سلطة الاحتلال الناعمة في محو الذاكرة الوطنية
سلطة الاحتلال الناعمة في محو الذاكرة الوطنية
أ. سليم النجار
إنَّها الغاية المطلقة من وراء هذا التفاعل وهذا التشكل؛ فلا تريدها أن تتفاعل خارج تلك الاحتوائية المقدسة. إنَّها رمزية فائقة الحبكة للتجربة النضالية الفلسطينية، بل وتتعدى نسيجها إلى وجودية الإنسان الفلسطيني بكل أبعاده الفلسفية والرمزية التي توحي بها الكاتبة الدكتورة فردوس عبد ربُّه العيسى في كتابها (أساليب التحقيق في مراكز الاعتقال الاسرائيلي بين استخدام نظريات علم النفس والأخلاقية المهنية) الصادر عن هيئة شؤون الأسرى والمحررين العام ٢٠١٧.
د. فردوس تنقل لنا مشهد المعتقل كأنَّه من سكن وماء ونار؛ وبالتالي تكون الذاكرة هي المدينة التي تريدها إسرائيل- حسب مواصفاتها ورؤيتها- والفلسطيني المادة الخام لهذه المدينة. أمَّا الذاكرة هي البوصلة التي يتم العمل عليها، كأنَّها سرياليَّة وكونيَّة المعجم الإسرائيلي في “سرديتهم”، وإهمال السرديَّة العربية الفلسطينية من أجل منطق سياسي استعلائي لإرساء علائق جديدة وفق منطق صهيوني تخيُّلي.
فصورة الغلاف إيحاء باهتمام الدكتورة “فردوس” بالتصوير، متوخيةً الإرباك والإدهاش إرساءً لقيم القبح ومتجاوزةً العرق واللّون واللّغة.
الدكتورة فردوس عبد ربه العيسى حاصلة على شهادة الدكتوراة “٢٠١٦” في الصحة النفسية والإرشاد النفسي من جامعة عين شمس من جمهورية مصر العربية.
عملت في جمعية الشبان المسيحية للتأهيل- بيت ساحور- ١٩٩١- ٢٠٠٨ كأخصائيَّة ومشرفة نفسية اجتماعية ومدربَّة، سواءً للطواقم التابعة للجمعية أو لطواقم تابعة لمؤسسات أخرى منها (أخصائيين اجتماعيين ونفسين من الأونروا، والمرشدين التربويين في المدارس التابعة لوزارة التربية والتعليم في الضفة والقطاع).
الكتاب جاء في أربعة فصول ومقدّمة تفتتح كلماتها على الجدار الإسرائيلي، الذي صنع من أصنامه فكرة: أنَّ على الفلسطيني الهروب من الوطن في حقيبته مختزلاً في حفنة تراب وبعض صور للأهل والأقربين، ومن يرفض المعتقل في إنتظاره:(منذ احتلال إسرائيل لما تبقَّى من الأراضي الفلسطينية المحتلة عام ١٩٤٨ وذلك في حرب عام ١٩٦٧ اعتقلت حوالي ٨٠٠ ألف مواطن فلسطيني ص١٤).
إنَّ إسرائيل ترقص على حبل اعتقال الفلسطيني كبهلوان محنَّك أو هكذا يتصورون أنفسهم، كالصَّمت المطبَّق والليل بهيم لا قمر يشقّ صدره الأسود، لذا تمارس العقاب الجماعي ضد الفلسطنيين ككتلة ظلام:(إسرائيل تُمارس العقاب الجماعي بحقّ الّشعب الفلسطيني، وما يؤكد ذلك الأعداد الكبيرة من المعتقلين ومن الأعمار كافّة، ففي تاريخ إعداد هذه الدّراسة عام ٢٠١٦ تعتقل إسرائيل في سجونها حوالي ٧٠٠٠ معتقل من بينهم ٤٥٠ قاصرًا، جميعُهم تقريباً تعرضوا للتَّعذيب، و٩٠% منهم اعتقلوا أثناء الليل، حيث تَتِمُّ مداهمةُ بيوتِهم والاعتداءُ على أفراد أسَرِهم ص٢٤).
