رواية حين يعمى القلب للأسيرة المحرَّرة د. وداد البرغوثي
رواية حين يعمى القلب للأسيرة المحررة د. وداد البرغوثي
(عدوان الفكرة ونرجسية الشخصيَّات الرِوائيَّة)
أ. سليم النجار
توطئة
وداد البرغوثي مواليد ١٩٥٨ من بلدة كوبر “شمال رام الله”، تحمل درجة الدكتوراة في الصحافة والإعلام وهي أستاذة في جامعة بيرزيت. أسيرة محرَّرة وأم لأسيرين في المعتقلات الإسرائيلية وهما كرمل البرغوثي وقسَّام البرغوثي.
في الواحد من أيلول عام ٢٠١٩ اقتحمت القوات الإسرائيلية فجراً منزل وداد البرغوثي، وتم اعتقالها دون الاكتراث بمعاناتها مع مرض السكري وضغط الدم بتهمة التحريض على مواقع التواصل الاجتماعي. لديها أكثر من ٢٠ عملاً ومخطوطةً في مجال (البحث، الشعر، الرواية، القصص القصيرة، الزجل الشعبي، المسرح، الترجمة).
رواية “حين يعمى القلب” للكاتبة د. وداد البرغوثي نجد معظم شخصياتها- التي تكون كلها واقعة في فلسطين- يعانون من (عدوان العلاقات) الذي اتَّخذ أشكالاً مختلفةً تتَّفق مع تغيُّر الأهداف والسياقات، رُبَّما ساهم ذلك في ارتداد (غرائز الحياة) و(غرائز الموت) إلى مبدأ الثبات، فإذا كانت غرائز الحياة تستهدف خفض التوتُّر: (ثَمَّة دموع سالت على الخدودِ بغزارة، وسيول أخرى كادت أنْ تنحبس في المآقي، لولا خوفهم من أن يطعن أحد ما في رجولتهم بعد هذا العمر، كي لا يقال عنهم بكوا كالنساء ص٩).
تواجهنا الرواية بالوجود (السَّادي) الذكري والوجود (المازوخي) الأنثوي، منذ بدايتها تقول “وداد” كاتبة الرواية: (هذه القرية بأفراحها وأحزانها، بابتساماتها وكآباتها، بضيقها واتِّساعها هي العشق الأول والأخير بين كل الأماكن ص٦).
إنَّ (المازوخية المعنوية) ووظيفتها اللاشعورية هنا تصبح في إحساس الكاتبة المبكِّر بالتهديد بالنفي والتهميش، وعلى مدى أحداث الرواية يستمر هذا الإحساس بأنَّها أمام خطر خسارة مقابل إنقاذ الباقي.
ولأنَّنا اعتبرنا (المازوخيَّة) امتداداً (للساديَّة) في الرواية- من حيث ارتدادها على الشخص ذاته- عبر مفهوم (ثنائيَّة الوجدان) فقد توصَّلنا إلى الكيفيَّة التي رفضت من خلالها الكاتبة أن تظلَّ الجانب المفعول به حتى لا تقع تحت وطأة (عدوان العلاقات) والقوَّة المُطلقة من وجهة نظرها: (بدأت ألملم خيوط القصة، سألت نفسي: من أنا؟ عرفت نفسي، عرفت كل النساء اللواتي كُنَّ حولي، نظرتُ إلى السرير، تذكرتُ أنَّ لي طفلاً جميلاً كان يرقد ذات لحظة ص١٥).
فإذا اعتبرنا (النظاريَّة) ساديَّة، و(الاستعراضيَّة) مازوخيَّة، يُمكننا رؤية المناطق الغاضبة كمسارح عمل في الرواية تجلَّت في (النظاريَّة) القائمة على التطلُّع بالنظر إلى ما لدى الذكر، تقول عن رئيسها في العمل:(أولُ شيءٍ فَكَّرَ فيه يزيد أن تتخلَّص مؤسسته من شروق وسراج، فمِنَ المتوقع أن يُسبَّبَ هذان الشخصان المتاعب له. وراح يدوِّر الفكرة في رأسه، وربما سيستقيلان وهذا مُتوقع، فقد لمَّحا للأمر في أكثر من مناسبة. فهل يقيلهما أم يصبر حتى يستقيلا؟ ص١٦٢).
عملت الكاتبة على استحضار (الساديَّة الكامنة) في تركيبتها ليظهر السلوك الرافض (الرمزيُّ) عن طريق وصف المشهد الدراميِّ لسلوكِ الذكر، تقول: (فقد انتقل الآن من مرحلة السكرة التي عاش لحظاتها عندما زار شقيقته زينب بعيد مجزرة المخيم، وقال أمام وسائل الإعلام “لا تصالح على الدم حتى بدم” وواصل: هل نصالح بلعبةِ طفلٍ على دمِ أمه وأبيه؟ أم نصالح معهم بها رجلاً دم صاحبته وبنيه؟ ص١٦١- ١٦٢).
