الانتخابات الفرنسية في ظل الإنتكاسات: قراءة في جدل الهوية
الإنتخابات الفرنسية في ظل الإنتكاسات
قراءة في جدل الهوية
أ. نسيم قبها
تنطلق انتخابات الرئاسة الفرنسية في شهر نيسان/إبريل الحالي، تليها انتخابات نيابية في شهر حزيران 2022، في ظل جدلٍ واسع حول الهوية الفرنسية ومكانتها في العالم وفي الدول الفرنكوفونية، وفي ظل تنافسها مع ألمانيا على قيادة أوروبا.
وتدور المرحلة التحضيرية والابتدائية للانتخابات في ظل انتكاسات سياسية ودبلوماسية واقتصادية واجهها ماكرون سنة 2021، ظهرت فيها فرنسا بالدولة العاجزة والعارية، وبخاصة في المسألة الليبية وفي مالي ولبنان، وفي المواجهة مع تركيا في شرق المتوسط، ثم في اتفاقية أوكس التي أفقدت فرنسا فرصة (تواجد ريادي) في منطقة (الإندوباسيفيك) وسوق الأسلحة لتلك المنطقة. وهذا بالإضافة إلى أزمة أوكرانيا وروسيا التي وضعت فرنسا أمام خيارات صعبة، فإما أن تُرضي أميركا وتُغضب بوتين وتقف مع أوكرانيا في وجه روسيا، وإما أن تُرضي بوتين وتُغضب أميركا وغالبية الدول الأوروبية، وتفقد مزيدًا من رصيدها القيادي في القارة الأوروبية. ولعل انتقاد بوتين مؤخرًا لحرية التعرض للأديان التي تتبناها فرنسا ينطوي على رسالة تحذير لماكرون بشأن أوكرانيا، وليس حبًا بالمسلمين.
ولفهم المرحلة التحضيرية والابتدائية للانتخابات لابد من إدراك أمرين؛ الأول: أنه من المرجح أن لا يحوز أيٌّ من المرشحِين على أغلبية في الدور الأول وانتقال الانتخابات لدور ثان، وأما الأمر الثاني: فهي مساعي الدولة الفرنسية لإعادة توجيه أنظار الشعب الفرنسي نحو حماية الدستور والحريات والهوية العلمانية بالهجوم على الإسلاموفوبيا رغم ما في ذلك من إشغال لفرنسا في قضاياها الداخلية.
فلم يشهد سباق الانتخابات الفرنسية صراعًا محمومًا حول الهوية الفرنسية في أي من الانتخابات السابقة كما هو اليوم، حيث أشعل إريك زمور، والملقب بترمب فرنسا، وفاليري بيكريس مرشحة الحزب الجمهوري، ومارين لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني، وهم من مرشحي اليمين، قضية المهاجرين كذخيرة انتخابية وجسر عبور إلى القواعد الانتخابية. وتشير أغلب استطلاعات الرأي الحالية إلى تفوق ماكرون بعد تمكنه من تنفيذ سياسات حازمة تجاه المهاجرين مع الإسلاموفوبيا ، وهو الملف الذي يمثل ترسانة المرشحين الانتخابية لستر عوراتهم والتعويض عن فشلهم وتأكيد حضورهم القاري في لجة المخاوف الأوروبية الديموغرافية وجدل الهوية المقلق للشعب الفرنسي. إلا أن ظاهرة الإسلاموفوبيا والعداء للمهاجرين، قد ارتفعت حدتها بصورة مضطردة مع حدة التنافس والتعبئة الهوياتية في الانتخابات، فقد صرح إريك زمور في خطاب إعلان ترشحه: “آن أوان إنقاذ فرنسا وليس إصلاحها”، ذاكرًا أن سبب ترشحه للانتخابات الرئاسية “حتى لا يعاني أبناؤنا وأحفادنا من الهمجية، حتى لا ترتدي فتياتنا الحجاب.. حتى يرثن فرنسا كما كانت معروفة لأسلافنا”.
وفي سياق التنافس المستمر لكسب الأصوات اليمينية من أنصار لوبان ويمين الوسط الذين يعتمد عليهم ماكرون صرحت فاليري بيكريس _والتي تأمل أن تكون أول امرأة تتولى منصب الرئاسة في تاريخ فرنسا_ بمناسبة فوزها ببطاقة الترشح عن الحزب الجمهوري قائلة “سنستعيد كبرياء فرنسا ونحمي الفرنسيين”، مضيفة أنها تشعر “بغضب” الشعب إزاء “النزعة الانفصالية الإسلامية”، وشعورهم أن قيمهم ونمط حياتهم مهدد بسبب الهجرة غير المنضبطة”.
