خيط منسول
قصة في مقال
بقلم الأسير: جعفر فوزي أبو حنانة
كانت جدتي سليطة اللسان على الصالح والطالح، ودوماً تستخدم الأمثال للتشريح والتجريح وخصوصاً وهي تحتضن حجر الرحى – الجاروشة، الذي تطحن به النساء كما تطحن البرغل والفريكة.
وبيوم من الأيام سكنت بحارتنا جارنة لنا، امرأة حسناء طويلة القامة شعرها فاحم ناعم منسدل على كتفيها يتطاير في مهب الريح مع كل نسمة ونسمة، بالإضافة لرائحة عطرها الفواح كانت تبدو كرقيقة مثل البلسم، هي من السناء التي تجعلك تشعر بأنك عظيم وتكمل كل جوانب النقص فيك.
وعندما شاهدتها جدتي على هذه الحالة، أخذت تلوك فمها يميناً ويساراً كنايةً وإماءة عن عدم إعجابها وقالت مثلها المعهود المشهود “طب الجرة على فمها بتطلع البنت لأمها”، وليش طالعة مزلطة هيك… وعلى مدار سنوات طويلة أذكت وركست جدتي وساهمت بظلم نفسها كوبنات جنسها، وتناست أنها امرأة وكرست الصورة النمطية مثلها مثل غيرها ممن يقفون حائط سد في وجه ح قوق المرأة ويظلمونها.
هذه الثقافة جعلت من المرأة قطعة أثاث منسية في زاوية المنزل، وأكثر ما يردده المتشدقون على مسامعنا عن إنسانية المرأة وحريتها باتت ثقافة هشة وضعيفة كثمرة سقطت عن الشجرة وفي وحل العار وعقدة الشرف.
أما من يلعب دور البطولة في هذه المسرحية الهزلية يتظاهرون بالدفاع عن حقوقها يتبوؤون خشبة المسرح الهزلية المأساوية ويكتفون بالكلمات الفارغة.
وهكذا تحولت المرأة كأنها زورق ورقي تعصف به الرياح والأمواج العاتية، التي تستمد هيجانها من العادات التي استمرأت التهام النساء بنهم كأنها لقمة سائغة.
هؤلاء المتشدقون تائهين بين صراع الأبجدية والمعنى، أصبحوا كضباب كثيف يلف قضية المرأة مما جعلهم وسمحوا لأنفسهم اصطياد النساء عبر صنارة المتعة والوعود الزائفة، كأن النساء سمك حفش في بركة تخلفهم.
أعرف يا سيدتي بأنك متعبة من طول السباحة ضد التيار، وكلام الدم والعار والشرف تطاردك حتى بكت العين دماً.
يا سيدتي الحرية جارف وعند الجهلة مستنقع ساكن وأسى مليء بالرذيلة والخطيئة.
ولأن لكل شيء حد إلا الجهل والهبل حتى أصبح كستارة تحجب المنظر في وضح النهار، وينسى الجاهل بأن هناك جهيل غرس برية في عرق الجهل والتخلف مكانة المرأة ملتبسة غير معروفة وشخصيتها نكرة وما هي إلا أفكار مسمومة متعفنة وخطيئة تتربع على كرسي ما زال يتأرجح.
ولكنك ستبقين الهوية والحرية والكيان والإيمان والميلاد والبلاد وسارية العلم والحبر والقلم والروح والطموح.
لذا، ليس غريباً أن نرى الجهلة يدّعون بأنهم حرّاس الحدود والفضيلة ويراقبون من حظائرهم كل شاردة وواردة، وبجهلهم ربطوا أفكارهم وعقولهم وقلوبهم برسن التخلف، أضاعوا البوصلة والحلم والأمل والمستقبل والمعنى واستبدلوها بسكّين ومسدس ومطرقة.
يا سيدي، الزمن هو الحكم والفيصل، وهو وحده سيكشف زيف وكذب هؤلاء وسنخلع عنهم أقنعتهم المزيفة، لأنه ليس ثمة إجهاض بلا جنين.