ولأن (المازوخيَّة) المعنويَّة تخدم (غرائز الاستلاب) فق قامت الكاتبة بنفي أقطاب المعاناة: نفي الخضوع للمؤسسات الأجنبية، نفي الرضوان لتلك المؤسسات، نفي الخوف من لقمة العيش، من تحمل المسؤوليَّة على انتشار هذه المؤسسات في فلسطين بعد سقوط الانتقام اللاشعوري عليها من خلال رفض التعاطي معها تقول: (لكل ذلك أقدِّم استقالتي، ليس هناك ما هو أسوأ من أن يعيش الإنسان في صراعٍ مع ذاته. وأنا لا أريد أن أعيش حالة الفُصام هذه. أن أعيش في عملي ما أرفضه في قصيدتي ص٩٢).
أوضحت لنا أحداث الرواية شخصيَّةَ الانتهازيِّ بغضِّ النظر عن الاسم، فهذا السلوك يستغلُّ الآخرين لتحقيق مآربه الشخصيَّة، فالنرجسيُّ يبتدعُ ذاتاً زائفة للتواصل مع الآخرين. والنرجسيَّة (التَّكيفيَّة) في شخصيَّة “الانتهازي” تستطيع التأثير في الآخرين، ولديها كفاية ذاتيَّة، وتستثمر قوَّتها في التسويق لأفكارها، وقد دفعتها نرجسيَّتها لاختيار العمل في مؤسَّسات تُموَّل من جهات مانحة، هدفها الأول والأخير خدمة مصلحتها في الترويج لثقافتها، وفلسطين المحتلة ممرٌ جيدٌ لتمرير هذه الثقافة. تقول الكاتبة عن هذا السلوك: (أسجل في دفتري ملاحظة: ورش عمل تُعلِّم الناس السرقة بشكل غير مباشر. ثلاث سنوات امتلأ خلالها دفتر ملاحظاتي، وامتلأ قلبي بالألم وامتلأت روحي بهمٍّ يثقلها لسنوات قادمة ص٧٣).
أشارت اللغة إلى الوجدان لفظيَّاً، رُبَّما ساهم ذلك في رصد أفعال الشخصيَّات، كما ساهم (المونولج الذهني) في إبراز العالم الباطن لشخصية “الانتهازي” الذي يحكي، وفعل الحكي هنا يُعدُّ آليَّة من أجل تكرار وجود “الأنا” في السيرة الذاتيَّة.
المحكيُّ النفسيُّ في الرواية أبرز للمتلقي (أنا) الكاتبة التي ساهمت الشخصيَّات في الرواية في خلقها٠ فتزامنيَّة (العلاقات/ الانتهاك) اتَّضح من خلال التناقض الوجدانيِّ والصراعات، وكانت المراهنة على العطاء والتفاني في خدمة قضيتها الوطنية التي لا تساوم عليها من استحالة الصفح عن الانتهازي الذي يمثِّل امتداداً للإسرئيلي بشكل مباشر أو غير مباشر. ولأنَّ (الهويَّة الذاتيَّة) للكاتبة لا تتم دون تعرية “الانتهازي”، كان انتهاء كل معاناة نفسية بتأكيد الخروج من تلك المؤسسات/ الصمود، وصولاً للتخلِّي عن المؤسسات التي كانت بمثابة إسدال الستار النهائي للحكاية.
لكن لا بدَّ من القول أنَّ رواية “حين يعمى القلب” للكاتبة د. وداد البرغوثي، هي محاولة البحث عن الحدود الفاصلة بين السيرة الذاتيَّة والمذكرات، من حيث المبدأ، فلئن جاز لنا أنْ نُساير النُّقاد في تأكيد قدرتهم على استشفاف السيرة الذاتيَّة من خلال ما تختص به من “نبرة” ونوعيَّة حضور و(تميُّز للصوت)، فإنَّه لا مناصَ لنا من الإقرار بأنَّ مقاييس كهذه ذاتيَّة مُفرطة في الذاتيَّة سليلة المذكرات، فإنَّها لم تخط في الواقع إلا باستقلالٍ ذاتيٍّ كبيرٍ لا يعادل ذلك الاستقلال الذي حظى به اسمها. إنَّ تاريخ هذا الاسم هو بدون شكٍ صورةٌ لطبيعةِ السيرةِ الذاتيَّة، مع ذلك لا يضبط لها حدوداً ولا يجعل لها قيوداً.