في رحاب القانون
الغرامة التهديدية كأسلوب في تنفيذ أحكام القضاء الإداري
د. عمر موفق الناصري
يُعتبر مبدأ الفصل بين السلطات ركنٌ أساسي لتحقيق مبدأ المشروعية، والذي بموجبه استقلال السلطات الثلاث عن بعضها: التشريعية، والتنفيذية، والقضائية، وإن اختلفت النظريات الفقهية بالفصل التام، أو التعاون فيما بينهم، ومن هنا يتبيَّن أيضاً اختلاف التشريعات في مدى حدود العلاقة ما بين القضاء الإداري وجهة الإدارة العامة، والأمر الجدير بالاهتمام هو مدى إمكانية توجيه الأوامر لتنفيذ الأحكام القضائية نحو الإدارات العامة من عدمه، لا سيما هناك مبدأ عام يسمى بـ(مبدأ حظر توجيه الأوامر القضائية للإدارة)، والذي أسَّسه التشريع الفرنسي ذات ألنظام القضائي المزدوج، وتبنته أيضاً أغلب التشريعات العربية، كالتشريع المصري، والأردني، والجزائري، وترجع أسباب نشوء المبدأ إلى التفسير الخاطئ لمبدأ الفصل بين السلطات لأسباب تأريخية خاصة في فرنسا في حينها؛ بغية تحقيق الفصل المطلق بين القضاء والإدارة بعد حصول الثورة الفرنسية، لتفادي عرقلة القضاة للأعمال التي يقوم بها رجال الثورة من خلال إصدار المرسوم بتأريخ 22/12/1789، وقانون التنظيم الصادر 24/8/1790، وقد تأثَّر فقه القانون العام بهذا المبدأ، والذي أثَّر سلباً على حصول المتضررين على حقوقهم المقررة من قبل القضاء، بسبب امتناع الإدارة عن التنفيذ، وظلَّ الأمر كذلك حتى صدور تعديلات لاحقة بالقانون الفرنسي رقم 8/2/1995، بهدف معالجة إشكاليات عدم تنفيذ الأحكام من قبل الإدارات، والذي منح توجيه الأوامر بصفة الإجبار للامتثال لمبدأ عدم المشروعية، من بينها تنفيذ الأحكام، وفي المقابل وجود تشريعات كالولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا ذات النظام القضائي الموحد التي أجازت ابتداءً توجيه الأوامر القضائية نحو الإدارة وبشكلٍ صريح، ومما يجدر بالإشارة هناك دولاً تتبنى النظام القضائي المزدوج الذي أنشأته فرنسا، ولكنَّها تُجيز الأوامر القضائية نحو الإدارة قبل حصول هذا التعديل، مثل إيطاليا وألمانيا، لذا فالأمر مختلفٌ فيه.
والتساؤل هنا: ما مفهوم مبدأ حظر توجيه الأوامر القضائية نحو الإدارة؟
يُقصد بمبدأ حظر توجيه الأوامر القضائية نحو الإدارة أنه لا يجوز للقاضي الإداري وهو بصدد الفصل في منازعة ما مطروحة عليه توجيه أمر إلى جهة الإدارة للقيام بعمل، أو الامتناع عن عمل، كما لا يجوز له أن يحل محل جهة الإدارة في القيام بعمل، أو إجراء معيَّن وهو من صميم أختصاصه، إنما يقتصر دوره بإلغاء القرار الإداري فقط.
إن القاضي في دعوى الإلغاء إذا قدَّر أنَّ القرار الإداري مشروع، فأنه يحكم برفض الدعوى، أما إذا وجد عيب من عيوب الإلغاء، فإنه يقضي بإلغاء القرار دون أن يتعدى ذلك إلى إلزامه بإصدار قرار آخر، كقرار تعيين موظف أو ترقيته، أو تعديل قرار ما، سواء كان قرار فردي أو لائحي، كما لا يجوز له أن يوقِّع غرامة تهديدية حسب المبدأ المقرر، أما في حالة دعوى القضاء الكامل فإنَّ القاضي يقرر الحق محل النزاع مع التعويض، كما في حال المتعاقد مع الإدارة دون أن يتعدى أمرها بأداء حق المتعاقد، أو أمرها بدفع التعويض.
وبعد صدور الأحكام القضائية، برزت إشكالية تنفيذ الأحكام القضائية نحو الإدارة، إذ أنَّ أساليب الإدارة أحياناً قد تُعيق تنفيذ الأحكام القضائية، ولها عدة صور، مثل حصول التراخي، أو التنفيذ الناقص، أو التحايل في تنفيذ ألاحكام الصادرة بإلغاء القرارات الإدارية.
