ترانيم اليمامة- مذكرات أسيرات محرَّرات (في الطريق الى الحرية)
ترانيم اليمامة- مذكرات أسيرات محرَّرات
(في الطريق إلى الحرية)
أ. سليم النجار
من الصعب أن تبدأ الكتابة بتساؤل، لكن في هذه الحالات التي أكتب عنها لابد أن افتتح كلماتي بسؤال: هل استخدم الإحساس بموسيقى الكلمات وإيقاعها وصوتها، خاصةً وأنَّ الكتابة هي عن سيرة أسيرات فلسطينيات محرَّرات؟
أحب أن أؤكد أنَّ القضية ليست في تكوين أصوات جميلة للكلمات، بالرغم من أنِّي آمل أنْ أفعل ذلك بين حين وأخر، ولكنَّها موسيقى الأفكار والإيقاع الذي أسعى امتلاكه التحليل والتخيير الموجودان في موسيقى سيرة الأسيرات المحرَّرات.
كتاب “ترانيم اليمامة- مذكرات أسيرات محرَّرات”، صدر عن دار طباق للنشر والتوزيع رام الله- فلسطين – ٢٠٢٢.
يتناول الكتاب سيرة عشرة أسيرات يكتبن سِيَرَهن أثناء سجنهن في المعتقلات الإسرائيلية بتهمة مقاومة الإحتلال.
تحتوي سيرة الأسيرات على صوتين يسيران منفصلين، ومن المفروض أنْ ترى الصوتين وتكون واعياً لأثيرهما في الوقت نفسه. ومن الواضح طبعاً أنَّك لا تستطيع قرائتهما معاً في الوقت ذاته. فصوت الأسيرة المحرَّرة شريفة علي أبونجم- قريوت نابلس- سنة الاعتقال ١٩٧٨، التي عنونت سيرتها “ذكريات على أعتاب باستيلات الصهاينة”: (هجومنا من قِبل عائلة معروفة للأسف بالخيانة والجاسوسية، مسلَّحين من قِبل الصهاينة بأسلحة حيَّة، وبدأ إطلاق النار إثر مقتل جاسوس منهم اتَّهمنا بقتله. قتل والدي برصاص الاحتلال وجرحت والدتي بالرأس واليد والخصر وتم نقلها إلى المشفى، ولأجل المصادفة العجيبة كان هذا اليوم دون الأيام هو يوم مولدي. ص١٤). أمَّا الصوت الثاني: (في البداية كانت المشكلة سياسيَّة ولكن الصهاينة حوَّلوها إلى مشكلة اجتماعية للتأثير عليَّ أولاً وتبرئة العائلة العميلة وإرضائهم بما أنَّهم كانوا يزوِّدونهم بمعلومات عن المناضلين في قريتنا والقرى المجاورة. ص١٦).
إنَّ بوسع كاتبة السيرة أنْ تفهم القضايا الإنسانية الحقيقيَّة دون أن تصادر، عن وعي، التطوُّرات السياسيَّة والاجتماعيَّة اللاحقة. هكذا طرحت الأسيرة المحرَّرة تغريد محمد إبراهيم سعدي- سخنين:(أبوابه تقفل أنيابها فتفتح الأخرى وهكذا حتى نصل لفوَّهة المدفع، أنزلوني وقد بالغت في كثرة التفكير، لم أدع سيناريو إلَّا وعبر في ممرَّات رأسي، مرَّ ١٩ عاماً على اعتقالي ولا زلت أذكر لون الجرزة التي ارتديتها مع رقبتها الطويلة، كأنَّني أخشى على رقبتي يومها من عود مشانقهم. ص٣٧). وهنا تنطرح مسألة المنظور، وذلك تنميط ما لا يمكنه أن يكون ذات دلالة دائمة، إلَّا أنَّ كاتبة السيرة عرفت كيف ترسم المعنى الأساسي للمعتقل الإسرائيلي كما كتبت الأسيرة المحرَّرة عطاف داود عليان- سنة الاعتقال ٢٠٠٢، التي حملت سيرتها عنوان “قبس من نار عتصيون”، ذكرت تجربتها على الشكل الأتي: (اعتقلت أربع مرات كانت هذه الثالثة، في كل مرَّة كانت تختلف ظروف المواجهة، مجموع المدة التي قضيتها في الأسر أربعة عشر عاماً. ص٥٧).
إنَّ دور النمط في كتابة السيرة للأسيرات المحرَّرات ترتبط ارتباطاً واضحاً بالأخلاق، كما صوَّرت الأسيرة المحرَّرة أريج عروق- جنين، تم اعتقالها على حاجز حوَّارة- مدينة نابلس- سنة الاعتقال ٢٠٠٣: (أدخلتني إلى غرفة صغيرة، وفكَّت قيودي، قالت إخلعي ملابسك جميعها فرفضت ذلك، وبطريقة وحشيَّة شدَّت ثيابي حتى ظننتُ أنَّها ستُمزقها إنْ لم أخلعها بنفسي، خلعت ثيابي قطعة تلو الأخرى وبدأت تتحسَّس جسدي العاري كلَّه أحسَستُ بالاشمئزاز، ورفضت تفتيشها لي بهذه الطريقة، ما الذي تبحثين عنه في مسامات جسدي أيَّتُها الوقحة؟. ص٨٩). إنَّها ظاهرة أخلاقيَّة، جذورها الاجتماعية واضحة، وتُعزى إلى غياب المعايير الاجتماعية الموضوعة بالنسبة للفرد. وما هذا سوى نتيجة من نتائج النظام الصهيوني القمعي الذي يُملي معايير الخير والشر تِبعاً لاحتياجتهم السياسيَّة اليوميَّة، ورصدت الأسيرة المحررة لينا أحمد جربوني- عرابة البطوف- سنة الاعتقال ٢٠٠٣، والتي وصفت أيام اعتقالها بعنوان “أيام ثلاثون”: (نهضت وأنا أفكر بكلامهم، سِرتُ بخُطىً مُثقلة تخشى المستقبل والغيب، ماذا ينتظرني؟ وضعوني في السيَّارة، يا الله البرد شديد، تُرى ماذا فعلت أمي وأخواتي؟ لماذا لم يسمحوا لي بتوديعهم؟ تتزاحم الأفكار في ذهني وآلاف الأسئلة تطرق رأسي. ص١٠٥).
إذن، فها نحن أمام نظريَّة أخلاقيَّة صهيونيَّة خلقها من أجساد المرأة الفلسطينية المناضلة، حافلة بالتناقضات والبشاعة واللا أخلاقيَّة، التي تحفل في قتل آدمية الأنسان.
ويتبع قراءة نقديَّة ثانية للأسيرات الخمس اللواتي سَرَدنَ سِيَرَهن في كتاب “ترانيم اليمامة- مذكرات أسيرات محررات”.