قراءة تحليلية لديوان الشاعر حميد عقبي “ملاك موت بلا وطن”
قراءة تحليليّة لديوان الشَّاعر حميد عقبي “ملاك موت بلا وطن”
أ. صبري يوسف
حميد عقبي، مخرج سينمائي، كاتب وصحفي وفنّان تشكيلي يمني، مؤسّس ورئيس المنتدى العربي الأوروبي للسينما والمسرح. أخرج عدّة أفلام سينمائيّة قصيرة، وأنجز عدّة سيناريوهات لأفلام طويلة وقصيرة.
نشر أكثر من 27 كتاباً إليكترونيّا في السِّينما والنّقد السِّينمائي، وفي المسرح، والقصّة. وأجرى العديد من الحوارات الأدبيّة والفنّية وأصدرها ككتب في أدب الحوار. وأقام العديد من المعارض الفنّية الفرديّة والجماعيّة. ولديه ديوان شعري مشترك مع شعراء يمنيِّين.
***
أهدى الشَّاعر ديوان “ملاك الموت بلا وطن”: “إلى أبي الَّذي لم يكُنْ شاعراً لكن علّمني الخيال”. وفي استهلالِ الدِّيوان يقولُ الشَّاعر: “يعجزُ المرءُ أن يكتبَ عن نفسِهِ ومنتجِهِ الشِّعريِّ والأدبيِّ والفنٍّي، هذا النَّص المفتوح، والَّذي كثيراً ما أعيدُ قراءتَهُ، يكادُ يلهمُني نصَّاً مسرحيّاً، إنّي أحسُّهُ يكادُ يتفجَّرُ مسرحاً، وأعتقدُ انّني أقرب إلى السِّينما والمسرح منه إلى أنشطتي كالشِّعر وكتابةِ القصّةِ والرَّسم، إذ أنّها تكادُ أن تكونَ انعكاسات أو أشكالاً أخرى لرغباتي السِّينمائيّة والمسرحيّة، ولعلَّ ما جعلني أتأخَّرُ كثيراً في نشر منتجي الشِّعري، وهنا أشكر الشاعر والناقد الأستاذ حكمت الحاج والأعزّاء في سلسلة منشورات كناية ترحيبهم بنشر هذا المنتج..”.
كتبَ الشَّاعر حميد عقبي هذا الدِّيوان ضمن سياقِ (النّص المفتوح)، وهذا الاصطلاح يمكنُ إدراجُهُ في بناءِ النَّص الشِّعريِّ، إذ تتفرّعُ فضاءاتُ النَّصِّ في فضاءِ المسرحِ، والتَّشكيلِ، والسِّينما، والقصّة، والشِّعرِ أيضاً، لهذا اُطلِقَ على هكذا نموذج أدبي النّص المفتوح، ولهذا تركَ الشّاعر النُّصوص/ المقاطع الشِّعريّة، من دونِ عناوين شعريّة، فجاءت كنصٍّ مفتوحٍ، وفي مدخلِ أوَّلِ نصِّ من الدِّيوان يقول عقبي:
“أظنُّ أنّي شاعر”، والفعل أظنُّ يحمل بين ثناياه نوعاً من الشَّكِّ، وفي السَّطرِ الرَّابع يعلنُ الشاعر صراحةً ما يلي: “لم أكُنْ شاعراً يوماً ربّما لن أكونَ”، ..
ثمَّ يتابعُ استكمال نصَّه منتقلاً من صورةٍ إلى أخرى بإيقاعٍ وعينٍ مجنّحتَينِ نحوَ فضاءٍ سينمائيٍّ، وفي معظمِ نصوصِ الدِّيوان نلمسُ رؤيةً للشاعرِ ووجهةَ نظرِ وموقفاً معيّناً، يقدّمُ هذه المشاعر بمختلفِ أنواعِها في فضاءِ النُّصوصِ. وفي بدايةِ نصٍّ آخر يقولُ الشَّاعر: “لم تَعُدِ الفتيات يلبسْن حمالاتِ الصَّدرِ، يتفاخرُ أغلبهنَّ بحمّالاتِ الثَّدي المثيرة”. ثمَّ يجنحُ نحوَ تجسيدِ فضاءاتٍ مفتوحةٍ على محرابِ الخيالِ، واصفاً الطبيعةَ، وبعضَ التّقاليدِ السّائدةِ، ومشاعرَهُ، ورؤاه، مركِّزاً على خيالِهِ المتدفِّقِ مثلَ موشورٍ لونيٍّ، كإنَّنا إزاء تشكيليٍّ يرقصُ بأفكارِهِ، حتّى وإنْ جاءَتْ متلاطمةً في انبعاثِها!
