غسل يدي المجرم بدم الضحية
غسل يديّ المجرم بدم الضحية
أ. يحيى إبراهيم النيل
“الولية وأنا بخنقها عضتني في أيدي. أكونش عدوتها؟”
العبارة التي قالتها (ريّا) في قصة (ريّا وسكينة) معترضة على دفاع البنت عن نفسها بما تملك من سلاح في وجه من تحاول قتلها خنقاً، أصدق ما ينطبق على سياسيينا الذين عابوا على المواطنين العزل حمل السلام للدفاع عن أنفسهم وأعراضهم وأموالهم، لمّا رأوا ما حلّ بقرى مجاورة استباحتها قوات الدعم السريع في ولاية الجزيرة وغيرها.
صحيح أن حمل المواطنين السلاح له عواقب غير محمودة. وصحيح أيضاً أن مسئولية حمايتهم تقع على عاتق الدولة بجيشها وقواتها النظامية الأخرى. لكن إذا عجزت هذه القوات أو تقاعست عن حمايتهم، كان الأجدر بهؤلاء أن يعيبوا على الدعم السريع الاعتداء على المواطنين وإجبارهم على حمل السلاح، بدلاً عن لومهم وهم الضحية، اللهم إلا إذا كانوا يريدون منهم فعل أحد أمرين: إما أن ينتظروا حتى يروا دُورهم وقد استبيحت وأموالهم وقد نهبت وأعراضهم وقد انتهكت أمام أعينهم، أو ان يهجروا ديارهم قبل وصول جنود الدعم السريع وتركها لهم لقمة سائغة، عملاً بتحذير صاحب الحجاج بن يوسف: “أنجُ سعدٌ، فقد هلك سعيد”. كان الأحق أن يطلبوا من قوات الدعم السريع أن تتوقف عن مهاجمة القرى الآمنة في دارفور وفي الجزيرة وعن عدم تهديد الشمالية والقضارف بنفس مصير هاتين الولايتين؛ وأن تكف عن ترويع ساكنيها البسطاء الذين لا علاقة لهم بـ(الفلول)، ولم يسمعوا بـ(دولة 56)، ولا يريدون (ديمقراطية) لا يفوز فيها من يرشحه “سيدهم”.
أفهم تماماً أن يتخذ شخص ما موقفاً ما، وفقاً لقناعاته، وأن يدافع عنه. لكن ما لا أفهمه هو تبرير الأفعال الإجرامية ومحاولة غسل يدي الجاني، بدم ضحاياه أحياناً، بمغالطات لا تقف على رجل. والأمثلة (على قفا من يشيل). يكفي أن نورد تصريح الأستاذة زينب الصادق المهدي التي قالت فيه: “إن وجود الدعم السريع داخل منازل المواطنين سببه قصف الطيران”، وأضافت: “إذا أردت للدعم السريع أن يخرج من بيوت المواطنين فعلى الجيش أن يوقف القصف ويضع السلاح”! وهو ما كرره الدكتور عمر القراي: “إن مقاتلي الدعم السريع لن يخرجوا لك من البيوت حتى لا تضربهم بالطيران” […] وأضاف أن جنود الدعم السريع الذي دخلوا منازل المواطنين “قد تركوا أهل هذه الدور فيها ولم يطردوهم منها”! وهو ما تكذبه كل الوقائع.
إذا سلمنا جدلاً بصحة ذلك، نسأل: لِمَ، إذن، نهب جنود الدعم السريع مقتنيات البيوت التي حمتهم وشحنوها إلى ولاياتهم داخل السودان وإلى بلدانهم؟ لِمَ اغتصبوا حرائرها، وصوروا فعلتهم، ونشروها، افتخاراً بها، في الوسائط؟ لِمَ جلبوا أسرهم وهددوا في فيديوهات منشورة أنهم لن يخرجوا منها؟
حتى لقاء البرهان\حميدتي الأخير في جيبوتي، الذي لم يتم “لعدم تمكن حميدتي من الحضور لـ(أسباب فنية)”، حسب الإيقاد، منظِّمة الاجتماع والداعية إليه، كتبت عنه “تنسيقية القوى الديمقراطية المدنية (تقدم): “عرقلت عناصر المؤتمر الوطني، المتحكمة في خطاب السودان الدبلوماسي بوضع اليد، لقاء قائد الجيش بقائد الدعم السريع في الموعد المحدد”.
لقد غدا هؤلاء (ملكيين أكثر من الملك)، إذ أن قادة الدعم السريع أنفسهم قد اعترفوا بهذه الجرائم ونسبوها لـ”متفلتين” منهم. وقالوا إنهم سيحاسبونهم. وأدانتهم منظمات دولية وحكومات دول تكره فلول السودان وتحنق على قادة الجيش الذين أطاحوا بحكومة الدكتور عبد الله حمدوك المدنية. نورد هنا، للتذكير فقط، بعض هذه الإدانات التي صدرت في فترات متباعدة منذ بداية الصراع حتى الآن، لنرى كيف أن هذه الفظائع لم تتوقف.
