حرب غزة تعري المركزية الغربية و فلسفتها الأخلاقية
حرب غزة تعري المركزية الغربية وفلسفتها الأخلاقية
أ. أورنيلا سكر
إن لغة العصر هي القوة والاستكبار الذي حاولت الاطراف المعنية طمس حقيقتها من خلال التلاعب بالذاكرة والتاريخ الجماعي . غير ان الاعلام الرقمي كشف الستار عن حقيقة هذا العالم المتكاذب في اخلاقه وقيمه واهدافه التنويرية والكشوفات العلمية الذي يخفي خلفها كل اشكال الهيمنة والسيطرة والتزوير التاريخي. نحن هنا لسنا بصدد ادانة الغرب بقدر ادانة انفسنا الذي لا يقل تاريخنا سوءا عن الاستعلاء الغربي والمركزية الغربية . إن اخفاقات العرب والمسلمين لا تقل شأنا في حروبهم على السلطة وتقاسم النفوذ ونشر الخلافة القومية والدينية باسم الاسلام والعرب وهذا ما عبرت عنه المعارضة في ما عرفت انذاك بموجة الربيع العربي وانتشار الحركات المتطرفة وتكفير الاخرين على اعتبارهم من جماعة الكفار كما يفعل اليوم نتنياهو عبر توصيف العرب بالحيوانات البشرية وكل التوصيفات الدونية الاخرىى. ولا ننسى تجربة وسيطرة الخلفاء الراشدين والفترة الاموية والفاطمية في مصر اضافة الى مرحلة العروبة والقومية العربية التي كان احدى اسباب فشلها اعلاء قيمة الاسلام على باقي الثقافات والهويات المتواجدة في المنطقة . فنزعة الامبراطورية تقاسمتها جميع الامم والشعوب . لكن ، ما يهمني ان اشير اليه في هذه المقالة الاختلافات والتباينات التاريخية والثقافية بين الحضارتان العربية الاسلامية والغربية .
لا شك ، أن ما قام به الطرفين مدان انسانيا واخلاقيا لان مسألة القتل والعنف هي مسألة يمكن تجاوزها في المفاوضات والحلول الديبلوماسية والسياسية لكن، الاشكالية في الصراع الفلسطيني –الاسرائيلي ، هو ان صبر المفاوضات والتنازلات قد نفذ بفعل عدم الاعتراف الطرف الاسرائيلي بالشراكة الفلسطينية وهذا بطبيعة الحال مشروع قديم جديد يعاد احيائه في المنطقة وفق مخططات جديدة اكثر استحكاما وتدميرا من زي قبل .
إن مأساة القرن اليوم هي في انك فقدت ثقتك بامكانية تحقيق العدالة وأن من يمسك بها غير قادر على تطبيقها لانه مدان بفضائح جفري ابستين التي ظهرت لتهدد جميع من يعترض على مشيئة اسرائيل ومقرراتها وهذا واضح في طريقة تعامل نتنياهو مع الرئيس الامريكي جو بايدن والاوامر التي يتلقفها يوميا بشأن مطالبته بتكثيف الدعم العسكري ومشاركة الولايات المتحدة في حرب اوسع في المنطقة وهذا تفسره طبيعة الصراع اليوم في البحر الاحمر وعمليات القرصنة والتصعيد المتبادل بين اسرائيل والحوثيين وتعريض الملاحة الدولية للخطر ونقل الصراع بشكل اوسع الى اربيل وباكستان في محاولة لاستنزاف ايران في عمقها الجغرافي وتبادل الرسائبل الاقليمية ردا على حادثة كرمان الاخيرة في ايران .
