فرنسا تنقلب على الغابون وقائيا
فرنسا تنقلب على الغابون وقائيا
أ. نسيم قبها
على إثر انقلاب الغابون الذي جاء بعد نحو شهر من انقلاب النيجر ، والذي أثار ضجيجًا وتباينًا في المواقف الإقليمية والدولية، توالت ردود الفعل الدولية، حيث أدانت فرنسا الانقلاب على لسان المتحدث باسم الحكومة الفرنسية أوليفييه فيران، والذي قال بأن فرنسا تراقب الأحداث عن قرب، وعبر عن رغبة بلاده في رؤية احترام نتائج الانتخابات حال معرفتها. فيما علق جوزيب بوريل مسؤول السياسة الخارجية بالاتحاد الأوروبي على انقلاب الغابون والانقلابات في منطقة الساحل والصحراء بأن “هذه مشكلة كبيرة لأوروبا”. أما الولايات المتحدة فقد أدانت الانقلاب وطالبت بالحفاظ على الحكم المدني والديمقراطية.
ومن الواضح أن تنديدات الدول الكبرى بالانقلاب قد اكتست لغة دبلوماسية تقليدية حتى تفتح قنوات اتصال مع قادة الانقلاب لاستقطابهم أو استمالتهم وتأمين مصالحها، وحتى لا ترسل رسائل خاطئة لعملائها في الجيوش الذين تعتمد عليهم في قمع الشعوب وبسط نفوذها.
إن انقلاب الغابون هو انعكاسًا لواقع العلاقات بين الدول صاحبة النفوذ في العالم وفي أفريقيا على وجه الخصوص، خاصة أن انقلاب النيجر (قبل شهر) قد أفزع فرنسا بدرجة غير مسبوقة وبخاصة بعد خسارتها لمالي وبوركينا فاسو مؤخرًا. وهو ما دعا الرئيس الفرنسي السابق هولاند لانتقاد القيادة الفرنسية بسبب غياب ردود الفعل الفرنسية الواضحة وعدم التحرك حيال الانقلابات في أفريقيا، منوهًا إلى أن ذلك أدى إلى تشجيع العسكريين في الدول الأخرى لتنفيذ انقلاباتهم. كما دعا ماكرون إلى القول في مؤتمر سفراء فرنسا في باريس قبل أيام قليلة بأن علينا أن ندعم (شركاءنا) الزعماء الأفارقة، منوهًا إلى أنه إذا أظهرنا ضعفًا ولم ندعمهم فمن سيثق بفرنسا في أفريقيا، وأي مكان سيكون لنا في العالم؟ ونتيجة لهذا الهلع، وبالنظر إلى المعطيات والمعلومات المتعلقة بالحدث وقادة الانقلاب، فإن الشواهد تشير إلى أن ما وقع في الغابون إنما هو انقلاب وقائي نفذته المخابرات الفرنسية تحوطًا من خسارة المزيد من نفوذها في أفريقيا، وبخاصة وأن ماكرون كان قد اتهم برنار إيمييه، مدير وكالة المخابرات الأجنبية الفرنسية بالإخفاق في توقع الإطاحة بالرئيس بازوم من قبل المجلس العسكري النيجري.
فبعد انقلاب النيجر بات الموقف الانتخابي المضطرب والسخط الشعبي في الغابون يستلزم التحوط والعلاج، فالشعب الغابوني قد سئم من حكم عائلة بونغو وبذخها، ومواجهة بعض أفرادها لقضايا فساد في فرنسا، بالإضافة إلى أن الرئيس علي بونغو مريض وعاجز عن إدارة شؤون البلاد، فضلًا عن انقسام العائلة بعد وفاة والده، ومن ذلك خلافه مع قريبه المنقلب عليه الجنرال بريس كلوتير أوليغوي نغيما، هذا بالإضافة إلى أن تصرفاته أغضبت فرنسا مثل إبرامه لاتفاق الشراكة الثنائية مع الصين بعد زيارته لبيكين في نيسان/أبريل 2023، وسماحه للجيش الأميركي بتدريب الجيش الغابوني. إذ يعتبر ذلك كله من موجبات عزله حفاظًا على مصالح فرنسا. فبرغم عراقة عائلة الرئيس علي بونغو في التبعية لفرنسا منذ أن جرى تجنيد والده عمر بونغو من قبل رجل الاستخبارات الفرنسي الشهير جاك فوكار المعروف باسم “السيد أفريك”، والذي سلّم السلطة لعمر بونغو في الغابون ليقوم هذا الأخير بإعطاء تراخيص النفط لشركة إلف الفرنسية حصرًا، إلا أن المنطق السياسي الرأسمالي لا يقيم وزنًا للعملاء، ويمكن التخلي عنهم واستبدالهم كالنعال، إذا بات وجودهم خطرًا على مصالح الدول الراعية لهم. وهذا ما عبر عنه أحد الدبلوماسيين الفرنسيين بقوله، إذا تضاءلت شعبية الزعيم، في الانتخابات أو في الشوارع، فسوف تنأى فرنسا بنفسها. ولهذا برر أوليغوي نغيما انقلابه أثناء إجابته على سؤال موجه من قِبل جريدة لوموند الفرنسية يوم الأربعاء 30 آب/أغسطس بعد الانقلاب مباشرة، ما إذا كان هذا الانقلاب مخططًا له منذ فترة طويلة أم أن إعلان نتائج الانتخابات بفوز علي بونغو هو دافع التحرك؟ فقال: “أنتم تعلمون أن هناك استياءً في الغابون، وخلف هذا السخط، هناك مرض رئيس الدولة، والجميع يتحدث عن ذلك، لكن لا أحد يتحمل المسؤولية. ولم يكن له الحق في الخدمة لولاية ثالثة، وتم انتهاك الدستور، ولم تكن طريقة الانتخاب نفسها جيدة، فقرر الجيش أن يطوي الصفحة ليتحمل مسؤولياته”.
