ما هي الفرص المهنية للغة العربية؟ لكي لا تذهب سدى جهود المراكز اللغوية العربية
ما هي الفرص المهنية للغة العربية؟
لكي لا تذهب سدى جهود المراكز اللغوية العربية
أ.شاكر نوري
كلنا يعلم أننا نتحدث عن سبل تطوير اللغة منذ عقود طويلة، وقد نبّه علماؤنا إلى انحسار اللغة العربية الفصحى وتراجعها، وهذا الانحسار ينطبق على لغات أخرى أيضاً، المعروف أنَّ مقررات وتوصيات مؤتمرات اللغة العربية كلها إن لم يكن معظمها يُشير على الدوام إلى ضرورة تفادي هذه المعضلة عن طريق زيادة حصص التعليم في المدارس وغيرها من الخطوات التي تخص الآداب والفنون، إلا أننا لم نتقدم في هذه الخطوات، تبقى هذه المقررات والقرارات في وادي والجيل العربي الشاب في وادٍ آخر، فكيف نهدم هذه الهوة بين الجانبين، وكيف نمد الجسور بينهما؟
مما لا شك فيه، إن اللغة الإنجليزية أصبحت الطاغية في التجارة العالمية، بل وزحفت إلى وسائل التواصل الاجتماعي، واستولت على التقنيات الحديثة، بل أصبحت حكراً عليها، هل يُمكن أن تتخيلوا معي أن 99 بالمئة من محتوى الإنترنت بالإنجليزية، والنسبة المتبقية أي 1 بالمئة إلى بقية لغات العالم؟! والسبب في ذلك هو الإنتاج المعرفي بكافة أشكاله وأطيافه؛ لأن عدم تغذية الإنترنت بما ننتجه من معارف هو الإجابة على هذا السؤال: أي قصور اللغة العربية في محركات البحث الإلكتروني، بل لا أبالغ إذا قلت أنك تجد إجابات على أسئلة عربية في اللغات الأخرى وليس في اللغة العربية، إن ما نزرعه هو الذي نحصده، وليس في ذلك أي عجب، إن زراعة دونم من الأرض لا يُعطيك إلا دونماً من الإنتاج، فاللغات الأخرى وخاصةً الإنجليزية التي تتوزع على قارات عديدة، هي لغة إنتاج واختراع وابتكار، لذلك تؤهلها لأن تكون الرائدة في محركات البحث الإلكتروني، وتتسيّد الموقف.
ينبغي أن لا نشعر بعقدة النقص مع هذا المعطى التاريخي؛ لأن لغات العالم تعاني من الظروف ذاتها، ولكنها تُجهد نفسها في البحث عن الحلول، ولا يمكن أن نتحدى اللغة الإنجليزية بالذات واللغات الأخرى المهيمنة إلا إذا اتبعنا الخطوات ذاتها التي اتبعتها، وهي الإنتاج المعرفي.
لا تتطور أي لغة في العالم بدون هذا الإنتاج المعرفي، هذه معادلة متوازنة، إذا أردنا أن نغذي محتوى الإنترنت باللغة العربية يجب علينا ليس تشجيع البحث العلمي على الإنتاج والاختراع والابتكار، بل تهيئة الوسائل والظروف المناسبة لذلك، وإنزال اللغة العربية إلى ساحة المعركة والتنافس والتحدي، ولا يكفي أن نتحدث عن عظمة لغتنا، بل يجب أن نوفر لها أسباب الحياة.
فهل نحن قادرون على ذلك؟
هل يُمكننا أن نجعل من اللغة العربية، وهي معتمدة في الأمم المتحدة في صلب التبادلات العالمية، ونفتح أمامها فرصاً مهنية كبيرة؟
هل تصلُح مزايا لغتنا العربية للبيئة المهنية؟
لا بد لنا من توسيع الأسواق العربية بين البلدان العربية والبلدان الأجنبية الأخرى، وهذا يتعلق بما لدينا من ثروة وتصنيع وإنتاج، المنطقة العربية ليست فقيرة، إذ تتبوأ المملكة العربية السعودية المرتبة الثالثة بين أكبر منتجي النفط في العالم، والعراق في المرتبة الخامسة، والإمارات العربية المتحدة في المرتبة السابعة، تليها إيران، وقطر، والجزائر، وليبيا.
لماذا لا نطرح أنفسنا لغتنا العربية في التعاملات التجارية ما دمنا نمتلك هذه الثروات؟
علينا أن نطلق العنان لشركاتنا من التوسع وتفعيل دورها في العالم، ثم هل يمكن لنا أن نطلق التقنيات الجديدة باللغة العربية، وتأسيس مدارس ومعاهد تدرّس العلوم باللغة العربية، وخاصةً في مجال الإنترنت، لا بد لنا من اختراع إيميل يعمل باللغة العربية على سبيل المثال.
إننا نؤسس هنا وهناك بعض المدن الذكية، لكنها تعمل باللغة الإنجليزية، فهي لا تعدو أن تكون مجرد مدن ملحقة بمدن العالم الأخرى، ليس إلا لأنها فقدت خصوصيتها في توفير وعاء للغة العربية، اللغات الأخرى تنهب ثرواتنا من حيث لا ندري بما تمتلك من إنتاج نحن قادرون على إنتاجه.
