عصب سابع
أ. لطيفة لبصير
اررررتباك…
يحدث ث ث ث ث ث…
شيء أشبه بخلل في توازن الوجه. مددت يدي لأمسك بالشفة السفلى حتى أعيدها إلى مكانها، لكنها أفلتت مني ثم سقطت.
قفزت بسرعة إلى المرآة، كان الوجه قد مال إلى اليسار قليلا وارتخى، وكان الحاجب قد علا جهة اليمين وجحظت العين بشكل يشبه أبطال القصص الكارتونية. حاولت أن أعيد الشفة إلى مكانها لكن ذلك بدا صعبا جدا. وأنا أحاول ارتداء ملابسي، شرعت أقرص وجهي مرات عديدة، ولم أكن أدري لماذا فعلت ذلك في تلك اللحظة عينها…ألأن الجسم يمكن أن يخدع الانسان في هنيهة صغرى من الزمن أم لأن ذكريات من زمن غابر تداعت الآن ؟
ينظر الطبيب بهدوء تام، ثم يشرع في حركات روتينية وكأنه لا يخشى أن يرتخي جسمي كله، يقول لي:
- أغلقي عينك اليمنى. حركي فمك إلى اليمين …إلى اليسار…أنظري إلى هذا القلم…تابعيه..يمين …يسار…يمين …يسار..
قلت له بارتخاء شديد:
- دكتور…ماذا سنفعل الآن؟
قال لي وكأنه يتحدث عن فطوره الصباحي المعتاد:
- لا تخافي…ما وقع قد وقع…
ثم أعاد تثبيت نظارته السميكة على أرنبة أنفه، ونظر إلى عيني بالهدوء المخيف نفسه، وقال بلغة فرنسية أنيقة :
- C’est une paralysie faciale
وبالهدوء نفسه الذي تحدث به، أجبته:
- وما العمل؟
رد علي وهو يعيد النظر في تفاصيل وجهي:
- نبدأ فورا في العلاج…
- كم سيأخذ من الوقت؟
- في الحقيقة، مع هذه الأمراض لا نعرف …الأمور تتحسن بالتدريج…
ثم أردف بهدوء:
- إنسي الفن والقراءة والعائلة والخيال …إنسي الرسم قليلا…إنسي نفسك كي تشفين…
تتراءى لي خالتي زهيرة يوم عرسها، كان قد مر على هذا العرس أكثر من ربع قرن، ومع ذلك ما زلت أراها كما لو أن الأمر وقع بالأمس. كان وجهها الصغير الجميل قد كمم بعناية فائقة بكل أشكال الأثواب الخضراء والبيضاء، ثم قامت جدتي بعد ذلك بتلفيفها بمئزر ثقيل، ثم طوقتها بثوب مزركش في نهايته جيب وضعت فيه كموسة الحناء والشبة والحرمل، وهي تردد على مسامعنا أن ذلك يدرأ عنها العين الحاسدة.
كنت أتأملها وقد تبدت مثل الفزاعات التي تكتسح كل الجنائن حتى لا تسرق الطيور حبات العنب اللذيذة، ونحن نطوف بها عبر جولة طويلة الأمد وكأنها تودع الدوار الذي نشأت فيه بما فيهم صويحباتها والأماكن التي كانت ترتادها وهي عازبة .
كنا نغني أغاني من كل حدب وصوب تباعا كأنها موضوعة في شريط متصل. فما أن تنطق الكلمة الأولى، حتى تتبعها الطبول بعناية فائقة تسمع من خلاله ذلك القرع المنتظم وكأنه يطنطن في كل بقاع الدنيا، وكانت النساء يغنين بصوت مرتفع :
- وديري علاش ترجعي أيا الواقفة في الباب…ديري ذهب وخزنيه أيا الواثقة ف الراجل…ديري دار وبركي أيا الواقفة في الباب…أديري أولاد واحشمي…أيا الواقفة في الباب…
وبعد أن طفنا بها الطواف الكبير، عدنا في موكب تعاظم بعد أن التف حولنا كل أطفال القرية وكلابها وحميرها وقططها ودجاجها وفراخها وربما حتى فئرانها وأفاعيها السرية… كانت العروس تبدو مثل أميرة نائمة فوق الحصان.
أيقظني صراخ جدتي وهي تولول حين أنزلوا زهيرة وتفقدتها وقد برز شحوب وجهها مثل لوح بارد أبيض اللون. صياح جدتي وكلامها الذي لم أفهمه وهي تمسك بوجه زهيرة وتولول، أستعيده الآن وأنا أرقب وجهي:
- أويلي ضرباتها العروسة…أويلي ضرباتها العروسة اللي مكتسماش…
كانت جميع النساء قد شرعن في الولولة والضرب على أفخاذهن، وهن يبكين الحظ العاثر للعروس التي أصابتها هذه الحالة الغريبة التي لا يستطيع ذهني الصغير أن يفهمها .