وتجدر الإشارة هنا إلى أن علي بونغو كان قد حظر وسائل الإعلام الفرنسية في البلاد أثناء فترة الانتخابات، وفور وقوع الانقلاب سمح الانقلابيون باستئناف نشاطها، وخصها قائد الانقلاب بمقابلة مع واحدة من صحفها وهي صحيفة (ليموند). كما أن توقيت الانقلاب عقب الإعلان عن نتائج الانتخابات مباشرة ينطوي على تخطيط مسبق ويهدف إلى تعطيل الحياة الدستورية وامتصاص غضب الشعب وتفريغه بانقلاب وقائي، وتفويت الفرصة على المعارضة أو على عملية انقلابية مباغتة كما جرى في النيجر. ولم يكن تسليم الجنرال أوليغوي نغويما السلطة الانقلابية رغم قرابته من الرئيس بونغو إلا لطمأنة التيار الحاكم والوسط السياسي التابع لفرنسا والمتجذر في مفاصل السلطة، ومنعهم من التحرك ضد الانقلاب. وبالتالي فإن فرنسا لم تكن راضية بشكل عام عن علي بونغو وكانت راغبة بتغييره خشية انقلاب مباغت أو اندلاع ثورة وانهيار النظام، فتحركت بسرعة كبيرة لتأمين الجابون والمحافظة على نفوذها. ورغم خروج الناس لتأييد الانقلاب إلا أنه لم يُلحظ أي هجوم على فرنسا من قِبل قادة الانقلاب أو من قبل الناس، وإنما اقتصرت بهجتهم على خلع الرئيس الفاسد، وذلك بخلاف ما جرى في مالي وبوركينا فاسو والنيجر، حيث هتف المؤيدون للانقلابات بشعارات معادية لفرنسا.
وأما إدانة فرنسا الناعمة لانقلاب الغابون فلا تعدو عن كونها تعبيرًا تقليديًّا لإخفاء تحركاتها السرية. إذ لم نشهد تلويحًا بالقوة لإعادة الرئيس المخلوع كموقفها من انقلاب النيجر، ولم نر خطوات عدائية لفرنسا من طرف قادة الانقلاب كالمطالبة بخروج القوات الفرنسية من الغابون.
ومن أبرز المؤشرات على تخطيط فرنسا للانقلاب أيضًا، قيامها بخطوة تمويهية قبل شهر واحد فقط من الانتخابات الرئاسية، حيث عززت تسليح الحرس الجمهوري بأربع مركبات مدرعة فرنسية من طراز AML-90 تسلمها الرئيس علي بونغو بحضور مسؤولين رفيعي المستوى من جميع فروع الجيش الغابوني ومن بينهم قائد الانقلاب الحالي الجنرال أوليغوي نغويما، والذي قال لوسائل الإعلام: “إنه لشرف عظيم لي، بصفتي القائد الأعلى للحرس الجمهوري، أن أتلقى المعدات”. وطوعًا لما تقدم فإن انقلاب الغابون إنما هو انقلاب وقائي، وعملية تنظيف من الداخل للحفاظ على الوجود الفرنسي ضد التجريف الأميركي المتواصل لبقايا النفوذ الفرنسي. ذلك أن الغابون دولة غنية بالموارد وبخاصة النفط والخشب والمنغنيز، ويعمل في الغابون قرابة 120 شركة فرنسية مثل شركة التعدين الفرنسية العملاقة “إراميت” المنتجة للمنغنيز عالي الجودة، وتخشى فرنسا من ضرب موارد اقتصادها عبر الاختراقات الأميركية، حيث يعتمد الاقتصاد الفرنسي على استغلال الشركات الفرنسية للثروات الأفريقية والتي من شأن تحكم الولايات المتحدة بها أن يفتح قنوات الاتصال بين الشركات الفرنسية والولايات المتحدة طلبًا لتأمين مصالحهم، وهو الأمر الذي يفضي إلى تحكم الولايات المتحدة بالدولة الفرنسية العميقة وصناع السياسة في فرنسا نفسها.