التصميم يأخذ حيزاً كبيراً، وكذلك الهندسة المعمارية، يكفي أنَّ أكبر مهندسة معمارية مبتكرة في العالم، وفرضت تصاميمها في أغلب مناطق العالم هي عربية، وكان من الممكن تسويقها باللغة العربية، لماذا لم نقم بتعميم تجربتها باللغة العربية وليس بالإنجليزية؟ كانت تلك فرصةً لتسويق لغتنا العربية من خلال هذا الإبداع العالمي.
لا يكفي أن نعلّم أولادنا اللغة العربية، بل يجب أن نجعلها محببةً إلى نفوسهم، ولا ندع الآثار العالمية تُصبح مراجع لهم، إذا تحدثنا قصصهم عن روميو وجولييت يجب أن نحدثهم عن قيس وليلى، أو عنتر وعبلة…
لماذا أكثر مراجع أولادنا في الفنون والسينما هي الأفلام الأجنبية وليس الأفلام العربية؟ لأننا لم نصدر تراثنا سينمائياً، ولم نعمل على إنتاج رموزنا بصرياً لكي تأخذ حيزاً طيباً في السوق العالمية للفنون.
من ثم ننتقل لما يتحكم في حياتنا في الوقت الحاضر، أي التجارة الإلكترونية السائدة، لا بد أن تكون العربية هي لغة التعامل مع الآخرين، ولا بد من إجبار العالم على تعلّم لغتنا مثلما نحن نتعلم لغاتهم في مدارسنا ومعاهدنا وجامعاتنا، سوريا على سبيل المثال وليس الحصر، تدرّس الطب باللغة العربية، واستطاعت أن تُخرِّج كوادر طبية ناجحة.
بعد ذلك ننتقل إلى انتشار شبكات التواصل الاجتماعية، وهي تكفي لتجعل أولادنا يرغبون في تعلّم دروس اللغة العربية المتوسطة أو المكثفة بمجرد أن نقدم لهم الفرص المهنية في العمل، عندما نتحدث مع الآباء عن ذلك، يقولون لك: إن العربية ليست صالحة لسوق العمل!
إن خريج اللغة العربية لا يجد عملاً إلا براتب متدنٍ ومحدود، بينما صاحب اللغة الإنجليزية يحصل على راتب أعلى، بل وأضعاف راتب زميله المتعلم باللغة العربية، هذا التباين يخلق شرخاً في نفوس الشباب، لا بد إذاً والحالة هذه من خلق موظفين يتحدثون اللغة العربية أسوةً بالذين يتحدثون الإنجليزية والإسبانية والألمانية وحتى الصينية؛ من أجل المنافسة في سوق العمل، وخاصةً في ميداني التجارة والاتصالات.
إن تطور اللغة العربية مرهونٌ بظهور الأسواق العربية، بل هي محرك يقودنا إلى تطوير البحث عن قدراتنا، لكن للأسف الشديد نحن لم نختبر قوانا لحد الآن؛ لأننا ببساطة جعلنا لغةً أخرى تقرر مصائرنا، لغة مهيمنةً علينا، وهي غول الإنجليزية، ليس نحن الذين نعاني من ذلك، بل لغات أخرى مثل الفرنسية والألمانية وغيرهما أيضاً.
علينا لو أردنا أن نعطي أهميةً للغتنا لا أن ننشرها في التطبيقات على اختلاف أشكالها، بل ونفرضها فرضاً عليها.
لماذا لا توجد لدينا تطبيقات باللغة العربية؟ هل علماؤنا قاصرون في ذلك؟
لماذا يختار عدد قليل من الطلبة اللغة العربية، وخاصةً في مجال الأعمال التجارية أو القانون، رغم أنهم يحققون نجاحات كبرى في اللغات الأخرى؟
الخبرة النادرة هي الخبرة المطلوبة، وبإمكان العربية أن توفر هذه الخبرة.
دعونا نتذكر أن اللغة العربية مهمةً جداً في قطاع السياحة، إذ أن اللغة الرسمية في 25 دولةً بما في ذلك المغرب وموريتانيا والأردن وتونس ومصر هي اللغة العربية، فلماذا لا نستخدمها في السياحة؟
يجب أن نخلق وظائف ومناصب باللغة العربية، وتكون متاحةً للجميع؛ لأنها تسمح بتطوير أحد أكثر الأسواق نمواً في البلدان العربية.
إن المستقبل التجاري كفيلٌ بأخذنا نحو آفاق التطور والازدهار، ويمكن للغة العربية أن تصبح فرصاً مهنية كبيرة للكوادر المتنوعة، والمواهب الناطقة باللغة العربية يجب رعايتها وتوفير سوق عمل لها، إذ بدون توفير سوق العمل لها يعني أننا نعمل على وئدها في الرحم، وذلك لا يتم إلا عن طريق البحث والابتكار والإبداع باللغة العربية وليس غيرها.
ولكي لا تذهب سدى جهود المراكز اللغوية العربية، لا بد من إقامة جسور تواصل بينها وبين الفرص المهنية للغة العربية.
إعلامي وروائي عراقي