روسيا تعيد السهام الى مطلقيها: قراءة في الحرب النفسية
روسيا تعيد السهام إلى مطلقيها:
قراءة في الحرب النفسية
أ. نسيم قبها
مكانة روسيا في الاقتصاد العالمي، وامتلاكها الموارد الطبيعية التي لا تستطيع الدول الغربية معها الاستغناء عنها، بدت مقصودة في كلمة الرئيس الروسي فلاديمير بوتين خلال مشاركته في الجلسة العامة لمنتدى بطرسبرغ الاقتصادي الدولي الخامس والعشرين يوم الجمعة 17 حزيران/يونيو بحضور ومشاركة زعماء ورؤساء أكثر من 69 دولة منهم الرئيس الصيني والمصري اللذيْن حضرا الخطاب كاملًا “افتراضيًّا”، فقد شدد بوتين في خطابه على “رؤية روسيا” الهادفة لتغيير “القطب الواحد”، وأن العالم لا يمكن اختصاره بدول الاتحاد الأوروبي والولايات المتحدة الأميركية. مشيرًا لتجربة بلاده في تجاوزها للعقوبات، وأن بلاده تمكنت من إعادة “السهام إلى صدور مطلقيها، إذ انعكست هذه العقوبات.. غلاءً وركودًا وأزمة اقتصادية خانقة في الغرب، وقد تكون الشرارة في تغييرات داخلية في الغرب”. وهذا يشير إلى رهان بوتين على حل دبلوماسي وخروج آمن من الأزمة، معتمدًا على تململ أعضاء التحالف الأميركي الأوروبي تحت وطأة الطلب على الطاقة. فقد أعلن وزير الاقتصاد والمناخ الألماني روبرت هابيك في مؤتمر صحافي “نحن نواجه أزمة غاز. الغاز أصبح الآن سلعة نادرة”.
وفي خطاب موجه للداخل الروسي فند بوتين أوهام التحالف الغربي ضد بلاده، وأسهب في شرح عوامل القوة التي تمتلكها روسيا رغم العقوبات القاسية التي فرضها الغرب عليها، والتي أسهمت في انسحاب أغلب المستثمرين الغربيين من السوق الروسي، والتي أدت أيضًا إلى إخراج روسيا من النظام المالي العالمي “سويفت”، وتجميد جزءٍ من احتياطياتها في الدول الغربية، مؤكدًا أن “العقوبات التي كانت تستهدف روسيا والعملة الروسية بالذات قد حولناها إلى عنصر قوّة، حيث أن الروبل اليوم أقوى مما كان عليه” محيلًا مسؤولية التضخم العالمي وارتفاع الأسعار إلى الغرب في سياساته المالية، وفي محاولته عزل روسيا عن الاقتصاد العالمي.
ولقد ألقى الرئيس الصيني “افتراضيًّا” كلمة أوضح فيها الرؤية الصينية، والتي لا تتطابق مع الرؤية الروسية في الجانب الاقتصادي، بسبب حاجة الصين للتجارة والاستثمار المفتوح لتغذية اقتصادها، فلقد دعا لـ”التعددية الحقيقية” و”اقتصاد عالمي منفتح” و”جعل التنمية العالمية أكثر توازنًا وتنسيقًا وشمولًا”، و”رفض محاولات فك الارتباط الاقتصادي، وتعطيل الإمدادات، والعقوبات الأحادية وممارسة الضغوط القصوى؛ ودعا إلى إزالة الحواجز التجارية، والمحافظة على سلاسل التوريد العالمية، ومعالجة تدهور أزمات الغذاء والطاقة”. بينما أظهرالرئيسان توافقًا في الجانب السياسي من خلال نص المكالمة الهاتفية بينهما، وأن “الصين ترغب أيضًا في العمل مع روسيا لتعزيز التضامن والتعاون بين دول الأسواق الناشئة والدول النامية، والدفع من أجل تطوير النظام الدولي والحوكمة العالمية نحو اتجاه أكثر عدلًا وعقلانية”، بينما نقل عن بوتين قوله: “روسيا تدعم مبادرة الأمن العالمي التي اقترحها الجانب الصيني وتعارض تدخل أي قوة في الشؤون الداخلية للصين باستخدام ما تسمى القضايا المتعلقة بشينجيانغ وهونغ كونغ وتايوان، وغيرها، ذريعة”.
