أسفار الصهيونية
أسفار الصهيونية
أ. سعيد الصالحي
الحقيقة دائما ثقيلة على كل المسامع حتى على الحقيقة ذاتها، وهى ترى انعكاس صورتها في المرآة فتنكرها وتستثقلها ولا تعترف بها لمجرد أن يسار المرآة يحتال ويلعب دور يمينها الحقيقي، وها نحن بدورنا نرى انعكاس صور الراحلين عبر شاشات التلفزة كل يوم نحو السماء شهداء، ونحن شهداء عليهم، نرقبهم ونحصيهم ونعد قبورا بلا شواهد، فشتان ما بين من احترفوا الشهادة وبين من كتموها، فالفلسطينيون هم آخر الكلمات عندما يخرس العالم، وهم جذور سنديانة البشرية وساقها الذي يصعد بثمار أرواحهم نحو سماء الانتصار لتمطر الدنيا على الأرض الإنسان الحقيقي ليرى كل من هم على الأرض صورهم الحقيقية دون مرآة.
قبل عدة أيام أدخلوا الوقود إلى غزة، كمية لا تكفي لاشعال سراج وعدة قناديل، أدخلوا السولار لا لتعمل المخابز والمطاحن وغرف العناية الحثيثة والخداج بل ليتحدثوا مع المقاومة التي فرغت بطاريات هواتفها ولم ولن تفرغ عزيمتها وذخائرها، وأدخلوا عشية السبت كما قال متحدثهم الملابس الثقيلة لجنودهم، وتركوا أطفال غزة عرايا كمصارعي السومو يباطحون الدمار والخذلان والجوع والعطش والعدوان في وطنهم المسيج كالحلبة، ولم يعد أحد يخشى عليهم من بطش المعتدي وعدم التزامه بقواعد المصارعة بقدر الخوف من الالتهابات المعوية والبكتيريا والاسهال.
لو سمع هوميرس أو عاصر هذا الطفل الفلسطيني لكان هرقل وأخيل وبرشيوس أقزاما في ملاحمه أمام طفلنا الذي تغلب على مردة البر ووحوش البحر وكواسر السماء، هذا الفلسطيني الذي يصنع ملحمة حقيقية أمام العالم الأعمى، ملحمة سيتذكرها العالم لأجيال ولكننا بحاجة إلى كاتب أعمى كهوميرس لان كل الكتاب المبصرون لن تنفعهم لغتهم ومفرداتهم في وصف ما يجري لأن صور الحقيقة أقرب إلى الخيال، ولكنه خيال رعب وموت ووحشية، صور تعكس عجز المعتدي وقوة أطفال الخداج، فلنترك سرد روايتنا للكاتب الاعمى ريثما يجد الكاتب البصير معجما عصريا جديدا يتضمن مفردات مناسبة لجرائم الصهاينة التي باتت قصص وحكايات أسفارهم القديمة في سدوم وعمورة وأريحا لا تعدو كونها قصصا للأطفال أمام قصصهم الجديدة التي سيكتب أسفارها حاخاماتهم ورجال أحزابهم وساساتهم الجدد في أوطانهم الحقيقية بعيدا عن فلسطين.
في غزة أصبح الفلسطيني هو المستحيل الوحيد الباقي على قيد الحياة بعد أن قهر الغول والعنقاء ومات الخل الوفي، فقد تجاوز كل المصائب والصعاب، فشرب ماء البحر، وأكل من خشاش الأرض، وتنفس الفسفور والكربون وما زال حيا، هاجمه العدو وخذله الصديق وتكالبت عليه الأوبئة والظروف الجوية وما زال حيا، فنار العدو المسعورة المجنونة التي تحرق المدارس والمشافي ليست أكثر من شعلة أوليمبية بالنسبة له، فها هو يحملها بيده اليمنى وعلم فلسطين بيده الأخرى ويجوب قارات العالم لينشر قيم الصمود والحق والانسانية التي لم يعرفها عدوه الذي قضى عمره متباكيا ومتسولا العطف من دول العالم، بعد أن أضاع العهد مع تابوت العهد، وأمست إنسانيته ذكرى كعصا موسى، وعاد إلى أصله كقاطع للطريق وسارق لحقول الآخرين، وأكبر مخالف لوصايا ربه العشرة التي لم يحفظها أو يفهمها يوما لأنه ينتمي بكل جوارحه لما تمليه عليه أسفاره المتجددة فهو ابن العنصرية والكذب والادعاء والسرقة والكراهية التي اختزلتها كلها أفعالهم بكلمة مقيتة واحدة وأسوء كلمة في الكون ألا وهي “الصهيونية”.