ثناء حاج صالح – ناقدة- نظرات نقدية في كتاب سرديات (زر وسط القميص)
ثناء حاج صالح -ناقدة – نظرات نقدية في كتاب سرديات (زر وسط القميص )
للكاتب والمصوّر الفوتوغرافي صالح حمدوني
العنوان بحد ذاته ( زر وسط القميص ) يمثّل لوحة سريالية التقطها الكاتب صاحب الخيال الفوتوغرافي بعد تركيز وتجريد وتأمل في شأن ذلك الزر الذي يستحق الوقوف أمامه كونه قد انقطع وهو في وسط القميص .
قبل أن أقرأ الكتاب أوحى لي عنوانه بصورة معنوية وجمالية مغايرة تماما لما يريد الكاتب الإيحاء به. فقد تخيّلتُ أن كل الأزرار في القميص قد انقطعت ، إلا ذلك الزر الذي بقي وحده وسط القميص يقاوم الانقطاع.
وبعد أن عرفتُ بأن دماغي قد قلبَ الدلالة المعنوية للصورة ولما أراده الكاتب منها، تساءلت عن الفرق بين الدلالتين وعن معنى ذلك الفرق. فاكتشفت بأنني متفائلة أكثر من الكاتب. وذلك لأن انقطاع الزر وسط القميص- كما يوحي الكاتب – يفتح فتحة أو ثغرة مزعجة وسط القميص قد تمنع ارتداءه . بينما يوحي بقاء زر وحيد في وسط القميص – كما تخيّلت أنا – بالمحاولات الأخيرة والمستميتة لرأب الصدع والمحافظة على الصلة بين طرفي القميص كي يبقى صالحا للبس.
لكن الألم الذي يريد الناصّ تصويره لا يتعلق بلبس القميص على الإطلاق ، وإنما يتعلق بالعلاقة بين الزر والعروة .
((كيف انقطع زر في وسط القميص حين شهقت بآخر الكلمات ، وكيف ترك العروة مفتوحة ؟)) .
ولا شك أن العلاقة الدقيقة بين الزر والعروة هي الأقوى في الدلالة المعنوية حينما يكون الحديث عن الفقدان والخذلان وضبابية المصير الموحش لكل منهما.
أم ما هي الحالة بالضبط ؟.
((الحالة يا أصدقاء لا أكثر من هواء ينط داخل شراييني ليقول بهزلية بأني غريب.
اللحظة التي أهم فيها بالتقاط صورة هي في الحقيقة لحظة التقاء أو تطابق بين أفكاري أو ذاكرتي والمشهد الذي أريد تصويره. وربما هذا ما قصده جون ستيوارت مل بقوله ( الصورة هي مزيج سريع بين التوقع والصدفة )
حين أذهب لأصور حياة الناس لا أذهب بعيدا وغريبا. )).
من يقرأ الكتاب عليه أن يشيد مثلي باللغة الشاعرية الماطرة الدافئة ذات المناخ الاستوائي، والتي انبعثت من مشاهد دمشق وحواريها وأزقتها وياسمينها، على الرغم من أن هذه اللغة تبدو أشبه بنفحات منبعثة من أجواء (دمشق محمد الماغوط ) في نصوصه التي يأتي فيها على ذكر دمشق ويسميها (شعرا منثورا ) والتي لا يمكن لها إلا أن تعلق في أذهان قارئيها مع أشياء أخرى تتعلق بأسلوب مخاطبة الإله ، وإن لم يشاؤوا ذلك.
والكاتب صالح حمدوني يذكر محمد الماغوط في كتابه كي يقف ضده في مقولته (( الفرح ليس مهنتي )) وذلك عندما يصف الفرح بأنه ((أصابع زجاجية تحكُّ الروح )) وهو يتفتت رغبة لممارسته في وقت الحزن الشديد، وفي لحظات القرف النهائي .
بعض نصوص صالح حمدوني جاءت مرتجفة وجدانيا ، مثل ذلك النص الذي تحدث فيه عن مأساة غرق قارب المهاجرين في البحر (ناديت والله يقترب).
(( وحين كان يهوي القارب مع الموج كنا نمسكه بقلوبنا
والله يتفرج ويقترب)).