نظرت إلى الطبيب وهو يكتب أدوية كثيرة بالهدوء نفسه، أحاول أن أستوعب لماذا حدث ذلك في فترة كنت فيها سعيدة.
قال لي: يمكن أن تكون ضربة برد قوية أو فيروس…
قاطعته: مثل كورونا…
قال لي: لا علاقة لكورونا بهذا المرض. إنه مرض قديم…
ثم أردف بابتسامة صغيرة:
- الحمد لله أن كورونا ستجعلك ترتدين الكمامة دون أن ينتبه الآخرون…
أجبته بالابتسامة نفسها :
- أصبحنا نحمد الله على كورونا الآن !
أتذكر زهيرة، لأنني أصبحت أشبهها حقا، وكأن العروس قد عادت لتضربني أنا الأخرى. كنت أسأل نفسي : كيف ضربتها العروس؟ أليست هي العروس؟ !
في المنزل تباطأ الزمن وتمطط، فبين اللحظة والأخرى أنهض إلى المرآة وأتحسس وجهي . كنت قد وضعت كرسيا وجلست عليه أحاول أن أبتسم أو أكتئب، لكن وجهي لا يعكس أية مشاعر، بل كان لا يستطيع أن يشرب قطرة ماء، كان الماء ينزل من فمي على صدري .
يقول إبني الصغير:
- ماما إن وجهك مال سنتيما واحدا…
أدرك بأنه يكذب، لكنه لا يريد أن يخبرني أن ملامحي قد تحولت إلى عالم آخر تماما، وأنا في برج المراقبة أحدق جيدا.
لم أستطع أن أبتعد عن المرآة، وكأنني أرى نفسي مثل طفل يكتشف صورته للمرة الأولى، أتحسس وجهي ثم أشعر بأنني أراقب الوجه حتى لا يميل أكثر.
كان دوار دكالة قد نقل الخبر حتى وصل إلى العريس بأن العروس قد ضربتها “العروسة” أثناء زيارة الأولياء. كنا قد حججنا إلى سيدي بولكوان وقمنا برش الحليب وتوزيع التمر والتين على المحتاجين، وأشعلنا شمعا كثيرا بينما كانت معظم النساء يقرأن المعوذتين على العروس حتى لا يصيبها حسد الأخريات اللواتي لم يتزوجن من بنات القبيلة.
جاء العريس مع عائلته ثم تفقدوا العروس وهم غاضبون جدا لما حدث ثم عادوا أدراجهم، بينما بقينا نحن الصغار ننتظر أن نفهم ما يحدث، كانوا يولولون وهم يتشدقون بكلمات مغمغمة، منها أن العريس وهو ينظر إلى الأسفل قد كرر على مسامعنا وهو يغادر البيت هذه الجمل:
- شحال خسرنا عليها تاع الفلوس…ربي يعوض علينا …الله يصبرنا…الله يعوضنا…
كنت أشعر بأن خالتي تودع إلى غير رجعة، فقد امتلأ المنزل بسيدات مكتنزات جدا أحضرتهم جدتي، جئن يحملن معهن أنابيب طويلة ومعدات ملفوفة بعناية. أطللت من وراء الستارة التي أسدلتها جدتي حين دخلت ورأيت الدخان يتصاعد إلى الأعلى، كانت رائحة بخور غير طيبة تعلو المكان وترسم دوائر سوداء في الأفق ثم تتلاشى، أحدق جيدا وسط الدخان فتتراءى لي سيدة تمسك أنبوبا طويلا تقوم بسحب ما بداخله ثم تنفته باتجاه العروس التي ما أن يصل إليها حتى تداهمها كحة محشرجة، فتنهرها المرأة:
- أصمتي يا حمقاء…ستخرج منك هذه العروس التي ضربتك … سترين…
أمسك بوجهي قليلا ثم تراني جدتي فتنهرني بأن أغادر، فأرجوها أن تتركني، فتقول لي:
- العروسة تشيرات…ابعدي …دابا تضربك…
لم أفهم شيئا، كان ذلك غامضا جدا، فقد كانت العروس تتألم وهن يكثرن من البخور والأدعية ويدثرنها بأغطية صوفية في عز الحر حتى تلتهب، ثم يأخذن قنينات الماء ويتمتمن بكلام غير مفهوم ثم يرششن الماء على وجهها، فيتقافز الوجه كأنه وخز بإبر حادة. كانت تتألم بصمت، وفجأة شرعت إحداهن تشير إلى العروس وهي تستغرب:
- ها هو وجهها يتحرك…
أنظر إليها ثم أعيد النظر إلى وجهي الذي بدا شبيها بالعروس ليلة زفافها في ذلك اليوم العصيب من أيام الصيف الغابرة.
