ديوان “آيل للصمت” للشاعرة المصرية عزة رياض.. محاولات الهروب من ضجيج الألم
ديوان “آيل للصمت” للشاعرة المصرية عزة رياض.. محاولات الهروب من ضجيج الألم
حميد عقبي
مخرج سينمائي ومسرحي يمني مقيم بفرنسا
تغترف الشاعرة المصرية عزة رياض، في نصوصها، الكثير من أحلام واقع الهامش، ومن ذكريات والكثير من المشهدية الموجوعة. ثمة ضجيج يتضخم للألم الإنساني. سنحاول تلمس بعض العناصر المهمة كمدخل لفهم شعرية عزة رياض في هذه الوقفة التأملية مع ديوان “آيل للصمت” الصادر عن دار الدهم للنشر والتوزيع في عام 2021.
يتكون الديوان من نص مفتوح ومتشابك، وتم تقسيمه إلى 77 مقطعًا، وتكاد تكون المقاطع كأنها همسات متعبة. تحاول الشاعرة أن تلتقط أنفاسها وكأنها تركض في عالم متشبع بالعذابات والأماني الصغيرة جدًا لها ولمن حولها، للذين تشاهدهم بالصدفة في الشارع من المتعبين والمهمشين.
لنأخذ بعض النماذج ولننطلق من المقطع الأول :ـ
أغرسُ أنياب الضوء
في لحم العتمة
فتسيل دماؤها تحت أقدام المذعورين
تنطلق صرخات
على هيئة جمل موسيقية
جواب وقرار
ومطرب نحيف
تختنقُ عنده الخاتمة
العالم أحمر شفاه ماكر
يقبلك برفق في عنقك
تسير وأنت تحمل سره
تلف عليه وشاحا بلونه
ثم تلتقي رفقاءك
يحملون على أعناقهم ذات الشفتين
تنتزع وشاحك
تتحسس عنقك برفق
فتجد جلدك يابسا
فتعود لتواري خزيك مرةً أخرى.
هنا تعدد الخطابات، إذ إذا فهمنا أن النص كخطاب، فهو موجه للذات وللنفس الإنسانية، لكل نفس لا تزال تتنفس وفيها شيء من الحياة. ومنذ بداية هذا النص المفتوح، تظهر رغبة في الفعل، في فعل بسيط يُعيد توهج الحياة ويبشر بميلاد أمل وحلم صغير. الأحلام لا تُلد في غياهيب الظلمات، وهنا فالحاجة ماسة للضوء. كأن الشاعرة ترفض أن يكون الضوء ضعيفًا باهتًا ومصابًا بالعجز والشلل والخوف. تغرس أنيابها في لحم العتمة، محاولة لكسر هذه العتمة الموحشة المخيفة، والتي قد يخافها ويخضع لها الكثيرون ويصبحون عبيدها، يسبحون لها ويقدسون وجودها.
لا تدعي الشاعرة أنها بطلة وقادرة على تخليص هذا العالم من غول العتمة والظلام، ولكنها تشعر بحاجتها للتحرر وهي جزء من هذا العالم المتعب. تؤكد على أن العتمة أفضع من غول متوحش، وتتفجر مشاهد متعددة مرعبة بهذا الفعل. تلتقط صورة ولقطة لمطرب نحيف، حيث تختنق معزوفته عند الخاتمة. هذا العالم، أو ما فيه من مظاهر براقة وخادعة، والذي نظن أننا نفهمه، لا يزال يعج بالغموض والمفاجآت غير المتوقعة، وثمة عتمات متعددة. وكأن العتمة أشبه بغول بأرواح متعددة وأشكال خادعة كثيرة، والتخلص منه يحتاج إلى أن نعي بماهيته الشريرة، والتغيير لن يكون ببطل أو بطلة أسطورية، بل يحتاج لوعي جماعي وليس بطولة أو بطولات فردية.