في يونيو الماضي قالت المتحدثة باسم مكتب الأمم المتحدة لحقوق الإنسان إن المقابلات التي أجريت مع الفارين من الجنينة بولاية غرب دارفور إلى أدري في تشاد، كشفت وقائع مروعة عن “قيام ميلشيا عربية، مدعومة بقوات الدعم السريع”، بقتل الفارين من المدينة سيرا على الأقدام.
وفي الشهر نفسه، أدان الاتحاد الأوروبي مقتل ما لا يقل عن 87 شخصا في غرب دارفور بالسودان “على أيدي قوات الدعم السريع والميليشيات المتحالفة معها”. كما أكدت الولايات المتحدة الأمريكية أن انتهاكات كبيرة ومروّعة وثّقتها منظمات حقوق الانسان “ارتكبتها قوات الدعم السريع في السودان ومجموعات مسلّحة متحالفة معها”. وقد أشارت وزارة الخارجية الأمريكية أن الانتهاكات شملت عمليات اغتصاب وجرائم جنسية أخرى.
وفي أغسطس، أعرب خبراء الأمم المتحدة عن قلقهم إزاء تقارير تكشف عن الاستخدام الوحشي والواسع النطاق للاغتصاب وغيره من أشكال العنف الجنسي “من قبل قوات الدعم السريع”.
وفي نوفمبر أدان المركز الأفريقي لدراسات العدالة والسلام “بأشد العبارات” اعتقال 66 طفلاً، تتراوح أعمارهم بين 14 إلى 16 عامًا، في ولاية غرب دارفور “من قبل قوات الدعم السريع” واستخدامهم كرهائن.
وفي ديسمبر حثت وزارة الخارجية الأميركية “قوات الدعم السريع”، على وقف تقدمها فوراً في ولاية الجزيرة، وعدم مهاجمة ود مدني. وقالت إن تقدم هذه القوات في ود مدني يهدد بتعطيل جهود توصيل المساعدات الإنسانية، لأن المدينة ملاذ آمن للمدنيين النازحين ومركز مهم لجهود الإغاثة.
وفي الشهر نفسه، أدان برنامج الغذاء العالمي بشدة نهب الإمدادات الغذائية من مستودعاته بولاية الجزيرة، بعد اقتحام “عناصر من قوات الدعم السريع” لها عقب سيطرة المجموعة على ود مدني. وأشار البرنامج إلى أن المستودع كان يحتوي على مخزون يكفي لإطعام ما يقرب من 1.5 مليون شخص يعانون من انعدام الأمن الغذائي الشديد لمدة شهر واحد في الولاية، حيث أجبر الهجوم الجديد أكثر من 300 ألف شخص على الفرار.
ولم يقتصر دفاع هؤلاء السياسيين السودانيين على قوات الدعم السريع، وإنما امتد ليشمل داعميهم الإقليميين، كدولة الإمارات العربية المتحدة. ذلك بالرغم من أن أعضاء في الكونجرس الأمريكي قد بعثوا مذكرة إلى وزارة خارجية هذه الدولة طالبوها فيها بوقف دعمها لقوات الدعم السريع في السودان. وقالوا إن إرسال الأسلحة إلى دارفور [حيث تقاتل قوات الدعم السريع هناك] يمثل انتهاكاً لقرار حظر الأسلحة الذي فرضته الأمم المتحدة على دارفور بموجب قرار مجلس الأمن رقم 1591. وأوضحت بان هذا الانتهاك “يشكل خطرًا كبيرًا على سمعة دولة الإمارات وسيضع الشراكة الوثيقة طويلة الأمد مع الولايات المتحدة في موضع تساؤل”. وهذه الاتهامات أكدتها (وول ستريت جورنال) الأميركية وصحيفة صحيفة (الدويتش فيله) الألمانية و (نيويورك تايمز) وأكدها كذلك أليكس دي فال، أحد أكبر الخبراء المتخصصين في الشأن السوداني، وكاميرون هيدسون، الباحث في معهد أتلانتيك، وغيرهم الكثيرون. ومع ذلك يقول المحلل السياسي السوداني الشفيع أديب عن تصريح الجنرال ياسر العطا، الذي اتهم فيه الإمارات بدعم قوات حميدتي: إن العطا “قدم تصريحا يمكن وصفه بأنه غير مقبول لأنه وجه اتهامات لا دليل عليها واكتفى بالإشارة إلى طرق الدعم التي لا يمكن التأكد من صحتها”!