بين روايتين
بين روايتين
أ. يحيى إبراهيم النيل
التقيت الدكتور ضياء الدين يوسف جميل نهاية أكتوبر الماضي في باريس. وقد أكرمني بأن ألح عليّ أن نلتقي يوم وصولي لأنه كان يزمع سفراً خارج فرنسا صبيحة اليوم التالي وأكرمني بأن أهدي إليّ نسختين من روايتيه (قدر أعمى) و (عاشقة الصمغ)، الصادرتين عن دار كل العرب للطباعة والنشر بباريس.
الرواية الأولي (قدر أعمى) تحكي عن مهاجر أفريقي يعيش في باريس كان يوصل ولديه إلى المدرسة ووقع في حب معلمتهما، اسمها كارولين، التي وصفها من شعرها حتى أخمص قدميها كما كان يفعل شعراء الحقيبة عندنا في السودان. إنها امرأة “مليئة بالأنوثة. جمالها فطري. صوتها نغم. خدودها ممتلئة ولونها وردي. سيقانها طويلة وممتلئة بعض الشيء. بشرتها بيضاء ذات ملمس ناعم …”. ولذلك نظر إليها “كتمثال عذراء عارية نحتته رياح الشوق والحلم النائم”، و “احتفظ في مخيلته بصورة امرأة مثيرة جنسياً”. صارح كل منها الآخر بحبه. تبادلا الرسائل والتقيا كثيراً. ولم تخلُ لقاءاتهما من (لمم)، إن جاز لنا أن نتسامح في هذا. اتفقا على الزواج وسافرا إلى المغرب لإتمامه. غير ان حادث موت والدة الزوجة، في عملية تحريرها مع رهائن آخرين في إفريقيا، أدى إلى تأخير الزواج. ثم إن زوجته (الأولى) دبرت حيلة ماكرة بأن وجدت لها وظيفة مرموقة في دولة خليجية ثم اصطحبت ولديها وزوجها معها. وأجبرت زوجها على تغيير رقم هاتفه وأخذت عليه عهداً ألا يكلم كارولين. رجع بعد بضعة أشهر إلى باريس وذهب إلى المدرسة ليقابلها. لكن الحارس أخبره بأنها، كما يقال، “قد انتحرت بتناول كمية كبيرة من أدوية سامة قاتلة، بعد أن تركها وابتعد عنها رجل متزوج، كانت معه على علاقة غرامية”.
الرواية الثانية (عاشقة الصمغ) تحكي عن شاب سوداني اسمه (مدلل) “كان صاحب أكبر شركة لتصدير الصمغ السوداني. وكان من قلائل السودانيين الذي فتحوا حسابات في بنك لندن. وكان يدخن الغليون ويشرب الويسكي الانجليزي”. في إطار عمله التقى في لندن بمديرة إحدى الشركات الإنجليزية التي كانت له معها معاملات تجارية. رغم أنه كان متزوجاً وله ولد وبنت، إلا أنه وقع في غرام المديرة، وكانت ارملة يهودية توفي زوجها الطيار بعد تحطم طائرته. أحبته هي كذلك. تزوجها واسلمت هي وبنتها من زوجها الأول على يديه وأتى بهما على الخرطوم. أنجب منها ولداً وبنتا: نجمة وحبيب الله. بعد وفاته حرمها ابن زوجها من نصيبها في الميراث وهددها وأولادها بالقتل، فهربت إلى باريس مع ولدها وبنتيها. وهناك تزوجت تاجراً يهودياً وغيرت دينها رغم محاولات بنتها (المسلمة الملتزمة) بإثنائها عن ذلك. بل إنها حاولت قتل زوج أمها. تعرفت (نجمة) على طالب دكتوراه سوداني في باريس اسمه (وحيد). أحب كل منهما الآخر وقررا الزواج. وأعدت نجمة وأسرتها العدة له. لكن وحيداً قرر أن يتركها ويرجع إلى السودان “لأنه كانت لديه التزامات أكاديمية وأخلاقية وأسرية”. الحمد لله فإن نجمة لم تنتحر، رغم انها هددته بفعل ذلك إن تركها. ربما عصمها دينها واستقاء العبر من محاولة قتل زوج أمها.
هذه خواطر عنّت لي اثناء قراءتي للروايتين. وهي محاولة تقديمهما أكثر من كونها محاولة نقدية لأني لست ناقداً، ولا ينبغي لي ان أكون. ومعرفتي بمدارس النقد مثل معرفة جدتي بعلم الذرة وتقنيات تبريد المفاعلات النووية!