ربما من يراقب المشهدية من بعيد تضح له الصورة بشكل ادق واوضح ، أن الصراع بريئ من شبهة المعيار الاخلاقي والانساني والوطني ، بل إنها حرب مصالح ونفوذ وامبراطوريات تاريخية تحاول استرجاع حقها المغتصب تاريخياً غير أن السؤال الكبير اليوم، العرب ماذا هم فاعلون من اجل استرجاع كبريائهم المغتصب والمستباح؟ وهل يكفي موسم الرياض للتأكيد وتفعيل رسالة التي مفادها نحن بخير طالما نحن مطبعون وبالرعاية الصينية ؟
فقط تخيل ذلك لبضع ثوان ، إذا لم تلتزم ايران بتعهداتها، واستمرت تل ابيب باستفزاز ايران في عمقها الجغرافي او، عبر جماعات ارهابية مثل البلوش وغيرهم بهدف استنزافها واحتوائها امنيا وسياسي ؟ وماذا سوف يحصل ان لم ينجح مشروع اكسبو 2030 وبخاصة أن الغرب لن يسمح باستقرار هذه المنطقة والتجارب التاريخية خير دليل على عدم التزام بريطانيا اتجاه شريف حسين ووعدها له بشأن الدولة العربية والتصدي للاحتلال العثماني انذاك وسياسة التتريك فضلا الى خلفيات مؤامرة سايكس بيكو وغيرها من الوعود التي قدمتها اسرائيل لمصر بعد اتفاقية كامب دايفد . ماذا تحقق من ذلك، اين مصر اليوم من عمقها الاستراتيجي في القرن الافريقي؟ أين السودان اليوم بعد التطبيع مع اسرائيل والربيع السوداني ؟ أين لبنان بعد ثورة 17 تشرين؟ اين سوريا بعد حرب دامت اكثر من 11 عاما ؟
واقعياً، نحن شاهدون على العصر وحقيقة أنه منذ 7 أكتوبر (ولعقود قبل ذلك التاريخ)، لم يشهد حلفاء تل أبيب الغربيون والمستعربون ، ما فعلته إسرائيل بالشعب الفلسطيني فحسب، بل زودوها أيضًا بالمعدات العسكرية والقنابل. والذخائر والتغطية الدبلوماسية، والمبررات التاريخية والاخلاقية في المقابل قدمت وسائل الإعلام الأمريكية مبررات أيديولوجية لذبح الفلسطينيين والإبادة الجماعية لهم عبر توصيف اسرائيل بالضحية واعادة استئناف الهولوكوست اليهودي وتوظيفه اعلاميا لتبرير جرائم الحرب والتلاعب بالذاكرة الجماعية وتزوير السردية المعرفية للتاريخ.
لماذا دائما يتم التعاطف مع الابادة اليهودية اكثر من الابادات الاخرى التي لا تقل سوءا مثل رونندا، و ابادة الايغور والارمن والاكراد والهنود الحمر والموريكسيين والاوكران والمسلين السنة في دارفور والبوسنة ولا ننسى امريكا اللاتينية اي المكسيك البيرو وافريقيا الجنوبية وبنغلادش والعراق ونيجريا وو. .
ومع وجود البلطجة العسكرية التي تمارسها الولايات المتحدة وأوروبا وأستراليا وكندا خلف إسرائيل بالكامل، فإننا نحن شعوب العالم العاجزة، مثل الفلسطينيين، لا نهتم. وهذا ليس مجرد واقع سياسي؛ كما أنها وثيقة الصلة بالعالم الخيالي الأخلاقي والفلسفي للانوار والنهضة والتي تطلق على نفسها اسم العالم الحر والديمقراطي، والانساني وحقوق الانسان هم الحلقة الاكثر تعرضا للتداعيات والأثار ما بعد حرب غزة بفعل التغيرات الديمغرافية وانظمة الحكم الجديدة. فهل الغرب اليوم قادر على الابداع وابتكار خداع جديد يوهم بها العالم بحجة نشر العدالة والديمقراطية وحقوق الانسان .