ما زلت في مرحلة المرآة، أعيد ترتيب الوجه بيدي، لكنه لا يريد. يقول الطبيب إن العصب السابع هذا قد أصابه التهاب حاد فتلاشى، وسيكمل دورته العادية ثم يعود. أحاول تحديد مدة الدورة، لكن لا يعلمها إلا الله قالها وهو ينظر إلي ليختبر مدى اصطباري.
كانت أشياء كثيرة قد تغيرت في تلك اللحظة، منها أنني لا أستطيع أن أقضم على الطعام بذلك الشكل الدائري السحري الذي يشبه دورة كاملة وكأنه بصدد النقر على رقم هاتف منزلنا القديم. بدت الساعات بطيئة جدا ورأيت أمامي فجأة امرأة سمينة جدا أحضرتها صديقتي دون إذن مني . أنظر إلى عينيها الجاحظتين فأدرك أنها تشبه النساء اللواتي كن جنب خالتي زهيرة، ثم بدون أن تلمسني المرأة قدمت الكشف:
- خاصها تحجب سبع أيام على الناس وخصني نبخ عليها كل نهار ونقرا عليها القرآن في قرعة ديال الماء تشربها غير بوحدها…
أشعر بضيق من حضور هذه المرأة وأومىء لصديقتي بأن تصرفها. نظرات صديقتي كانت كأنها تريد أن تطرق كل الأبواب، لكنني لا أستطيع أن أرضخ لهذه الطقوس، وأمام إلحاح صديقتي قلت لها:
- هل تريدينها أن تنفخ في وجهي في زمن كورونا هذا…افرضي أنها مصابة بالفيروس، هل أضيف وباء إلى هذا المرض؟ !
أتذكر خالتي زهيرة وقد حجبتها جدتي عن الأنظار لشهور متعددة وشاع في القرية بأن العروس قد جنت، ولذا هم يخبئونها كي لا يشمت فيها الأعداء وطلقها العريس إلى غير رجعة وهو يسب الأهل والقبيلة ويعتبرها لعنة حلت به حين فكر في الزواج خارج قبيلته.
استيقظت على صوت الطبيب :
- ستتناولين الكورتيكويد والمنغسيوم ، قللي الملح والسكر، وستبدئين في الترويض الأسبوع القادم…
أنظر إليه وأنا أفكر بأن هذا الرقم السابع يطاردني، فإصابتي بدأت يوم السابع من مارس واكتملت يوم الثامن مارس، هل هو مجرد صدفة في هذا الزمن؟ !
الرقم السابع في حياتي يتكرر في كل حين، شأنه شأن كل شيء يدور حتى يصل إلى الرقم السابع الذي يرن، أتذكر بأن هذا الرقم رقم حظ بالنسبة إلى الكثير من الأساطير، يقول الطبيب:
- كفي عن فلسفة الأشياء، الحياة أبسط من الأرقام… ! كفى من تخييل كل شيء، العالم حقيقي…
أنظر إلى وجهي وأخمن أن كل ما حدث يمكن أن يكون حلما. منذ شهور وأنا أضع الكمامة على وجهي كي أخبىء اعوجاجه، وأقول لنفسي بأن الوباء أحضر الكثير من الأشياء التي استعنا بها مثل الكمامة الآن، ثم أشرع في توظيف الرقم السابع لصالحي، وتبدأ الحياة لدي في سبعة أيام. في كل يوم، أضع برنامجا فيه سبع ساعات منها للترويض ومنها لمشاهدة أفلام قديمة بالأبيض والأسود، ومنها للغرق في صوت أم كلثوم بهدوء ومنها مراقبة المرآة والبداية في إعادة ترتيب الوجه.
ثم ذات يوم خرجت بدون كمامة ، كنت أشعر بأن وجهي قد عاد إلى حالته الأولى، لكن العيون والاشارات والغمزات والهمسات وأصوات الجيران والصيدلي والبقال وال….كانوا يميلون رؤوسهم قليلا حتى أشعر بأن الوجه مائل، لكنني كنت أراه قد استوى وعاد إلى حالته الطبيعية.
نظر الطبيب بهدوء وقال:
- ما زال هناك بعض الاعوجاج، يمكنك وضع الكمامة …الحمد لله أنها موجودة
- لكنني يا دكتور قررت ألا ألبس الكمامة بعد اليوم…أنا لم أعد أرى الاعوجاج..
- افعلي ما تريدين…
وشيئا فشيئا بدأت أعد أيام الأسبوع، وفي يوم سابع من أسبوع ما، أشرق وجه الطبيب وصرخ بفرح جميل:
- يا إلهي لقد عاد وجهك إلى مكانه …إن كل شيء الآن يؤدي وظيفته كما هي …
كان الطبيب فرحا للغاية وكأنه قد حقق نصرا، وكان الجميع يقولون لي إنني قد عدت إلى حياتي الطبيعية كما كنت، لكنني أمام المرآة بدأت أرى أن وجهي يميل جهة اليسار وبأنه أصبح يبحث عن اليوم السابع بشكل ما… !