يكتبُ حميد عقبي نصَّهُ باختزالٍ، لا يتقيَّدُ بتسلسلِ الصُّورِ، أو الأفكارِ، بقدرِ ما ينسابُ معَ خيالِهِ، وتداعياتِ أفكارِهِ، وكأنّهُ في حالةٍ حلميّةٍ مفتوحةٍ، تاركاً رؤاهُ الحلميّة في أوجِ اندلاقِها تعبِّرُ عمّا يراودُهُ. تبرزُ مفردة العشيقة في نصِّهِ، لكنَّها على الأرجحِ هي محرّكُ النَّصِ من بعضِ الوجوهِ، ولا نجدُ مدلولاتٍ على أنّها عشيقة بقدر ما هي حالةُ اندفاعٍ لتعميقِ النَّصِّ، بترميزاتٍ معيّنةٍ، ففي كلِّ ظهورٍ لها نجدُ مدلولاتٍ لهذا الظّهورِ، نادراً ما يقصدُ بها العشيقةَ، إذا نراهُ ينتقلُ إلى فضاءٍ بعيدٍ كلَّ البعدِ عمَّا يمكنُ أن يُحيطَ بعشيقة، فنراهُ يحلِّقُ في آفاقِ عجائبِ الأديانِ، عائداً إلى واقعِ الحياةِ المريرةِ، كأنَّهُ في حالةِ تساؤلٍ مفتوحٍ. تتنوَّعُ مشاهدُ الصُّورِ الشّعريّة، الّتي يصوغُها بلغةٍ سلسةٍ وعميقةٍ وسهلةٍ، تنبجسُ توهّجاتُهُ الشِّعريّة من خبرةِ سِنينَ، ومن ثقافةٍ متنوِّعةٍ في آفاقِ الفنونِ والأدبِ، ويفترشُ هذهِ الآفاقَ فوقَ جبهةِ الحياةِ، ولا ينسى الوقوفَ عندَ هيبةِ الموتِ بكلِّ جبروتِهِ، ومعَ هذا لا يأبه بهِ، وكأنَّ الموتَ أصبحَ جزءاً من سيرورةِ الحياةِ، وسرعانَ ما نراهُ يحلِّقُ في فضاءِ اللَّيلِ، مرفرفاً فوقَ أمواجِ البحارِ، يتحسَّسُ برودةَ الحياةِ، فيتراءى لهُ الوطنُ الحزينُ حزيناً للغايةِ، مسلِّطاً حرفَهُ على حالةِ المللِ والحيرةِ المصاحبةِ لكلِّ الأطرافِ المتناحرةِ والمتحاربة في وطنهِ!
يرى الشّاعرُ أنَّ كلَّ الحروبِ هفواتٌ معتّقةٌ بالحماقةِ، والأنانيَّةِ، بينما يرى حالةَ العشقِ مخرجاً لمعانقةِ السّماءِ والوئامِ بينَ البشرِ، وتجنِّبُنا ضراوةَ الحياةِ وحروبَها المجنونةِ، كما يرى أنَّ الموتَ والعشقَ هما ولادةٌ حقيقيّةٌ، وانبعاثٌ جديدٌ، ويحيلُنا الشَّاعرُ إلى الكثيرِ من التَّأويلاتِ والتَّساؤلاتِ عبرَ تنوّعاتِ مواضيع نصوصِهِ الشّعريّة!
وتتضمَّنُ أفكارُ الشَّاعرِ أبعاداً فلسفيّةً في بعضِ تجلّياتِهِ الشِّعريّة، وقد استفادَ من ثقافتهِ السّينمائيّة والمسرحيّة، والأدبيّة المتنوّعة، لهذا نراهُ يحلِّقُ في العديدِ من الآفاقِ، وأحياناً تبدو غير متجانسة لكنّها تحملُ عمقاً شعريَّاً.