ثمة توهان وجودي يريد أن يخرج منه الكاتب بأقل الخسائر وبأكبر سرعة ممكنة
((صليت لتأتي
صليت لأغيب فيك ، لأقترف خطاياي فيك
لأتحرر من جسدي
لأنصهر
ليخبو ضجيج الكون
فيك سيتوه الله)).
وربما يعود هذا الشعور بالتوهان إلى وحشة وجدانية عميقة تخيّم على لاوعي الكاتب، الذي يظل في حالة بحث دائم عن وطن مفقود رسّخته في عقله اللاواعي الحياة في المخيمات. الحياة في المخيمات التي لم يخض الكاتب كثيرا في تفاصيلها ، كما كنت أتوقع وأتمنى.
(( أنا منذ بدايتي ، منذ الداية والمختار ، أتورد ، وأتوزع كمؤن الـ UNRWA بين الأيدي )).
وقد قلتُ في نفسي : إما أن يكون حديث صالح حمدوني عن دمشق قد شغله عن تصوير تفاصيل المخيم، أو أنه قد تعمّد عن قصد أن يمرَّ عليه دون تأنِّ ؛ لأن نية الخروج منه ما تزال مهيمنة عليه . الخروج من المخيم إلى المدينة التي تأتي بعد ثلاثة شوارع، بهدف البحث عن ظهيرة ماطرة.
((ثم أبقى لأن كلماتي اضمحلَّت وبتُّ غير قادر على جمع المعاني والشرفات.
أو أبقى فأقيس عباءات الشوارع المزهوّة بفقرها وأنين الصغار.
أخرج لأبحث في ظهيرة تحاول أن تمطر.
ثلاثة شوارع بعدها المخيم )).
كل ما له علاقة بتكريس الصورة وإعداد مشهدها الذي ينبغي تجميده واحتجازه في الضوء كان مميزا جدا، وكان هو الأكثر جاذبية في هذه السرديات ، مما ينبئ عن ملكة فطرية في التصوير الفوتوغرافي قد تبناها العقل حتى في التعبير الكلامي. وكأن الكاتب يحيط تلك اللقطات البيانية بهالات أثيرية تجعلها تبدو مخصصة للإبصار والتبصّر أكثر من أن تُدرك بالقراءة العابرة؛ لذلك فإن القارئ يجد نفسه مسحوبا إلى ما وراء اللغة من إيحاءات فلسفية وجدانية تأخذ بالقارئ إلى ما هو أعمق.
في نصّه ( تعال ولا تأتِ) يتقمَّص صالح حمدوني شخصية المرأة العاشقة، و يتحدث عن نفسه بلسانها فيسهب جدا ويطرب في رسم ملامح شخصية رجل غامض فيه شيء من السماء ، وهو ذاته الرجل الحلم الذي تريده المرأة أن يأتي دون أن يأتي، كما ينبغي لنا أن نفهم أغنية فيروز ( تعا ولا تجي ) .
ولم أرَ هذا الموقف التعجيزي من المرأة الحبيبة مريبا في الواقع؛ لأنها حقيقة المرأة في كثير جدا من الأحيان . لكنني رأيتُ موقفها مريبا وغريبا في نص آخر (ورد في زقاق دمشقي خلف النوفرة) لأن الكاتب تقمَّص شخصيتها من جديد، غير أنه جعلها تتحدث عن حبها لدمشق لا عن حبها له.
فلماذا يتقمص الكاتب شخصية المرأة الحبيبة ليتحدث عن حب المدينة ، حتى وإن كانت هذه المدينة هي دمشق نفسها ؟
أليس في هذا التقمُّص خروج عن منطق التقمُّص في النص؟ .
وعلى العموم فإن الرؤى الفلسفية والحالات الوجدانية الحميمة التي تسكن النصوص كانت قادرة على بعث الأرواح في الأشياء الجوامد وأنسنتها، وليس عبثا ولا مجانا ؛ وإنما لكي تأتي اللحظة الإنسانية الحقيقية التي يتلمّس فيها الإنسان إنسانيته هو…وهذا هو ما يعطي هذه السرديات قيمتها القرائية .