تأثير وسائط الاتصال في النزاعات و الحروب: الانتقال من زمن الخطابة الى الخطاب الرقمي
تأثير وسائط الاتصال في النزاعات والحروب: الانتقال من زمن الخطابة إلى الخطاب الرقمي
أ. أحلام لقليدة
كان لفن الخطابة دور كبير في إدارة النزاعات والحروب، منذ الأزمنة الغابرة، على مستوى التحفيز و التأثير في الجماهير، لكسب قاعدة شعبية واسعة مؤيدة لها، والنيل بالتالي من عزائم العدو وتفشيل معنوياته. إلا أنها ما فتئت تتطور مع توالي العصور، بتجديد أساليب البلاغة والفصاحة المنسجمة مع لغة عصرها، لبلوغ الهدف المنشود في إقناع الرأي العام، برجاحة التوجه والانخراط في المبادرة المزمع اتخاذها أو الخوض فيها، مسخرين لذلك كافة الوسائل سواء، كانت عقائدية أو دينية أو حربية .
وإذا كان فن الخطابة قد حافظ على طابعه الكلاسيكي وأدواته التعبيرية، بما في ذلك المواصفات الخاصة التي يتحلى بها الخطيب، على امتداد العصور، فإنه لم يصمد أمام المارد الإليكتروني، والتحول الجذري والحاسم في مجال التواصل، الذي اخترق كل الآفاق، ليس على مستوى تدفق المعلومات فحسب، وإنما على مستوى انتشارها على أوسع نطاق.
فإن ذلك لم يمنع فن الخطابة من التكيف مع هذا التطور، والاستفادة من الإمكانيات التي يتيحها كآلية للتواصل، وتوظيفها بالتالي في تمرير الأفكار عبر ابتكار لغة جديدة تساير لغة العصر، بمضامين صريحة أو مضمرة عبر رسائل لا تخلو من أبعاد تحفيزية وتوجيهية وسياسية أيضا، وذلك بأقل الكلمات الممكنة وفي وقت زمني محدود جدا، مما يجعلها أكثر صعوبة وتتطلب كفاءة عالية ودقة متناهية، بكل ما يعنيه ذلك من إيجاز وتركيز، بأسلوب مؤثر ومقنع، مع تفادي المبالغة الدعائية وتجنب أي إطناب أو حشو، من شأنه أن يخلق شرخا ما في أهداف الخطاب ويسقطه في متاهة التعويم.
صحيح أن طبيعة الأحداث، تحتم نوعية الخطاب وقاموسه الخاص، بل وحتى نبرته على مستوى الإلقاء، ولكنها تتقاطع في الهدف الرامي إلى استمالة الجمهور، ودعوته إلى الانخراط والدعم المادي والمعنوي.
استلهام روح الخطابة كانت سلاحا فعالا عبر مختلف العصور، في حالتي السلم و الحرب. ولكل زمن خطباؤه في مختلف الحقول والمجالات، الذين تميزوا بالفصاحة. ومازال التاريخ الإسلامي يحتفظ لكل واحد منهم بخطبة خالدة على الأقل، كوثيقة بصمت على حضور قوي ومؤثر وكانت نموذجا لكل الأجيال المتلاحقة، التي استمدت منها الكثير من القواعد والأساليب البلاغية ووسائل الإقناع. وثمة أمثلة كثيرة في هذا الباب، ما تزال تتردد إلى اليوم، منها على سبيل المثال لا الحصر، خطبة الوداع، لرسولنا الكريم يوم عرفة من جبل الرحمة مبشرا “اليوم اكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي ورضيت لكم الإسلام دينا” وخطبة طارق بن زياد عند فتحه للأندلس :” أيها الناس، أين المَفر؟ البحرُ من ورائكم، والعدوُّ أمامَكم وليس لكم واللَّهِ إلا الصدقُ والصَبْرُ. واعلموا أنكم في هذه الجزيرة أَضْيَعُ من الأيتام في مَأْدُبَةِ اللِّئام.»
ولم يكن لكل ذلك أن يتحقق بمعزل عن شخصية الخطيب ومكانته الاعتبارية في المجتمع ودرجة مصداقيته ومدى قدرته على تبليغ الرسالة، بلغة عصره و إلمامه بقضايا ومشاغل الجمهور وإثارة مشاعره.
هذا الانتقال السلس والمتوارث عبر الأجيال لفن الخطابة، بمفهومه العام، سرعان ما عرف تحولا نوعيا في الزمن الراهن، بفضل ما أحدثته الثورة الرقمية من تحولات جذرية، جعلت التواصل الآني والمباشر ممكنا، حيث أصبحت المعلومة والخطب والبيانات الخاصة بالأحداث الكبرى في متناول الجميع، وإن كان مسرحها أقصى رقعة في العالم، مما أفرز أسماء لامعة اكتسبت شعبية كبيرة وأصبحت تتصدر اهتمام قواعد جماهيرية واسعة، ومحط اهتمام الخصوم و الأعداء قبل المناصرين لهذه القضية أو تلك. وموضع ترقب وانتظار من لدن المتتبعين والمهتمين من مختلف الأوساط والشرائح الاجتماعية بل وحتى من لدن الدوائر العليا المعنية، المتحكمة في إدارة تلك النزاعات أو الحروب، بعدما كان ذلك حكرا على القنوات العالمية الكبرى، التي كانت تهيمن على المشهد الإعلامي، وتسوق لخطاب الجهات المتحكمة في إدارة النزاعات والصراعات الدولية، مستغلة في ذلك خبرتها وإمكانياتها الضخمة، في توجيه الرأي العام وتهويل الأحداث أو تقزيمها، حسب انحيازها لأحد طرفي المعادلة، مسخرة في ذلك كل ما تملك من خدع ووسائل التعتيم والتمويه، وتحويل الضحايا إلى جلادين وتقديم هؤلاء في صورة ضحايا، ولفت الأنظار إلى محطات معينة دون غيرها لتعزيز أطروحتها، والتغطية على هول وفظاعة بعض الأحداث الدامية والمجازر الهمجية، والعمل بالتالي على شرعنة القتل، عبر اختلاق المبررات تلو المبررات، تحت يافطة حق الدفاع عن النفس، وإن كان ذلك، في مجرد «حق أريد به باطل». كما هو حال التعاطي مع أحداث غزة على سبيل المثال لا الحصر. حيث يتم التغاضي عن إحدى شقي أوجه الصراع على حساب الشق الأهم في المعادلة، المتعلق بالحق في المقاومة وتحرير الأراضي الفلسطينية المغتصبة، والتسويق بالتالي للشق الثاني من المعادلة الذي يدعي حق الدفاع عن النفس. ولو أن لا مبرر تماما للقتل والدمار، وإلا سنكون أمام همجية جديدة، لا أحد يستطيع التكهن بعواقبها.