- قصتا الروايتين متشابهتان. وموضوعهما واحد: قدوم أفريقي إلى أوروبا وانغماسه في الحياة الأوروبية بعلاقاتها المنفتحة بين الرجال والنساء، ثم وقوعه في حب أوروبية والنزاع بين حياته الوردية بأحلامها وطموحاتها في أوروبا ونزوعه نحو جذوره. وغالباً ينتصر الجذر الثابت المغروس في تربة الوطن. وهو موضوع طرقه كثير من الروائيين. ومن مظاهر العلاقة بين الروايتين نجد أن عنوان الرواية الأولى (قدر اعمى) قد ورد، نصاً أو معنىً، أكثر من مرة في الرواية الثانية.
- لغة الروايتين، خاصة (قدر أعمى)، شاعرية وتضج بالتعبيرات الساحرة الجميلة والتشبيهات الطريفة التي لا يمكن إحصاؤها هنا، مثل “أركض وراء رزق مبعثر فقير لشراء مسكنات الغربة ودواء جرح الوطن”. وأول هديه لعشيقته الأوروبية التي قد تدمر أسرته كانت “شبكة صيد لموت جماعي قادم”. وكان وهو قادم للقائها يحمل باقة ورد أحمر ” أشد حمرة من دم بركة الأضاحي والكرامات”.. وعن عقدة الذنب بسبب زواجه على زوجته التي احتضنته في الوقت الذي كان فيه طالباً مشرداً ذا مستقبل مجهول يقول: “لقد كانت حياتي معها خليطاً من العسل والحليب. زوجة عزفت لها مزامير حياتي وأرقصتها داخل عمري المهتز. لكني فضلت الحفر والأوحال والبحث داخل براميل قمامة أغنياء باريس […] أرى نفسي لصاً سرق مقتنيات بيت اهله. يبيعها بثمن بخس ليشبع رغبة جنسية مع امرأة حائرة”. وبعد دفن والدة خطيبته “تفرق الجمع على عجل كذباب أُبعِد عنه سكر الحياة”. وقالت خطيبته بعد وفاة والدتها إن أباها قضى معها اسبوعاً “ليخفف عنها الآلام ويساعدها للوقوف على رجليها وكأنها طفلة تحبو بدأت تمشي ممسكة بأطراف السرير حتى لا تقع على وجه الحياة القاسي”. ونقرأ أيضاً: “وبحركة باركها الشيطان، قبلت راحيل يده. في تلك اللحظة بدأ الشيطان يكتب عقد قران ناقص وأُجّل الزواج إلى وقت لاحق”.
وفي (عاشقة الصمغ) نقرأ عن مدلل وخطيبته عندما كانا يناقشان بالهاتف كل يوم أحد تفاصيل زواجهما تفادياً لانتقادات الأهل والأصحاب: ” بدا كل واحد منهما يجمع الحطب ليوم الحريق الكبير كمن يدخر بنزيناً ليصبّه في نار بيته، وهو ملتحف فراشه سريع الاشتعال، والأقدار تغلق كل الأبواب امامهما”. أما (نجمة) التي مات زوجها فقد “غسلت حزنها بدموع النساء المعزيات”. وعن (وحيد)، الحائر بين التزاماته الأكاديمية والأخلاقية والأسرية وبين حبه لـ(نجمة)، يقول الراوي: “أصبحت نجمة أغنية ترددها أوردته لا يسمعها غير قلبه الواهن الحيران. أعطاها دلوه لتنهل من بئر الذكريات حتى ترتوي. ثم توسد يديه في انتظار صقور الحياة الضارية. وترك لها ثوبه كفناً لنهاية الرحلة المشؤومة”. والروايتان تزينهما مئات اللوحات الجميلة غير تلك. إنني أتساءل، بعد كل هذه اللغة الباتعة الآسرة، لماذا لم نقرأ لضياء شعراً؟
- الكاتب قدم وصفاً دقيقا ومفصلاً لكثير الأشخاص والأماكن والعادات، مما يجعل القارئ يشعر وكأنه يرى هؤلاء الأشخاص ماثلين أمامه وكأنه يعيش بين تلك الأماكن ويجلس بين أبطال الراويتين. كما قدم تعريفاً وافياً لمجالات كثيرة جداً يجهل القارئ معظمها إذ من المستحيل عليه ان يلم بها جميعاً، مثل وصفه الدقيق جداً لمفاتن النساء، خاصة بطلتي الروايتين. ووصف أثاث وديكور منزل كارولين. ومقابر باريس: تاريخ إنشائها، عدد الشجار التي غرست بها وعدد قبورها. ومراسم دفن الشخصيات الرسمية فيها؛ وعن اليورانيوم: مما يتكون و أين يوجد، من اكتشفه و متى، ومن اكتشف خواصه الاشعاعية و مدى طاقته التدميرية و فيما يستخدم؛ وعن الصمغ العربي: أماكن زراعته وكميات انتاجه في السودان ومجالات استخدامه و تاريخ اعتماده بواسطة مجلس الغذاء و العقاقير الأمريكي، و فوائده الغذائية و الصحية؛ و مدينة لندن و أشهر معالمها؛ وما يجري في ختان الإناث في السودان؛ والديوان المغربي و المائدة المغربية و طقوس الزواج المغربي؛ ووصف الغابات الافريقية، و معرض باريس الدولي و متحف الخليفة بأمدرمان و (حفرة الدخان) في السودان و الأسباب التي تدعو الطبيب إلى اللجوء إلى إجراء عملية قيصرية و مصيف أركويت على البحر الأحمر. والألغام الأرضية وطريقة تفكيكها. وفي (عاشقة الصمغ) أورد الكاتب آيات قرآنية وأحاديث نبوية، مع ذكر رواتها أحياناً. كما أورد بعض العبارات العبرية. لقد قرأ ضياء لوحه جيداً قبل الشروع في الكتابة.