وللمطرِ حضورُ بهيٌّ في انبعاثِ خيالِهِ الشِّعريِّ، ويؤلمُهُ أنَّ بلادَهُ محرومة من المطرِ في سنواتِ الحربِ، ويتساءَلُ في سياقِ نصِّه: “هل لملاكِ الموتِ وطنٌ؟! ثمَّ يتمادى في تساؤلاتِهِ قائلاً: “هل له صديقة، أو عشيقة؟! أتظنُّونَ أنّه سعيدٌ في مهنتِهِ؟! فلا يرى حرجاً أن يسألَ ما يشاءُ في رحابِ تدفُّقاتِهِ الشِّعريّةِ!
يحلِّقُ الشَّاعرُ عالياً، إلى درجةٍ يُخيَّلُ للقارئِ أنّهُ في حالةِ هذيانٍ في بعضِ الأحيانِ، لما في رؤاه من جموحاتٍ وغرائبيّةِ، فهوَ القائلُ:
“لم أكُنْ مخموراً بما فيه الكفاية/ لم أكُنْ فاقداً للوعي/ أحاولُ تصديق نفسي/ أحلامي/ هذياناتي المرعبة”. هذا تصريحٌ منه على أنَّ جموحَهُ الشِّعري مفتوحٌ على فضاءٍ غير محدود.
تمتازُ نصوصُ هذا الدّيوان بوهجٍ قصصي في بعضِ مساراتِهِ وتحليقاتِهِ، ويمكنُ للمتابعِ والقارئِ الحصيفِ، أن يستوحيَ من رؤاهُ الكثرَ من القصصِ، والكثيرَ من المشاهدِ السِّينمائيّة والأفكارِ المسرحيّة فعلاً، كما قالَ هو بنفسِهِ في استهلالِ الدِّيوانِ، إذ وجدناه كيفَ كانَ ينتقلُ من فكرةٍ إلى أخرى برشاقةٍ عاليةٍ، وبلغةٍ رهيفةٍ توائمُ هذهِ العالم الأدبيّة، فهل كانَ الشَّاعرُ يَخرِجُ نصَّهُ المفتوحَ هذا، وهو يكتبُ شعرَهَ من تجلّياتِ لاشعورِهِ المبدع. وإلَّا كيفَ تناغمَتْ كل هذه التَّداخلات الأدبية والفنِّية ضمنَ سياقٍ شعريٍّ، بحميميةٍ شاعريٍّة وبهاءٍ مسرحيٍّ مسروجٍ برؤيةٍ سينمائيّةٍ، منبجسةٍ من مشاعرَ وأحاسيسَ وهواجسَ متهاطلةٍ مثلَ زخّاتِ المطرِ فوقَ
نصاعةِ الورقِ وكأنّهُ في حالةٍ حلميّةٍ مفتوحةٍ على ذاكرةٍ مجنّحةٍ على مساحاتِ العمرِ.
يكتبُ الشَّاعرُ فضاءَه الشِّعريِّ بلغةٍ سهلةٍ، بعيدة عن الغموضِ، معَ أنّها مكثّفةٌ بالصٌوِر والتّرميزاتِ والمدلولاتِ، وقد تندلقُ منه كلمةٌ من هنا أو هناك لا تستهوي ذائقة القارئ، أو ذائقتي على الأقل، إذ يقول:
“رغبتي إلى التَّبغِ تزدادُ شراهةً/ رغبتي إلى شفتيها/ إلى مداعباتٍ وقحةٍ/ إلى أفعالٍ لا نفصحُ عنها لا أنا ولا هي.”.
حقيقةً صدمني الشَّاعر عندما قال: “رغبتي إلى شفتيها/ إلى مداعبات وقحةٍ!” برأيي أنّه من غير المناسبِ أن يقولَ الشَّاعرُ: “إلى مداعباتٍ وقحةٍ!”، لأنَّ المداعبات هي أجمل ما في الكون، فتأتي وتعتبرُها وقحة! هذه الصِّفة لا تناسب شعريّاً ولا تتواءَمُ على أرضِ الواقع! فلا بأس أن تغيّرها: “إلى مداعباتٍ رهيفةٍ”.
أديب وتشكيلي سوري