فبعض المستشرقون أو فلاسفة الغرب اليوم، امثال إيمانويل كانط، وجورج فيلهلم ، وفريدريش وهيغل، واستمراراً مع إيمانويل ليفيناس وسلافوي جيجيك، التي تحاكي شذوذات ،وأشياء معروفة كلف المستشرقون بفك رموزها. وعلى هذا فإن مقتل عشرات الآلاف منا على يد إسرائيل، أو الولايات المتحدة وحلفائها الأوروبيين، لا يثير أدنى توقف في أذهان الفلاسفة الأوروبيين لاننا باعتقادهم ، مجرد تجارب بشرية الهدف منها، تحقيق التفوق والتمركز الغربي والهيمنة على كافة مصادر الثروات والمعرفة في العالم من اجل تأبيد الاستكبار الغربي واستعلاء العرق الابيض وتسيده على باقي الشعوب ، وهذه مشكلة ينبغي معالجتها عقائديا اكثر منه سياسيا لان عدم استقرار منطقة الشرق الاوسط بشكل خاص هو بفعل هذا الصراع الديني –القبلي –العرقي الذي يجد مصوغاته وفق نصوص دينية تبرر اعماله وافكاره العنصرية .
.
وإذا كان العالَم يطرحُ أسئلة مماثلة حول فيلسوف ألماني كبير آخر، وهو مارتن هايدجر، في ضوء انتماءاته الخبيثة إلى النازية. في رأيي، يجب علينا الآن أن نطرح مثل هذه الأسئلة حول صهيونية هابرماس العنيفة والعواقب المهمة على ما يمكن أن نفكر به في مشروعه الفلسفي بأكمله؟
إذا لم يكن لدى هابرماس ذرة من المساحة في مخيلته الأخلاقية لأشخاص مثل الفلسطينيين، فهل لدينا أي سبب لاعتبار مشروعه الفلسفي بأكمله مرتبطًا بأي شكل من الأشكال ببقية البشرية – بما يتجاوز جمهوره الأوروبي القبلي المباشر؟
وفي رسالة مفتوحة إلى هابرماس، قال عالم الاجتماع الإيراني البارز آصف بيات إنه “يناقض أفكاره” عندما يتعلق الأمر بالوضع في غزة. مع كامل احترامي يقول: ” أرجو أن أختلف، أعتقد أن تجاهل هابرماس لحياة الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع صهيونيته. وهو ينسجم تماماً مع النظرة العالمية التي ترى أن غير الأوروبيين ليسوا بشراً بالكامل، أو أنهم “حيوانات بشرية”، كما أعلن وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف جالانت علناً..
إن هذا التجاهل المطلق للفلسطينيين متجذر بعمق في الخيال الفلسفي الألماني والأوروبي. والحكمة السائدة هي أن الألمان، وبسبب ذنب المحرقة، طوروا التزاماً قوياً تجاه إسرائيل وهذه فاجعة القرن لجهة كيفية تحسين مسار هذا الاستكبار في حين لم يجري مصالحة ذاتية والاعتراف بجريمته والاعتذار عنها وهذا ينطبق ايضا على واقع فرنسا مع الجزائر ومستعمراتها في افريقيا ، فجميع الامم تعتذر وتتصافح الا النزعة الاوروبية لا تزال تكابر وترفض الاعتذار.
ولكن بالنسبة لبقية العالم، كما يتضح الآن من الوثيقة الرائعة التي قدمتها جنوب أفريقيا إلى محكمة العدل الدولية، هناك اتساق تام بين ما فعلته ألمانيا خلال حقبتها النازية وما تفعله الآن خلال حقبتها الصهيونية.
أعتقد أن موقف هابرماس يتماشى مع سياسة الدولة الألمانية المتمثلة في المشاركة في المذبحة الصهيونية للفلسطينيين. وهو يتماشى أيضًا مع ما يُنظر إليه على أنه “اليسار الألماني”، مع كراهيته العنصرية وكراهية الإسلام والأجانب للعرب والمسلمين، ودعمهم الشامل لأعمال الإبادة الجماعية التي ترتكبها المستعمرة الاستيطانية الإسرائيلية..
