كرامة فرنسا المهدورة.. النيجر مثالا
كرامة فرنسا المهدورة
النيجر مثالا
أ. نسيم قبها
تم عزل الرئيس محمد بوعزوم، وإغلاق الحدود في النيجر ، وفرض حظر التجول ابتداءً من ليلة 26 تموز/يوليو 2023.
وقد برر العسكر خطوتهم بوضع حد للنظام على إثر استمرار تدهور الوضع الأمني وسوء الإدارة الاقتصاديّة والاجتماعيّة”. مؤكدين تمسك المجلس العسكري باحترام كل الالتزامات التي تعهدت بها النيجر، ومطمئنين المجتمع الوطني والدولي فيما يتعلق باحترام السلامة الجسديّة والمعنوية للرئيس المخلوع. فيما طالب بيان آخر للمجموعة الانقلابية “جميع الشركاء الخارجيّين عدم التدخل”.
ومن اللافت قدوم هذا الانقلاب متزامنًا مع انطلاق القمة الروسية الأفريقية في سان بطرسبورغ والتي تحاول روسيا من خلالها كسر العزلة الدولية، والتمدد الاستثماري والسياسي في الفراغ الناجم عن تراجع نفوذ فرنسا في أفريقيا نتيجة استهدافها من قبل أميركا ودخول الصين وتركيا كمنافسين لها، بينما تسعى الدول الأفريقية المتضررة من الحرب الأوكرانية وتداعياتها على أسعار السلع الغذائية من هذه القمة إلى تأمين تدفق الحبوب التي يستعملها بوتين كورقة ضغط على الغرب، وعلى مواقف دول العالم من العقوبات على بلاده، وهذه المساعي الأفريقية حيال مشكلة الحبوب تحظى بتشجيع الولايات المتحدة في ظل التذمر والمخاوف العالمية من انقطاع سلاسل التوريد، وارتفاع أسعار المواد الغذائية التي باتت تضغط باتجاه وقف الحرب الأوكرانية، ولا سيما مع كشف ألمانيا قبل أيام عن فشل الهجوم الأوكراني المضاد، كما ويأتي هذا التشجيع الأميركي للدول الأفريقية حيال العلاقة المحددة مع روسيا ليزيد من مخاوف فرنسا التي لا تزال ترفض تصنيف روسيا عدوًا لحلف الناتو والتحالف الغربي.
ومن الملاحظ أيضًا أن الانقلابات العسكرية التي وقعت في أفريقيا الوسطى وتشاد ومالي وبوركينا فاسو خلال الأشهر الماضية والتي ظهر ارتباط منفذيها بأميركا من خلال تدريبهم وتوجيههم باعتراف القيادة العسكرية الأميركية (أفريكوم) قد حصلت في ظل مواقف فرنسا المتعارضة مع التوجه الأميركي حيال حلف الناتو والحرب الأوكرانية والعلاقة مع الصين، بالإضافة إلى محاولة فرنسا التصرف بمعزل عن الولايات المتحدة في ملف ليبيا منذ بدء التدخل العسكري الغربي ضد العقيد القذافي، ولا أدل على ذلك من مذكرة سيدني بومينتر مستشار وزيرة الخارجية الأميركية، والتي وجهها إلى الوزيرة محذرًا من استعجال ساركوزي في التخلص من القذافي، منوهًا إلى أهداف فرنسا ومن بينها: الحصول على النسبة الكبرى من النفط الليبي، وتعزيز التأثير الفرنسي في شمال أفريقيا، وتأكيد الحضور العسكري الفرنسي في العالم، ووقف مساعي القذافي بشأن العملة الأفريقية الموحدة والتي تهدد العملة الفرنسية المتداولة وتقوض النفوذ الفرنسي في أفريقيا.