يا سيدتي تمرّدي على خوفك، تلمسي أحلامك، سيري في درب الأمل والفرح، ارسمي ملامح أحلامك ت حرّري من قيودك وابتسمي.
أتلمس قلبك يا بلسم الروح المضطرب، الذي أصبح من شدة الألم والمرارة والحزن، حوض ينوح من التشدّق بأننا شعب حر ومتحضر وعندما تحضرين بروحك وكامل أنوثتك كحضور شمس النهار والقمر مبدداً ظلمة الليل، للأسف ما زال فينا من ينظر إليك نظرة ثُم يمحُها أو نظرة متعة في الذاكرة يحفظها.
نعم يا مرفأ القلب ومرسى الروح، مخالب انتزاع حقوقك مجبولة بالدمع ومدرجة بالدماء ومسكونة بالأنّات زاخرة بالعثرات التي تسمم الآمال وتغتال الأحلام، وتصبح أصوات النساء في حرمهم مجرد ثغاء نعجة، وبدون شكّ يستمر غول الشرف منطلق العنان فالت من عقاله ويلتهم ويفترس فتاة هنا وهناك، شلال دم ينزف ولا ترى له نهاية قريبة.
يسطع في الخيال فيرسم قضية المرأة كأنها لوحة زرقاء، وخلف الموجهة سارية قارب خشبي تصارع الموج العاتي الذ ي يلفها من كل جانب، ونصف هذا المجتمع ينظر إلى نصفه الآخر الذي يغرق، ونصف النصف منهم من يهتف بأعلى صوته، متلهف لنجدتك يمد يده لانتشالك من الغرق، والنصف الأخير ينظر لا مبالي متردد، ويتساءل هل ستغرق؟! يا سيدتي ألا يعرف هؤلاء بأنك طائر حب بأجنحة بيضاء ترفضين أن تكوني ببغاء في قفص تخلفهم، وأنّ سفينة حريتك سترسو على رمال أقرب شاطئ.
في الحقيقة أجمل ما في الحياة الحب وأن تسكنك امرأة تتوضأ من نور وجها وتصلي في محراب صدرها وتتدثر بدفء حضنها الوليد، لأنك يا سيدتي بلسم الحياة ودواء للأمراض ومهما نال التعب من آدم وحواء سيبقى القلب على إيقاع حبهما ينبض لاثنين.
مع الأخذ بعين الاعتبار الفجوة الرقمية بين ماضينا وحاضرنا وزمن السوشل ميديا، ستبقين يا سيدتي النجم والكوكب وروح الوجود ونبض الخلود، وقضيتك مسألة غير قابلة للنقض.
أتساءل لماذا؟ ينزعج البعض من صدى احتجاجات خجولة وأخرى صامتة.
وأحاول فهما لماذا؟ حرية المرأة تقضّ مضجع أولئك المتشدقون، هل لأنّك يا سيدتي طائر يعبر الأزمنة والأمكنة ويبني أعشاشه فوق كل غيمة.
أم لأنّك تمرّدتِ ورفضت أن تكون مكانك وحريتك مجرد صورة معروضة في لوحات معلقة على جدار المتعة والتقاليد البالية، أو مجرد خيال يصعب في متعته مخترقاً حجاب السماء.
أعرف أنّ هؤلاء المتشدقون يحاولون حرمانك من وسائل النطق حتى بأبسط الحقوق.
يا سيدتي، أنت لست لعنة، ولست عاراً وعورة، وهم ليسوا ملائكة مبرئين من الخطيئة، وأناس كثير هم ما زالوا نبع بؤرة التخلف، هم الطابور الخامس أصحاب ثقافة متعفنة قصدت لعماها عن صنع حلم وأمنية تجعلك مشرقة كالشمس ساطعة كالنجم في ظلام عقولهم.