وأما من حيث السياسات فإن زمور وعد في بيانه الانتخابي أنه في حال فوزه بالانتخابات سيقوم بإيقاف جميع الإعانات المقدمة للأجانب، مما يوفر 20-30 مليار دولار سنويًّا للميزانية الفرنسية، وسوف يقوم بالحفاظ على السيادة الوطنية بالابتعاد عن أميركا وتوثيق العلاقة مع روسيا. وأما بيكريس فتسوّق نفسها على أنها المرأة القوية وتستلهم تجربة تاتشر وميركل حينما وصفت نفسها بأن “ثلثها تاتشر وثلثيها ميركل”، على أن هذا الوصف يستبطن رسالة تصالح مع الولايات المتحدة بسبب توافق سياسات تاتشر وميركل مع أميركا في أغلب الملفات الدولية. وأما لوبان زعيمة حزب التجمع الوطني فتعتبر زمور “غارقًا في صراع الحضارات” وتأمل أن لا تتآكل قاعدتها الانتخابية جراء التجاذب والتنافس المسعور بين تيار اليمين الفرنسي المنقسم. وبينما لم يتضح بشكل جلي الدور الذي سيقوم به زمور في هذه الانتخابات ودوافعه ومآلات أعماله، فالواضح بأنه سيؤدي لتآكل أصوات اليمين وهو ما قد يخشاه ماكرون، إلا أنه من الضروري إدراك أن الهدف الأول هو الحصول على أصوات كافية للحضور في الدور الثاني، والذي تاريخيًّا يشوبه عدد من الصفقات والتوافقات، كما حدث في الدور الثاني للانتخابات السابقة، ولذلك تتحدث بعض المصادر عن تقارب غير معلن بين ماكرون والرئيس السابق نيكولا ساركوزي، الذي لم يدعم أي مرشح في الاقتراع الداخلي لحزب الجمهوريين. وفي هذه الحالة قد يتمكن ماكرون من قطع الطريق على بيكريس بالاتفاق مع ساركوزي على إقامة ائتلاف حكومي يجمعه مع الجمهوريين الذين يسيرون وراء ساركوزي، وما يعنيه ذلك من حصول ماكرون على أصوات تلك القاعدة الانتخابية لصالحه بدل أن تحصل عليها بيكريس.
فماكرون وإن كان قد واجه سخطًا شعبيًّا داخليًّا، وفشلًا في عدة ملفات سياسية خارجية، إلا أنه لا يزال المتقدم في الاستطلاعات ويؤازره التاريخ! حيث أن جيسكار ديستان سنة (١٩٨١) وساركوزي سنة (٢٠٠٧) هما الرئيسان الوحيدان فقط اللذان لم ينجحا في حملة إعادة الانتخاب خلال الجمهورية الخامسة.
ورغم تنوع المرشحين ومحاولتهم إظهار تميزهم عن بعضهم بعضًا من أجل كسب أصوات جمهور الناخبين، لكنهم يشتركون عمومًا في طرح وتبني ثلاث قضايا أساسية، وهي الهوية الفرنسية والجمهورية العلمانية والسيادة الوطنية. وبرامجهم السياسية لهذه القضايا تتمحور بشكل لافت على المهاجرين المسلمين خاصة، وعلى “خطر” الإسلاموفوبيا الذي يشكل تحديًا للقيم الفرنسية. ولذلك يستخدم المرشحون للرئاسة العبارات العنصرية والتعبئة الأيديولوجية نحو “الإرهاب الإسلامي”، “المسلمات الخاضعات”، “الانفصالية الإسلامية” وخطورة الوافدين على “قيم الجمهورية” مغلفين سياساتهم بمبدأ الحرية والإخاء والمساواة لإخفاء الوجه الاستعماري لفرنسا، من دون أن نغفل أن أميركا هي التي وقفت وراء تنامي اليمين الأوروبي؛ لتفكيك الأوساط السياسية والتلاعب بها وبخاصة في فرنسا.
مدير مركز ذرا للدراسات والأبحاث في فلسطين.