وفي سياق استهداف الولايات المتحدة النفوذ الفرنسي، يندرج انقلاب النيجر ضد الرئيس محمد بوعزوم، والذي أفادت بعض وسائل الإعلام تقاربه مع فرنسا، وأنه قد عمل في شركاتها سابقًا، ومن المعروف عنه اضطلاعه بملف مكافحة ما يسمى بـ(الإرهاب) ومحاولاته لسد ثغرة (النشاط الجهادي) في النيجر منذ أن تولى وزارة الداخلية، واتهامه للحركات (الجهادية) بالارتباط بالخارج. ومن المعروف أن ذلك النشاط (الجهادي) والذي تستفيد منه الولايات المتحدة قد وصل إلى النيجر عبر جمهورية مالي بدعم خليجي، علمًا بأن النيجر تحتضن أكبر حضور عسكري فرنسي بعد تقليص قواتها في مالي، حيث تُقدر قواتها في النيجر بنحو 1500 جندي يتمركزون على حدود مالي.
وتكمن أهمية النيجر في كونها الدولة الأهم أفريقيًّا في إنتاج اليورانيوم، والتي تحتل المرتبة الثانية عالميًّا بعد كزاخستان، وتكمن أهميتها لفرنسا على وجه الخصوص في كونها تُزوِّد فرنسا عبر شركة “أريفا” الفرنسية بنحو 35% من احتياجاتها من اليورانيوم لتشغيل المحطات النووية، والتي تساهم بدورها في 75% من الطاقة الكهربائية الفرنسية، حيث تستنزف فرنسا ثروات النيجر. فيما تحصل حكومة النيجر على نسبة 5.5% فقط من اليورانيوم المنتج. ولا يخفى أنه بسبب أهمية اليورانيوم النيجيري، نفذت فرنسا انقلابًا عسكريًّا سنة 2010 أطاح بالرئيس ممادو طانجا، والذي قام بإعادة التفاوض مع شركة “أريفا” بشأن اليورانيوم، وفتح الاستثمار في موارد النيجر أمام الشركات الأجنبية ومنح عدة تراخيص لشركات صينية وهندية وكندية. وهو الأمر الذي تشجعه الولايات المتحدة بهدف كسر احتكار فرنسا لليورانيوم النيجيري، وتشجيع الدول الأفريقية على التمرد على فرنسا، وبخاصة وأن دخول الصين على خط اليورانيوم والنفط النيجيري قد شجع الحكومة النيجيرية على انتزاع بعض حقوقها من الفرنسيين، حيث تغذي أميركا تذمر الشعب النيجيري من فرنسا وشركة “أريفا” عبر مؤسسات المجتمع المدني.
كما تهدف أميركا من جرِّ الصين والهند وروسيا للاستثمار في أفريقيا إلى إشعال التنافس فيما بينها، وفيما بينها وبين فرنسا، وعرقلة التقارب بينهم، وفي هذا السياق كان ماكرون قد انتقد مجموعة فاغنر الروسية، الموجودة في مالي وجمهورية أفريقيا الوسطى، واصفًا إياها بـ”التأمين على الحياة للأنظمة الفاشلة في أفريقيا”، و اتهمها بأنها تشن حملة “مفترسة” على الموارد الطبيعية وترتكب العنف ضد المدنيين، بما في ذلك الاغتصاب. وفي المقابل سعت الولايات المتحدة إلى تركيز حضورها العسكري في أفريقيا عبر “أفريكوم” بذريعة “الإرهاب” تمهيدًا للسيطرة على مصادر الطاقة الأفريقية، وإحكام قبضتها على مصالح الدول الكبرى وتحجيمها واحتوائها.
وأما الانقلاب الأخير في النيجر والمُرجّح ارتباطه بالولايات المتحدة، فلا يُستبعد ما تناقلته بعض وسائل الإعلام من أن المدبر الحقيقي له هو سفير النيجر في دولة الإمارات، وهو رئيس الأركان النيجيري السابق اللواء ساليفو ماديو. والتي ذكرت الأنباء أنه في طريقه إلى النيجر لتولي رئاسة الدولة خلفًا لمحمد بوعزوم.
