“بتحلم بإيه؟”.. ساندرا نشأت و الشخصية المصرية
“بتحلم بإيه؟”…
ساندرا نشأت والشخصية المصرية
هل فكرت بحلمك من قبل؟ متى؟
قبل لحظات من نومك، بعد يوم عمل شاق، أم حين تغوص داخل أحلام يقظتك لدقائق أو ربما لساعات، لتستيقظ في اليوم التالي باكرًا لتذهب إلى عملك اليومي.
لكن ماذا لو اِستوقفك أحدهم بالطريق إلى عملك يسألك عن حُلمِك، بماذا ستجيبه؟
حدث هذا قبل سنوات، تحديدًا في العام 2014، أي بعد ثلاث سنوات من ثورة الخامس والعشرين من يناير، التي حركت معلقة في وعاء الحلم الراكد، إذ خرجت علينا المخرجة ساندرا نشأت بفيلمها القصير “بتحلم بإيه”، والذي يعد الأغرب فكرة، وتصويرًا، وإخراجًا، وتمثيلاً.
والمعروف في عالم السينما إن الأفلام القصيرة هي إنتاج خالص لوجه الفن، بعيدًا عن شبهات أرباح الشباك المادية، وما تلقيه من قيود حول العمل الفني، فهي وليدة إبداعٍ خالصٍ؛ إلا أن الفيلم اِستطاع كسر التابو بركائزه الأربع الأساسية.
فجاءت الفكرة على هيئة سؤال مطروح، والتصوير خارجي، متنقلاً بين مُدن مصر وقراها، أما الممثلين فكانوا أفراد الشعب ذاته في ثيابهم العادية، وتبسطهم المعهود في الحديث، وبالرغمِ من تِلك السِمات المشتركة؛ جاءت ردود الفعل متفاوتة، بمجرد طرح السؤال فمنهم من تفاجأ وتلعثم، وأخر رفض التوقف للحديث للعجلة أو تشككًا بالسائل، وكثيرون لم يأخذوا السؤال على محمل الجدِ.
اما من تفاجأ فقد بدا السؤال عجيبًا على مسامعهِ، وجاءت تعبيرات وجهه كفيلة بالإجابة، وربما أجاب متسائلاً عن مفهوم الحلم من الأساس، ومع الوقت بدأوا يقرون بالحقيقة الغائبة: إننا لا نحلم، وذلك بقولهم: “أنا مبحلمش”، ليأتي السؤال التالي إنعكاسًا لقدرة المخرجة الشابة على اِقتناص خبايا الحديث، ووضعه في مسار ترسم معالمه بيدها، ليتحول السؤال إلى حوار متبادل، يكشف حقائق خفية من النفس. فتتسائل: “مبتحلمش ليه؟”، فصمت البعض بينما جاءت إجابات أخرين حاضرة كواقع حياتهم: “مبحلمش أثناء العمل”، “الحلم وقت النوم”، “الأحلام مبتتحققش عشان كده إسمها أحلام”.
ثم تتابع لقطات الفيلم، وتتبدل الموسيقى بالخلفية، فتبدو أكثر تفاؤلاً وحلمًا حين يبدأ بعض المواطنين في الاستجابة للسؤال، والحديث عن أحلامهم، لتتجلى حقيقة أشد إيلامًا من سابقتها، عجزت حتى الموسيقى المرحة بالخلفية عن إخفائها، على شاكلة “أحلم أحج، أصل أحلامي كبيرة”، “أحلم بالستر”، “أحلم برحة البال”، “بحلم الحاجة ترخص”، “بحلم بشقة وأتجوز”، “أحلم بشغلانة لابني العاطل”، “بحلم بكشك أبيع فيه بضاعتي”.
نعم، المصريون يحلمون بما يسميه مواطني الدول الأخرى حقوق، أو بالأحرى وصفهم بمواطني عالم أخر، تختلف فيه كينونة شخصيتهم عن كينونة نظيرتها المصرية، التي عاصرت سنوات قحط، وحروب، وأمراض حتى تبدلت ملامحها، وباتت أكثر خنوعًا للظروف، وقناعة بالموجود، بل ودربوا أجسادهم على التكييف، تمامًا كعقولهم، فتبدلت قناعاتهم وأحلامهم، وأصبح “إرضى بالقليل” ليس مجرد شعار، بل أسلوب حياة، فرض أبعاده عليهم، وحاصرهم حتى بات واقعهم.
لكن يبقى الاختلاف سُنة الحياة، ومن اللافت للنظر هؤلاء القلائل الذين اِمتلكوا أحلامًا وتحدثوا عنها، وكان معظمهم من الشباب والأطفال، فقال أحدهم “أحلم أبقى مهندس”، “أحلم أبقى مغني ” “أحلم بالمتعة”، “أحلم بالضحك في وجوه الآخرين”، “أحلم بثلاثة مليون جنية”.
وهؤلاء كانت تأتيهم الردود سريعة من المحيطين بهم “إحلم على قدك”، أو يتولى هو نفسه الإجابة بضحكة متسربة من نفسه، أو نظرة اِستهتار لحلمه. هنا يأتي النوع الأخير، وهو هؤلاء الذين يحلمون لأبنائهم، ولا يملكون لأنفسهم أحلامًا، وهم غالبية عظمى من المصريين، ولو اِنتبهت لتلك السمة، لملكت زمام المصريين بحق؛ فهم شعب يحيا لأجل أبنائه، أو ربما يجد فيهم سببًا للحياة، بمجرد إنجابهم يتنفس الآباء من صدور أبنائهم، ويصبح الأبناء محور حياتهم، وهي العقدة العظمي لدى الشباب، ويصعب تسميتها بغير “عقدة الحب”، الحب القادر علي قتل صاحبه ومحبوبه أحيانًا.
وهم يتركون أحلامهم بدافع فرضية وضعها المجتمع، تقول إن: “الوالدين، ولاسيما الأمهات، لا يجوز أن يملكن مساحة خاصة بمجرد إنجابهم، فيصبحن ممتلكات خاصة لأبنائهم، و لذا فهم يتوقعون من أبنائهم أن يكونوا على مستوى التضحية، ويفنون حياتهم في سبيل تحقيق أحلام أبائهم، كرد لتضحيتهم”.
وهكذا تستمر الدورة، أجيال تدور في دوائر مغلقة من الصراعات والأخطاء والنتائج المتكررة.
ولعل المثال الأبرز على ذلك هو مشهد تمخضت عنه الثورة في أم أحد الشهداء بالميدان تقول “لقد قتلوا حلمي بالأمس”.
لكن يبقى هناك أمل، أتمنى ألا يموت، تمثل في صغار اِستقبلوا الكاميرا بعيون فضولية شغوفة، وفاجئوها بأحلام، تعدت حدود المكان المحيط بفقره، ومحدوديته، والزمان بماهيته اللامحددة، ويرجع ذلك لفطرتهم النقية، بفضل حداثة عهدهم بالحياة، فبقيت أحلامهم حرة كالعصافير.
ولو أردنا الحديث عن كل إجابة وما تعكسه من نفس صاحبها لطال المقال إلى ما لا نهاية.
بالنهاية، ربما لم يكن السؤال إلا بداية لفتح حوار متبادل؛ لكنه برأيي بدا السؤال الأهم لأنه سؤال إنساني بحت، مستحيل توجيه لغير خليفة الله لأنه وحده المُكرم بأحقية اِمتلاك حلم، والقدرة على تحقيقه.