احتكار منهجي لم يعمر طويلا، مع ظهور وسائط التواصل الاجتماعي، التي كسرت الطوق ووفرت إمكانية التخاطب المباشر مع الجماهير، بالصوت والصورة، وبأقل التكاليف، حيث أصبحت المعارك الإعلامية وتأثيرها على الجماهير في النزاعات تحظى نسبيا بنوع من التكافؤ، مما أفرز العديد من المؤثرين والخطباء الذين تمكنوا من تكسير جدار الصمت، واستقطاب ملايين المتابعين في القارات الخمس، من خلال براعتهم في الإقناع وإلمامهم بفن الخطابة في صيغته الراهنة، التي تعتمد الاختزال والصدق في نقل المعلومة، دون مغالاة أو تحيز، بواسطة أشرطة مصورة لا تتجاوز عشر دقائق أو أقل، ولكن مضامينها حركت مشاعر الملايين من المتابعين، بل أصبحت مصدرا للمعلومة بالنسبة للعديد من القنوات الفضائية.
ويلاحظ في هذا الإطار، أن فن الخطابة في شكله الجديد، امتزج بفن السخرية، والنيل من الخصوم قبل المقصرين أو المتخاذلين أو ممن يعتبرهم الخطيب كذلك، كما حدث إبان شن الحرب على العراق، وبروز شخصية محمد سعيد الصحاف كناطق رسمي، آنذاك، وكخطيب أثار انتباه الجميع بحدة نبرته وتحديه للخصوم من دول التحالف. والكل يتذكر وصفه لهم بـ «العلوج» ووقعها الخاص، وترديدها في مختلف المحافل والمنتديات وتداولها على نطاق واسع، إذ أصبح الجميع يترقب خرجاته الإعلامية، التي لا تخلو من سخرية. مما يؤكد أن الكلمة السهم غالبا ما تصيب الهدف، وتغني عن مئات الكلمات والخطب لوقعها الخاص في نفوس الجماهير وتفاعلهم معها. وهو ما حصل كذلك في الآونة الأخيرة، مع إحدى خرجات أبو عبيدة، الناطق العسكري لحماس في إحدى خطبه عبر شريط فيديو، حيث جرى تداوله بين ملايين المتابعين، وترديد جملة «لا سمح الله»، التي وردت في هذا الشريط، الذي وجه من خلاله رسالة مشفرة بطريقته الخاصة حين قال : “إلى زعماء وحكام أمتنا العربية، نقول لكم من قلب المعركة التي تشاهدون ولا شك تفاصيلها عبر شاشاتكم، إننا لا نطالبكم بالتحرك لتدافعوا عن أطفال العروبة والإسلام في غزة من خلال تحريك جيوشكم ودباباتكم لا سمح الله، ولا أن تدافعوا عن أقدس مقدساتكم التي تنتهك فيها الحرمات…”
إن كل الخطب على مر العصور، لا تخلو من إشارات ورسائل، رغم اختلاف الصيغ والأشكال والمجالات الاجتماعية والعقائدية والدينية، والسياسية، بلبوساتها المتنوعة على مستوى الطرح والوسيلة والهدف وتعدد وظائفها في التعبئة وتأجيج المشاعر وشحنها، وتوجيه الرأي العام. ولذلك أصبحت كبريات الدول اليوم تعمل على استقطاب المؤثرين من ذوي الاختصاص الذين راكموا شعبية واسعة، لتوظيفهم في الترويج لسياساتهم، والتمهيد لتمرير خططهم، ذات المدى المتوسط والبعيد، كوسيلة من الوسائل الإعلامية الماكرة لتهيء الرأي العام على تقبل ما قد يحصل من فواجع ومجازر، بدرجات أقل من التأثر، وإن تعلق الأمر بإبادة جماعية في حق شعب أعزل.
ولذلك فإن كسب الرهانات الإعلامية، أصبح يشكل اليوم أهمية قصوى، أكثر مما كان عليه الحال أيام الحرب الباردة، على اعتبار أن كسب تعاطف الرأي العام الدولي يمر عبر امتلاك التكنولوجيا وتوظيفها بأمثل الطرق وأنجعها. لدرجة أنها أصبحت أكثر تأثيرا وفاعلية من القنوات الديبلوماسية الرسمية وأدرعها الإعلامية.
شاعرة و كاتبة