ولعل أبرز ما هو لافت في توقيت الانقلاب، هو زيارة الرئيس الفرنسي لمنطقة جنوب المحيط الهادئ، في محاولة منه لتعزيز الحضور الفرنسي في مناطق فرنسا الاستعمارية القديمة، والترويج لما يسمى بـ(الخيار الثالث) في منطقة المحيط الهادئ؛ أي خيار فرنسا بدل الولايات المتحدة والصين، وهو ما يُفسر تعريضه بالهيمنة الصينية على المنطقة، كما تُعدُّ زيارته أيضًا محاولة للوقوف على الحياد من النزاع الأميركي الصيني في ظل الضغوط الأميركية على الأوروبيين للقطع مع الصين، وهذا بالإضافة إلى محاولة استثمار الزيارة في تعزيز موقفه الداخلي المرتبك. وهذا ما يضع الانقلابات العسكرية في الدول الأفريقية بعامة وفي النيجر ومالي وتشاد وبوركينا فاسو بخاصة في خانة التنافس والصراع على النفوذ بين فرنسا وأميركا في أفريقيا. حيث أفادت المعلومات الغربية تلقي قادة الانقلابات تدريبهم على يد القوات الأميركية، مثل الكابتن أمادو سانوغو، الذي تلقى تدريبًا أساسيًا لضباط المشاة في جورجيا، وخضع لتعليم الاستخبارات العسكرية في أريزونا، وأطاح بحكومة مالي، وقال بعد الانقلاب: “أميركا بلد عظيم بجيش رائع”. وأضاف: “حاولت هنا وضع كل الأشياء التي تعلمتها هناك موضع التنفيذ”. ومن ضمن الذين تلقوا تدريبات أميركية أيضًا، الكولونيل عاصمي غوتا رئيس المجلس العسكري الذي أطاح بحكومة مالي في عام 2020، والذي عمل مع قوات العمليات الخاصة الأميركية لسنوات، وشارك في كل من تدريبات “فلينتلوك” وندوة جامعة العمليات الخاصة المشتركة في قاعدة ماكديل الجوية. ومثل الكولونيل بول هنري داميبا الذي أطاح برئيس بوركينا فاسو العام الماضي حيث كان قد شارك مرتين في برنامج تدريب سنوي للعمليات الخاصة بالولايات المتحدة يُعرف باسم تمرين “فلينتلوك”، وحضر مرتين دورة الضابط الأساسي للاستخبارات العسكرية برعاية الولايات المتحدة – أفريقيا، وشارك مرتين في ارتباطات مع عنصر الدعم العسكري المدني التابع لوزارة الدفاع الأميركية.
ولهذا السبب تتركز خارطة الوجود العسكري الفرنسي في كل من النيجر وتشاد، وفي مالي وبوركينا فاسو اللتيْن طالب قادة الانقلاب فيهما برحيل القوات الفرنسية، في مقابل تمركز نشاط (التنظيمات الجهادية) في مالي والنيجر، وفي مناطق النفوذ الفرنسي ومناطق (الحزام والطريق) الصيني.
ومن ضمن السباق الفرنسي الأميركي في أفريقيا، أن استغلت فرنسا الهجوم الذي نفذه تنظيم القاعدة في سبتمبر/أيلول 2010 على مقر شركة “أريفا” بالنيجر واختطاف سبعة من عمالها، واستغلالها للورقة (الجهادية) التي تتذرع بها أميركا لتعزيز وجودها العسكري، لتدشين عملية “سيرفال” في مالي، ثم عملية “برخان”.
وطوعًا لما تقدم من معطيات فإن انقلاب النيجر قد جاء صفعة تزيد من ضعف ماكرون الذي يتخبط في الداخل ويلهث باحثًا عن كرامة مهدورة لفرنسا الاستعمارية في الخارج.