في هذا النموذج الثاني، كأنه لحظة مراجعة للذات وللشعرية، وأسئلة عن الكتابة والشعر ومخاوف من هذا المصير أن يكون الإنسان شاعرا :ـ
هل جربت أن تكون شاعراً؟
وقتها ترى الليل عملاقا أسود
والأرض مثل حلوى غزلِ البنات
ترى صنبور المياة ينزفُ دما
وتقطع يدك مثل صديقات امرأةِ العزيز
حين يعبرُ طيف من أحببتَّ
تقد قميصه ثم تغفو
تبكي وحدك في قصيدةٍ ما
دون أن تذرف دمعة واحدة
يصدر عليك حكم بالإعدامِ
حين تقتل فرحة أحدهم
ربما تدخلُ الجنة لبضع ساعت
تطفو
تغرق
تصرخ
تغني
تحلقَ في السماء ثم تحضِر نجمةً مجانية
تهديها إلى حبيبِك
فيعلقها في سقفِ حجرته
تسلم نفسَك
للهواء
للماء
للنهار
للحياة
للموت
ثم تكتب ما يمليه عليك أحدهم
ترحل من من ذاتِك
حتى تنجبَ قصيدتَك وأنت تهزُّ جذعَ الكلمة
فيتساقط عليك
ما تيسَّر من السحرِ
يصفونك
بالماجن
بالمهووس
يطلقون عليك أسماء
تشبه ما يطلقونه على البشر
تبالي
توبخ نفسَك دوما
على كلمة ما زالتْ عالقة
في الغيب
أو اقتُطفَتْ بيدِ شاعر آخر.
من أصعب أنواع الكتابة هو عندما يعترف الإنسان لنفسه بمخاوفه وقلقه ويتأمل ويحاكم شعريته. يمكن أن تحدث إنقلابات مهمة في هذه العملية. بالإضافة إلى ذلك، نشهد العديد من الادانات والرفض لبعض المباهج الثقافية الزائفة والمغرية التي تتنافى مع جوهر الكتابة والشعر. يتم رفض الرقيب الرسمي والأشخاص الذين يدعون الأخلاق والفضيلة ويحاكمون المبدع على كلمة أو صفة قد يستخدمها. يبدو أننا نعيش في عالم يشبه الغول القديم والجديد، حيث يتخذ الغول هويات مختلفة مثل الزي الرسمي أو الديني أو الاجتماعي. هناك قوى خفية تستخدم وسائل متعددة لتجعل المشهد الشعري والإبداعي هشًا وغير قادر على إحداث تأثير وإيجاد أمل للبسطاء والحالمين.
عزة رياض تؤكد أن القصيدة هي ولادة مؤلمة، وتعطي هذه اللحظة قداسة خاصة، حيث تستحضر مشهد السيدة العذراء وهي تلد الحقيقة وسيد المعذبين في لحظة المخاض الصعبة. وتشير إلى أن أي كتابة واعية وجيدة لا تحتاج إلى تصفيق الجماهير أو جمع الشهرة والجوائز والتكريمات. قد يواجه الكتاب المنع والمصادرة والسخرية أو التهميش المتعمد، ومع ذلك فإن كتابة ذات وعي وجودة لها قيمتها الخاصة.
في هذه الوقفة التأملية السريعة، أخذنا المقطع الأول ثم العاشر وسنختم بالمقطع الأخير السابع والسبعين. وبالطبع، لن نستطيع أن نوفي هذا النص حقه الكامل، فهو يحتاج إلى قراءة متعددة وزوايا مختلفة. وفي هذا النص، تفوح رائحة الألم والمقاومة والرفض للواقع المشبع حد الثمالة بالبهرجات الزائفة والخادعة. تحاول عزة رياض رصد هذا العالم بعدستها المتعددة الأبعاد، وتصوره بلقطات قريبة ومتوسطة، وتجرؤ بشجاعة على تصوير هلوساتها وشكوكها وتأثيرات الخارج التي تترسب بالداخل. تحاول تنقية الرواسب الداخلية المزعجة لتنعم بالحلم والسلامة والنقاء الروحي، وهذا سيمكنها من الاستمرار ككاتبة وشاعرة. وأكثر سلامة لها هو أن تحتفظ بإنسانيتها وكينونتها الأنثوية، فهي من مصادر القوة والنورانية الأساسية بالنسبة لها.
