاوة آيات من الذكر الحكيم ، وبعض المدائح النبوية ، والابتهالات الدينية من حين لآخر.
لا بد للمرء أن يذكر بالطبع في سياق الحديث عن الاجواء الثقافية العربية عموماً ، والروحانية الاسلامية خصوصا في العاصمة الفرنسية ، سوق ومحطة مترو ” باربيز روشوشوار ” ، وخطها الحديدي المعلق في الهواء محاطاً بسياج من الصُلب ، والذي أوشك أن يتحول الى بازار عربي خالص طوال العام. هنالك حيث لا يندر ان تسمع على الدوام ، ألفاظاً وعبارات وحوارات بالعربية من قبيل: لا باس ، ويرحم والديك ، ووخّا صافي ، ومزيان بزّاف ، وغيرها ، وتسمع بالطبع الفاظا وعبارات اخرى كثيرة بالفرنسية من قبيل Ba oui و Mais non
، و Exactement و Allez .. on fait comme ça و Je te jure التي يكثر الصبية عادة من قولها لبعضهم البعض. وانطلاقا من تلك المحطة يمر الواحد عبر خط المترو رقم 2 ، بمناطق يفوح منها عبق تلك الاجواء نفسها قليلاً او كثيرا ، اعني نواحي محطات مثل استالينغراد وبلفيل ولاشبيل وغيرها.
وهنالك بالطبع أحياء طرفية وضاحيات باريسية أخرى تغص بالمهاجرين العرب والمسلمين ، مثل ابيني وسان دوني وكريتاي وخلافها ، التي استطاع المسلمون القاطنون بها ، خلق روحانياتهم الخاصة بهم فيها ، سواء خلال شهر رمضان المبارك ، أو في سائر شهور العام ، بيد أن المجال يضيق عن ذكرها جميعا هاهنا ، ونتمنى للجميع صياما ربيعياً مقبولاً هذا العام ، وكل عام وأنتم بخير.