ويتعين علينا أن نغفر إذا تصورنا أن ما تعانيه ألمانيا اليوم لم يكن ذنب المحرقة، بل الحنين إلى الإبادة الجماعية، كما انغمست بشكل غير مباشر في المذابح التي ارتكبتها إسرائيل ضد الفلسطينيين على مدى القرن الماضي (وليس فقط في المائة يوم الماضية).
وهذا الانحطاط الأخلاقي ليس مجرد زلة سياسية أو نقطة أيديولوجية عمياء. فهو مكتوب بعمق في مخيلتهم الفلسفية، التي ظلت قبلية بشكل لا يمكن علاجه.
وهنا، يجب أن نلخص عبارة الشاعر المارتينيكي المجيد إيمي سيزار: “نعم، سيكون من المفيد أن ندرس سريريًا، بالتفصيل، الخطوات التي اتخذها هتلر والهتلرية وأن نكشف للبرجوازية المسيحية المتميزة جدًا والإنسانية جدًا القرن العشرين، دون أن يدرك ذلك، ما يعتري هتلر بداخله، وما يسكنه، وأن هتلر هو شيطانه، وأنه إذا انتقده، فهو غير متسق، وهذا، في جوهره، ما لا يمكنه أن يغفره هتلر، ليس الجريمة في حد ذاتها، أي جريمة ضد الإنسان، وليس إذلال الإنسان في حد ذاته، بل الجريمة في حق الرجل الأبيض، وإذلال الرجل الأبيض، وحقيقة أنه طبق على أوروبا الإجراءات الاستعمارية التي حتى ذلك الحين كانت مخصصة حصريًا لـ الشعوب العربية والهندية والإفريقية لذلك من الصعب تقديم اعتذار.
بالختام، فلسطين هي اليوم امتداد للفظائع الاستعمارية التي يستشهد بها سيزار في هذا المقطع. ويبدو أن هابرماس يجهل أن تأييده لذبح الفلسطينيين يتوافق تمامًا مع ما فعله أسلافه في ناميبيا خلال الإبادة الجماعية هيريرو وناماكوا في افريقيا، معتقدين أن العالم لا يراهم على حقيقتهم..
في النهاية، من وجهة نظري، لم يقل هابرماس أو يفعل أي شيء مفاجئ أو متناقض؛ بل على العكس تماما. لقد كان متسقًا تمامًا مع القبلية غير القابلة للشفاء في نسقه الفلسفي، والتي اتخذت بشكل خاطئ موقفًا عالميًا.
لقد تحرر العالم الآن من هذا الشعور الزائف بالعالمية وبدأ يبحث عن كينونته وكرامته وفق خطاب مقاوم وسردية جديدة يخاطب بها المستعمر بلغة اليوم. إن الفلاسفة مثل في واي موديمبي في جمهورية الكونغو الديمقراطية، أو والتر ميجنولو أو إنريكي دوسيل في الأرجنتين، أو كوجين كاراتاني في اليابان لديهم مطالبات أكثر شرعية بكثير بالعالمية من أي وقت مضى لدى هابرماس وأمثاله.
في رأيي، يمثل الإفلاس الأخلاقي لتصريح هابرماس بشأن فلسطين نقطة تحول في العلاقة الاستعمارية بين الفلسفة الأوروبية وبقية العالم. لقد استيقظ العالم من سبات الفلسفة العرقية الأوروبية الزائفة. واليوم، نحن مدينون بهذا التحرير للمعاناة العالمية لشعوب مثل الفلسطينيين، التي أدت بطولاتهم وتضحياتهم التاريخية الطويلة إلى تفكيك الهمجية السافرة التي كانت تقوم عليها الحضارة الغربية.
صحافية لبنانية متخصصة في العلاقات الدولية والدراسات الاستشراقية