رواية ” أين أنت يا أبي؟” للأسير حسن فطافطة
صرخة الحرية
أ. سليم النجار
ولد حسن فطافطة في بلدة ترقوميا بمحافظة الخليل عام ١٩٦١، حصل على شهادة البكالوريس في علم الاجتماع من جامعة بيرزيت عام ١٩٨٥، اعتقل أول مرة عام ١٩٨٧، وحكم عليه بالسجن خمسة أشهر من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلي، وفي بداية عام ١٩٩١ اعتقل إداريًا لمدة سنتين، وبعد ستة أشهر من الإفراج عنه تم اعتقاله مرة أخرى لمدة أربع سنوات، وفي عام ٢٠٠٠ تم مطاردته على يد قوات الاحتلال الإسرائيلي لمدة ثلاث سنوات، ومن ثم اعتقاله ليُحكم عليه ١٨ عامًا، يقبع الآن في سجن نفحة الصحراوي، نشر العديد من المقالات والقصص القصيرة في عدد من الصحف الفلسطينية، وتعد رواية “أين أنت يا أبي؟” الصادرة عن مركز بيت المقدس باكورة أعماله.
تعد رواية “أين أنت يا أبي؟” ثيمة للتمرد على بطش الاحتلال الإسرائيلي، وحسن نموذج لهذا التحدي، فالبداية هي أن الإنسان معمر هذه الارض، يحدّد أنواع الصراع، فهو ليس صراعًا قويَّا، لكنه صراع وطني بين محتل وباحث عن حرية وطنه من نيران الاحتلال، “في سجن نفحة الصحراوي المقام في منطقة معزولة من صحراء النقب، وعلى بعد ساعات في الحافلة من أقصى جنوب الضفة الغربية، كان يمضي خليل عامه الثالث على التوالي دون أن يغادره إلى أي سجن آخر”.
يرى تودوروف أنّ الحكي هو الحياة، بينما الحركة في إيقاعها، إذ تلجأ الرواية إلى تضمين الميتافيزيقا كجزء أصيل من بنائها السردي، مازجة بين الواقعية والعجائبية، والجنوح إلى الواقعية الاجتماعية، هادفة إلى تقديم رؤية خاصة للوجود، “عارف شو بدك تحكي، أسطوانتك عارفها كويس، أولادنا حالهم مش أحسن من حال أولاد كثير من الأسرى والشهداء، على الأقل أولادنا محظوظين بالمقارنة مع بعض الأطفال الآخرين، في أطفال ما تعرّفوا على آبائهم إلّا على شيك الزيارة”.
هذا ما قدّمه حسن فطافطة في روايته التي تمثل جدلًا بين ما هو موروث وتاريخي ونمطي وتقليدي، وبين موقف متمرّد صار مقدسًا لا يجب المساس به، “لوم الذات هو العنوان الأبرز الذي سيطر على خليل في هذه الأيام العصيبة، حاول جاهدًا دون نجاح يُذكر أن يعيد التوازن لنفسه من خلال تركيز مشاعر الغضب التي تسيطر عليه تجاه من وضعوه خلف هذه الأسلاك الشائكة”.
وهذا ما يجعل الراوي يوظّف عوالم الرواية لصالح نظرته الخاصة منذ بداية الخليقة، فتطوّر الصراع الإنساني مع عوالم رافضة للتمرد، تحت شعار الواقعية تقترب بشدة للخنوع، “يا سيدي أنا مش طالبة منك تترك النضال، بس على الأقل خفّف شوية، ارحم هالصغار وخليك حواليهم حتى يتجاوز الواحد منهم الخمس سنوات الأولى من عمره، مش أنت اللي دايمًا بتتردد نظرية الخمس سنوات الأولى من عمر الطفل هي حجر الأساس يا سيدي ساهم في حجرها الأساسي”.
إنّ حسن في روايته يرسم الشيطان على أنّه الآخر الذي خُلق ليتعقّب الإنسان الحر ويغويه عن حب الأرض، ويدفعه إلى غواية الحياة بدون كرامة، الشيطان شخصية درامية بكل المقاييس، حيث أثارت شخصية الشيطان المتمثّلة في الاحتلال خيال الكاتب لسيطرتها على حياة الإنسان الحر الرافض لهذه الغواية، راسمًا مهديّة تُعرّي هذا الطاغوت، “أمام هذا المشهد المبني على التقييم الذاتي للآخرين وفقاً لمدى الانسجام والتوافق النفسي، ليتجاوز هذا المشهد بآخر يوضح فكرته كروائي، ومع هذا لم يرفع الراية البيضاء كما فعل بعضهم ممن خذلهم المشهد ذاته، لم تنجح خيبة الأمل ممن خذلوه في الممارسة والتطبيق”.
يتّسع الخطاب السردي في الرواية ليتخطى التاريخ إلى قريته بموروثها وتراثها، فيحدثنا الراوي عن منطقة ليست بعيدة عن فلسطين، تتسع الرؤية فتشمل البشرية والخلق والصراع الأزلي بين الحر والمستعمر لكرامته، حيث ورد:
“مضي شهران منذ أن وطئت قدمًا براء أرض القرية، بذلت أقصى درجات الضبط النفسي مع ذاتها في محاولة للتأقلم مع تفاصيل الحياة اليومية الحشرية”.
بطل هذه الرواية دون منازع، المعتقل الإسرائيلي، حيث يفرز هذا البطل سلوكيات وممارسات على الأسير قد يراها بعض القرّاء غير مناسبة أو لا تليق، فعبّر الكاتب عن هذه السلوكيات بمشهديّة لافتة:
“سهل عليه الابتعاد عن دائرة الفعل النضالي، أو هكذا على الأقل اعتقد، ليكتشف خلال أقل من عامين من ابتعاده عن الهم الوطني والنضالي بحثًا عن همّه الشخصي والعائلي، بأنّ القصة لم تكن أكثر من مجرد إجازة قصيرة، استراحة المقاتل في زمن السلم”.
إذا كان المعتقل هو بطل الرواية، فإنّ حسن فطافطة رمز الإنسان وصراعه لنيل حريته، بالإضافة إلى ذلك، فإنّ حسن يتمسّك بثيمة الحرية التي دونها لا يمكن للإنسان العيش بسلام، وبهذا تتداخل الأيقونة الصورية مع أيقونة الكتابة الخلفية، لتعرض مشهدًا للعناصر الأولية التي بنيت عليها الرواية، ومدخلًا موجّهًا وكاشفًا للحدث عبر مساراته السردية المتشعّبة التي قد تعتمد التتابع للزمن، أو تحريف زمن الرواية بفعل الاسترجاع والاستشراف، أو من خلال تقطيع أوصاله عبر مشاهد تتطلب قارئًا فطنًا يلملم نسيج الحكاية ويعقد ما تباعد من حلقاتها وينظّمه في مكانه الصحيح.