إن التشريع الفرنسي كان صريحاً في النص بحظر توجيه الأوامر نحو الإدارة كأصلٍ عام، ولكن جرت التعديلات اللاحقة بجواز الغرامة التهديدية في قانون الغرامة التهديدية لعام 1980، وكذلك في قانون الهيئات القضائية، والمرافعات المدنية والجنائية والإدارية لعام 1995، الذي أجاز التهديد المالي للإدارة لضمان التنفيذ، والتأكيد بتوجيه الأوامر نحو الإدارة في الأمور المستعجلة في قانون رقم 597 لعام 2000، أما التشريع المصري فلا يوجد نص يقرر الحظر أو يجيز الأوامر القضائية نحو الإدارة كما هو الحال في التشريع الليبي والتشريع العراقي، أما التشريع الجزائري فالامر كان مماثل للتشريعات العربية أيضاً بعدم وجود نص يحظر أو يتضمن الإجازة، ولكنه تأثر لاحقاً بالتعديل الفرنسي، وتضمن ذلك في قانون الإجراءات المدنية والإدارية لعام 2008، وتمَّ فرض الغرامة التهديدية عند الامتناع عن التنفيذ الإدارة، أما في مجال القضاء الإداري، فنشير إلى بعض التطبيقات، منها المحكمة الإدارية العليا في مصر التي قيدت نفسها بعدم جواز توجيه الأوامر نحو الإدارة، وعدم استخدام وسيلة الغرامة التهديدية، أما القضاء العراقي فقد دأب منذ نشأته بتوجيه أوامر للادارة بالقيام بعمل أو أمتناع عن عمل معين لالزامها التنفيذ بالرغم من عدم وجود نص صريح يتيح للقاضي الاداري ذلك ،و لم يتم أستخدام اسلوب الغرامة التهديدية.
ما المقصود بالغرامة التهديدية، وما هي شروطها؟ وما البديل الذي تبنته بعض التشريعات العربية؟
لم تعرف التشريعات أغلبها هذا النوع من الغرامة، أما فقهيَّاً فقد عرفت بأنها مبلغ من المال يحكم القاضي به على المدين بدفعه عن كل يوم، أو أسبوع، أو شهر، أو أي وحدة زمنية أخرى، يمتنع فيها المدين عن التنفيذ العيني الذي حكم به مقترناً بتلك الغرامة، فهي جزاء مالي تبعي محتمل يصدره القاضي بقصد ضمان حسن التنفيذ، أو أي إجراء من إجراءات التحقيق، أو هي جزاء للامتناع عن التنفيذ.
أما شروط فرض الغرامة التهديدية فهي:
- وجود حكم صادر من إحدى محاكم القضاء الإداري.
- أن يتطلب تنفيذ الحكم القضائي من الإدارة إجراء محدد.
- قابلية الحكم للتنفيذ.
- أن يكون الأمر أو الغرامة التهديدية لازماً لتنفيذ الحكم القضائي.
- عدم تنفيذ الإدارة للحكم، أو البدء في تنفيذه
- .طلب صاحب الشأن.
وكما أشرت إليه مسبقاً بأنَّ التشريع الجزائري قد أخذ بالأمر بالغرامة التهديدية، أما التشريع المصري فلم ينص عليه، وإنما أكتفى بأنَّ الموظف الذي يمتنع عن التنفيذ يعتبر مرتكباً لجناية يُعاقب عليها بالحبس والعزل حسب نص المادة (123) من قانون العقوبات المصري النافذ، بالإضافة إلى تحقيق المسؤولية المدنية عن الأضرار التي أصابت صاحب الشأن، وكذلك الحال في التشريع العراقي الذي قرَّر المسؤولية الجنائية وفقاً للمادة (329) من قانون العقوبات العراقي النافذ، وكذلك المسؤولية المدنية عند امتناع الإدارة عند التنفيذ، ومما تقدم يتبين ضرورة النص على أسلوب الغرامة التهديدية في كافة التشريعات العربية لإجبار الإدارة على التنفيذ، ولتسهيل إنصاف صاحب الشأن، والوصول إلى سرعة التنفيذ، واسترجاع الحقوق كحماية إضافية للمتضرر، إلى جانب تحقيق المسؤولية الجنائية والمدنية في كافة التشريعات عند امتناع الإدارة عن التنفيذ.
محامي وباحث في القانون العام