المسئول الذي تفحص كاميرات المراقبة
شاهد الرجل الذي ركل زوجته
حين طالبته بشراء حذاء صغير لصغيرها
والبائع المتجول يحطم أونيه الفخارية عَنوة
ثم يتسول بالبكاء ليجمع قيمتها
المرأة العجوز ذات الساق الواحدة
ثم تتحول لساقي لاعب كرة قدم
عجل السيارات يدهس أحلام المشاة
ويسكب على وجوههم ماء برائحة أسماك الرنجة
عربات الأجرة تلتقط الجثث الحية
ثم تلقيها على فوة الحفرات
يد الوسيم تتحسس بنطاله
حين تعبر الفراشات الطريق
لكنه لم ير
نزف خطوات قبيلة من الهياكل العظيمة
كتبت متونها
على واجهات ترتدي شرفات أنيقة
كانت تعبئ تفاصيلها في أكياس بلاستيكية
توزع اليوم فوق شواهدهم
على من يدعو الفقد.
هذا الديوان أو النص المفتوح، النص الدرامي، سمّوها كما يحلو لكم لأنهُ متعددُ الأساليب، يتسمُ بتقنيات سرديّة تصويريّة عالية، يحاولُ أن يفلتَ من السردِ إلى الشعرِ وقد يقعُ في أزقة الهذيان، يصورُ أحلامَ البسطاء التي تلتقطهم الشاعرةُ من الهامش المنسي والغيرِ مرئي، قد تصورُ حالتَهم كما هُم وتمضي إلى لقطةٍ أخرى لا علاقة لها بهم، وقد تتدفقُ عدة لقطاتٍ أو لقطةٍ واحدةٍ دون قطعٍ تصورُ أكثرَ من حالةٍ، لا تُسرفُ الشاعرةُ وقتَها لتجميلِ ما تكتبهِ وتزخرفهِ، ثمّةَ تنافراتٍ وتناقضاتٍ وقد تحدثُ تشكُّباتٍ وأغلبها يتجاوزُ المنطقَ وفنون صناعةِ الحبكةِ المبهرةِ شكلاً، وهنا تتفجرُ دهشةٌ أعمقَ، دهشةٌ تخاطبُ الروحَ وليسَ صناعةَ أكشن.
عتبةُ العنوانِ كانت ذكيّةً وذات صِلةٍ بالنصوصِ، تَنشدُ الشاعرةُ ولو بعضَ الأمانِ ولو جِدَارًا من الصمتِ تستندُ إليهِ، تستظلُّ بظِلِّهِ وربّما تتوارَى من ملاحقاتِ الألمِ وبؤسِ الواقعِ، وهناكَ أنواعٌ للصمتِ، صمتُ الخلوةِ والتأمُّلِ ومراجعةِ الذاتِ وصمتٌ غيرَ مرغوبٍ فيهِ أي صمتُ الهزيمةِ والنكسةِ والخيبةِ وصمتٌ يقبلُ الاستبدادِ وكأننا معَ عُنونِ “آيلٍ للصمتِ”، ثمّةَ شيءٌ محذوفٌ بالعبارةِ بحيثَ تصبحُ مفتوحةً وغامضةً أو متروكةً للتأويلاتِ وللنقدِ وللقبولِ أو الرفضِ.
كثيرة هي الحكايات الصغيرة واللقطات القصيرة جدًا زمنيًا ومحتوىًا، وهي محاولة للابتعاد عن معاني مكتملة وقصص مكتملة وزمن محدد. قد يكون الهدف هو الهروب من الأوجاع وعدم الرغبة في صناعة بكائيات ومرثيات، وعدم وجود أطر خطابية أو نصائح وحلول. يتمثل البحث المستمر في قراءة هذا الواقع الإنساني المعقد الذي يحتوي على آلاف الحكايات والوجوه.
ربما يكون النص أو المقطع الأخير عبارة عن نهاية مفتوحة لم تحدد مصير أي شخص. يبدو أن عزة رياض تعبّر عن وجود كوارث وتعقيدات وأماني وأحلام قادمة وتكبر، وصرخات قوية، وصمت روحاني إنساني لا يتشوه. وستسقط أنواع الصمت الداعمة للاستبداد والخضوع والصراعات المرعبة التي تعم العالم من شرقه إلى غربه.
قد نتفق أو نختلف مع عزة رياض، وقد لا تكتب الشاعرة نصها لتحصل على التصفيق والمديح، وقد نشعر بأن الكثير من الهزات المرتبكة تؤثر فينا أثناء قراءة هذا الديوان أو النص. قد تكون الشاعرة قد تعرضت لضغوط قوية أثناء كتابة نصها، وتخلق لنا هذه الفوضى العنيفة في محاولة للهروب من ضجيج الألم والبشاعة والرعب.