وفي الوقت الذي تخوض بلاده حربًا لشهرها الثالث في أوكرانيا، لتحقيق أهداف سياسية على رأسها “حياد” أوكرانيا، ومنع انضمامها لحلف الناتو، لما لذلك من تهديد للأمن القومي الروسي، صرح بوتين من خلال جلسة أسئلة وأجوبة مع رئيس كازاخستان قاسم توكاييف الذي بدا معترضًا على مطالب بوتين في حق تقرير المصير للجاليات الروسية في دول الاتحاد السوفييتي السابق، إلى أنه “عاجلًا أم آجلًا، سيعود الوضع إلى طبيعته”. مضيفًا بخصوص عضوية أوكرانيا للاتحاد الأوروبي “ليس لدينا أي شيء ضد ذلك، إنه قرارهم السيادي بالانضمام إلى اتحادات اقتصادية أم لا، إنه شأن يخصهم، شأن يخص الشعب الأوكراني”، مؤكدًا أن “الاتحاد الأوروبي تكتل اقتصادي وليس حلفًا عسكريًّا كالناتو”. وفي هذا أيضًا تحذيرٌ مبطنٌ للاتحاد الأوروبي من مواصلة الخضوع للولايات المتحدة، سيما وأنه اتهم أوروبا بفقدان سيادتها تمامًا.
ويُعدُّ خطاب بوتين في المنتدى محاولة من روسيا لإبراز ثقلها الدولي بعد أن واجهت مصاعب عسكرية وعزلة سياسية، فبالرغم من تدميرها البنية التحتية لأوكرانيا كما فعلت في سوريا، إلا أنها لم تستطع السيطرة على العاصمة كييف، ولم تستطع تغيير النظام الأوكراني، واضطرت للتركيز على فرض السيطرة على إقليم الدونباس أي الشرق الاوكراني. وهو الأمر الذي قد يعرضها لحرب استنزاف طويلة إذا لم تتمكن من التوصل لحل دبلوماسي، وبخاصة وأن الرئيس الأوكراني يرفض وبتحريض أميركي بريطاني أي حلول تشمل الأرض مقابل السلام.
وأما احتمالات التوصل لحل دبلوماسي فيرتبط بالأهداف الأميركية التي لأجلها قدمت أوكرانيا قربانًا “للدب الروسي”، ويرتبط أيضًا بمحاذير استمرار الحرب وتداعياتها على التحالف الأميركي الأوروبي ضد روسيا، باعتبار أن إعادة صياغة التحالفات الأميركية في الخارج هو في قلب الاستراتيجية الأميركية التي صرح بها الرئيس بايدن ووزير خارجيته ومستشار الأمن القومي، وأكدوا عليها مرارًا، بل وأكدها بايدن في قمة الدول السبع قبل يومين بقوله: “لقد كان بوتين يعول منذ البداية على أن حلف الناتو ومجموعة السبع سينقسمان بطريقة ما. لكننا لم نفعل ولن نقوم بذلك “. وفي الواقع إن أميركا تريد قبل إنهاء الحرب أن تضمن سعيَ أوروبا بخطوات عملية نحو التخلص من الاعتماد على روسيا في مجال الطاقة، وتفكيك مصالح أوروبا وروسيا وإدارة العلاقة بينهما على قاعدة العداء فيما بينهما، وتبديد فكرة خيار القوة الأوروبية المستقلة ووحدة الموقف السياسي، وجعل خيار حلف الأطلسي وحيدًا في ضمان أمن دول شرق أوروبا ودول البلطيق، وعدم الرهان على فرنسا وألمانيا، اللتيْن تقوم مقارباتهما السياسية على مصالحهما المرتبطة بالطاقة الروسية.