لقد ركزت أغلب الأعمال الاعتقاليَّة الإسرائيلية التي اتجهت نحو محو الذاكرة الفلسطينية وإلغاء الإحساس بأزمنة أفعالهم: (إنَّ عدم وجود وقت مُحدَّد للإفراج هو بمثابة نوع من أنواع التَّعذيب، حيث المعتقلُ وأُسرتُه يبقيان في انتظار الإفراج، ولكن دون معرفة متى يتم ذلك، ممّا يجعلهم في حالة من انعدام اليقين الّذي يقود إلى الشُّعور بالإحباط واليأس ص٣٤).
وإذا كان الإسرائيليون يعطون الأولوية للتعذيب على حساب الزمن؛ فإنَّ الدكتورة فردوس تعطي الأهمية الأولى لأنواع التعذيب على حساب التعذيب كمفهوم عام، أي تكشف طبيعة وأنواع التعذيب الإسرائيلي:(١- فقد تعدَّدت أشكال التّعذيب الجسديّ ذات الأثر النفسي، ونذكر منها: الشبح، حيث يتمُّ إرغامُ المعتقل على الجلوس أو الوقوف في أوضاع جسديَّة مؤلمة تقود إلى آلام في المفاصل والعمود الفقري، وأثناء الشَّبح تُقيًّدُ اليدان للخلف، وتُعصَبُ العينان، ويُضَع كيس من الخيش تفوح منه الرّائحة الكريهة على الرأس.
٢- الحرمان من النوم والطعام ومن استخدام ومن الرعاية الصحية.
٣- التعرُّض للضَّرب : يتعرَّض المعتقلون الفلسطنييون للضرب المبرِّح، وهذا ما جاء في تقارير المؤسسات الحقوقيَّة الّتي وصفت ما يتعرَّض له المعتقلون من ألوان الضَّرب، والّذي يتمثَّل بجَلْدِ المعتقل بشكل متواصل وعلى أنحاء الجسم كافّة، أو على العضو الُمصاب، أو على الأعضاء التّناسليّة ص٨٩- ٩٨).
ومن أخطر أنواع التعذيب ما ذكرته الدكتورة فردوس “التعذيب النفسي” الذي تعرض له المعتقلين الفلسطينيين ومنها:
١- التعذيب النفسي أو الحبس الانفرادي، خصوصاً أثناء فترات التّحقيق، والّتي كانت تستمر من ٣-٤ أشهر متواصلة.
٢- التهديد بالقتل وبالاعتداء الجنسي للمعتقل أو أحد أفراد أسرته، أو التّهديد بإبقائه في السجن لفترات غير محدّدة، أو هدم البيت وتشريد الأسرة.
٣- التعذيب الجنسي والتَّفتيش العاري.
٤- التخويف والترهيب: وفيه تُستخدم الأسلحة ويُرَشُ الغازُ في غرف المعتقلين أثناء اقتحام أقسام المعتقل، والّذي يحدث عادةً في منتصف الليل بعد أنْ يتمَّ قطعُ الكهرباء عن السجن.
٤- إهانة وتحقير القيادات والقيم والقضيَّة التي يؤمن بها المعتقل ص١٠٠- ١٠٨).
إنَّ القدرة التي تتميّز بها الدكتورة فردوس هي التي كانت تهبها الثقة بالنفس، والإيمان بعدالة قضية المعتقلين الفلسطنيين، وأنَّها قادرة على كشف الممارسات الإسرائيلية اللا أخلاقية، وكيفية توظيفهم لعلم النفس وعُلمائه في تكريس معارفهم وابتكار أبشع أنواع التعذيب بحق مناضلي الحرية والإنعتاق من سجون الموت الإسرائيلي٠
الدكتوراة فردوس دعتنا في كتابها إلى المشي على موج الكلماتُ، والترَاقُصُ كأزهار الروحِ الطاهرة على صوت الناي الفلسطيني؛ كمعنى للحرية.