أنتِ يا سيدتي بابتسامتك وعطاؤك وتضحياتك وصبرك مذاق الحية بحضور الماضي والحاضر والمستقبل بلا حدود أو نهايات لأنّك لا تشبهين أحد إلا أنتِ.
ربما يُقال في هذا المقال مآرب وغاية.
نعم، غايتي هي حريتك يا سيدتي، فالحب وحده يوحي إليّ كل هذه الكلمات، وليس هذا فحسب، بل لأنّك السمر والقمر والنهار والأنهار والحقول والسهول وقطرة الندى والمدى والماء والهواء والنار والأم والأخت والحبيبة وزهرة القلب ونور العين.
فنحن لا نبحث عن صورة مثالية، ولا تريد ننحت تمثال كآلهة الحب الإغريقية، فروديت في صدفتها البحرية، أو قصة ترويها جدتي عن امرأة متبرجة رائعة بجمالها ورفيقة روحها، ثم تمضغ فمها يميناً ويسراً، أو قصة يرويها راعي كنيسة في قداس يوم الأحد ويجعل منك أفعى وبسببك أخرجنا من الجنة، أو خطبة وموعظة يصبح بها شيخ يجعل من النساء قواريراً، وفي الختام تصبح حرمة وصوتها عورة ونكرة ومكانها المخدع والمطبخ.
إذا بقي لنا متّسع لإضافة بعض الكلمات، المشوار يا سيدتي ما زال بأوله، والسباق يحتاج من يبدأه، عليك أن تكوني الاسم والفعل، ولا تقبلي بحروف النعت، ك وني بعطفك وحنانك وحبّك وبأجنحة سحريك، حلّقي فوق الزمان والمكان، وكوني نجمة سرمدية وصيرورة الحياة في الأرض والسماء، وكوني سيلاً عارماً وحطّمي بوابات سجنك وكوني أنتِ، نعم أنتِ.. بكل ما فيك من إشراقة ورقّة وأنوثة وحسّ مرهف المشاة والخيالة والفارسة والرماة والرماح والسهام والعربات، ودقّي طبول الحرب فالحقوق لا تُستجدى بل تُنتزع.
كان يوماً حاراً وجافاً، مضت الساعات بصعوبة وهبط الظلام، أتذكر أن الأرض كانت مغطاة بالأعشاب العطرية والزهور البرية.
وجدت أثناء سيري بجانب غابة الجهل المطلة على الوادي السحيق قبراً لموءودة وبجانب القبر وفوقه نبتت أشتال ريحان وأعواد ميرمية تتمايل مياسة مع كل نسمة تسافر في الوادي، وقد كتب على شاهد القبر المكسور: إلى متى… كفى..!
في الحقيقة عليّ أن أعترف أني مهما قلت، سأبقى غارق في متاهات التأويل وشرحه، وأعجز عن الوصول للوصف الدقيق للجراح النازفة، لأنّ جدتي رحمها الله عندما انتهت بحثها الخيالي والوقائي وأشغلت نفسها ومن لفّ لفيفها مطولاً بالبحث والتدقيق بالاستعانة بالقيل والقال، وصلت إلى نتيجة أنّ المرأة جارتنا الطويلة الجميلة صاحبة الشعر الأسود المعشق باللون الذهبي والعيون البنيّة صاحبة الطلّة البهية مرفأ الروح لا تُنجب إلا بنات.
ففرّت بزوجها وبناتها من ظلم وقساوة حماتها، وزنّها لكي تزوج ابنها ممَّن تُنجب له الفتيات الذكور.
ففرّت إلى سعة وجنة الحب وبستان الحياة.
وأخيراً استفاق ضمير جدتي وانتصرت للحق وقالت: هذه مثل بناتي ورددت مثلها المشهور (اللي بتزرعوا الـ… بتجيبوا المرأة)، وأكملت (يا عيب والله حرام امرأة مثل الوردة يتزوج عليها لأنه العيب بالرجل مش فيها).