والواضح من خطاب بوتين وتصريحاته للرئيس الصيني الحربُ النفسية التي يشنها بوتين على الغرب، ومحاولة إضعاف ثقة الدول بالسياسة التي تتبعها أميركا في قيادة العالم، والتلميح للدول الأوروبية بأن مصالحها الاقتصادية والأمنية مع روسيا وليس أميركا.
فأعمال بوتين موجهة لزعزعة الثقة بالنظام الدولي، وحشد الدول ضد التفرد الأميركي، ولكن تأثيرها يتطلب طرح روسيا البديل الجاذب عن النموذج الأميركي. غير أنه لا أحد ولا حتى الصين يروْا أن روسيا لديها الرؤية البديلة التي تعوضها عن الأسواق الأوروبية والأميركية، أو الكاريزما الجاذبة لترى فيها مثالًا يحتذى أو يستحق أن تلتف الدول الأخرى حوله، مضحية بمصالحها، ومعرضة نفسها لنقمة أميركا، وتحمل تبعات التخلص من تركة التفرد الأميركي في الموقف الدولي. وقد استبقت أميركا مثل هذه المحاولة بأن ركزت حملتها على “تحالف الغرب” والذي يشمل كافة الدول التي تتبنى قيم الديمقراطية والحريات والاقتصاد المفتوح، وعملت لتأسيس تحالفٍ عالميٍّ يشمل دولًا من آسيا وأوروبا وشمال أميركا.
وقد حاول الغرب إسقاط نظام بوتين من خلال العقوبات الاقتصادية والعزلة الدولية وارتفاع التضخم لإثارة حفيظة الشعب ودفعه للتمرد، والتخلص من نظام بوتين. إلا أن بوتين حسم الوضع الداخلي عبر أجهزته الأمنية والتي ردعت التظاهرات ضد الحرب، بالإضافة إلى نجاحه في تصوير الحرب بأنها “ضرورية” و”مسألة حيوية” لأمن روسيا ومستقبلها، وتصويرها على أنها حرب قومية تستهدف الهوية الروسية.
ومن الواضح أيضًا أن تخلي بوتين عن خيار إسقاط الرئيس زيلينسكي، واحتلال كييف وتركيزه على شرق وجنوب أوكرانيا قد وفر له أسباب الخروج الآمن من الأزمة، كما وفر له أسباب الصمود في مواجهة استراتيجية أميركا في إطالة أمد الحرب واستنزاف الاقتصاد الروسي، حيث أصبح بإمكانه استغلال إطالة الحرب في تعميق أزمة الطاقة لأوروبا بهدف إضعاف التحالف الأوروبي الأميركي، واستغلال ارتفاع أسعار التضخم والسلع العالمية في تأكيد مكانة روسيا الدولية، وبات من الصعب إلحاق الهزيمة به رغم الدعم الكبير الذي تلقاه الرئيس الأوكراني من قِبل الولايات المتحدة وبريطانيا، وما زيارة الرؤساء الأوروبيين إلى كييف يوم الخميس 16 حزيران/يونيو، واعتماد طلب العضوية في الاتحاد الأوروبي، وإعلان رئيس الوزراء البريطاني استعداد بلاده تدريب آلاف من القوات العسكرية الأوكرانية، وقيام أميركا بتوريد أنظمة صواريخ طويلة المدى لأوكرانيا، بالإضافة إلى استفزاز ليتوانيا لروسيا بشأن قطع خط التجارة نحو كالينغراد، وتأكيد أميركا على البند الخامس للناتو والدفاع عن ليتوانيا، ما ذلك كله إلا رسالة أميركية لروسيا والأوروبيين تصر فيها على صياغة العلاقات الأوروبية الروسية على قاعدة العداء، وتثبيت البيئة الأمنية وفق الاستراتيجية الأميركية والتي آتت أكلها بجلب السويد وفنلندا إلى فلك حلف الناتو، وتقويض قدرة فرنسا وألمانيا على جذب الدول الأوروبية إلى صفهما، وهو الأمر الذي اعترف به الرئيس ماكرون مؤخرًا، والذي أصبح مجردًا من القيادة حتى في الداخل الفرنسي بعد خسارة حزبه أغلب مقاعد البرلمان لصالح خصومه في اليمين المتطرف.