- في الروايتين (نَفَس صوفي) يجعل أبطالها يشعرون بدنو آجالهم، حتى عندما يكونون في عنفوان شبابهم وتمام صحتهم، فيشرعون في إملاء وصاياهم، مثل والدة كارولين ووالدة راحيل ومدلل. وفعلاُ كان موتهم فجائياً: حادث طائرة، إنفجار لغم أرضى، سكتة قلبية أو بعد عملية جراحية لمرض اكتشف فجأة لم يكن صاحبه يشعر بتغلغله في جسده. وفيهما حبكة تمهد القارئ لحدث قادم، مثل اكتشاف كارولين بالصدفة لعقاقير قاتلة في مكتب والدتها بعد وفاتها، لتستخدم نفس العقاقير لإنهاء حياتها. ومثل رفض والدة نجمة زواج بنتها من عسكري لأن زوجها العسكري مات في حادث تحطم طائرته، فمات زوج نجمة في حادث تحطم سيارته. ومثل: “وجدت رابعة عملاً في شركة مديرها يهودي متدين و أعزب” ليهيئ القاري لزواجها لاحقاً من هذا الرجل. ومثل تقديم (وحيد) نفسه لوالدة نجمة بقوله: “أنا غير متزوج وفي حالة انتظار” تمهيداً لمشروع زواجه من بنتها.
- تطغى على الروايتين أجواء جنسية حسية. لقد أحصيت أكثر من خمسة عشر موضعاً في (قدر أعمى) وأكثر منها قليلاً في (عاشقة الصمغ) وردت فيها عبارات المعاشرة الزوجية بمرادفاتها المختلفة. وبعضها يذكرنا بمصطفى سعيد في (موسم الهجرة للشمال): “أنا طباخ ماهر. تعلمت أن اطبخ القلوب على نار هادئة وأضيف إليها قليلاً من السم القاتل. ثم أدعو الجوعى وأنتظر أن يكتمل المشهد”… وفي وصية والدة كارولين، الباحثة في اليورانيوم وعنه في إفريقيا، لبطل (قدر أعمى): “أفريقيا أرضك. نحن هنا لسرقتك وأنت الحارس الأمين. ولك الحق في أن تدافع عن أرضك…”، لكنها لم تحدد له نوع السلاح الذي يجب أن يستخدمه ليحرر به بلده، كما فعل راوي (موسم الهجرة للشمال)!
- في الروايتين هجوم على الرجل وانحياز للمرأة، مثل موقف سمير من زوجة أبيه واخوته وتنكر بطلي الروايتين لوفاء الزوجة والسعي للزواج من أخرى. بل خيانتها: “طلبت من زوجتي أن تملأ حوض الاستحمام وتضع فيه ملح البحر الميت لأنني مرهق وأريد أن استرخي قليلاً. ولكن في الحقيقة كنت أريد أن أقرأ الرسالة [التي أرسلتها له عشيقته] مرة أخرى. أريد أن أحفظها وأنشدها في صمتي”. ويقول بطل (قدر أعمى): “أنا شيطان ملعون أسود يعيش مع ملاك أبيض في هيئة قديسة”. ويحاول أن يقنعها بمعاشرته قبل الزواج (وهو مسلم): “ماذا يضيف لنا عقد زواج طُبع عند رجل مخمور وعليه ختم مجهول؟”. وترد عليه (وهي يهودية): “يعتبر هذا زنا”. وبعد لقائه مع عشيقته يقول: ” وأنا في طريقي إلى بيتي أبحث عن كلمات الكذب ودور بطولي لمسرحية أتنكر فيها بقناع الوالد حتى أبرر براءتي وأدافع عن جريمتي بين أولادي وزوجتي. أطأطئ رأسي من سلوكي المشين القبيح”.. ويقول لعشيقته في بداية موعد غرامي: ” يجب ألا نجلس طويلاَ. عندي مساجين في الشقة بانتظاري؛ وحفار القبور يجب ألا يكون بعيداً”. كما نقرأ “وعود الرجال لا تتحقق. يهربون خوفاً، تاركين خلفهم رماد حريق الحب. يضرمون النار ولا يعرفون إطفاءها. يلعبون بقلوب البنات البريئة داخل أزقة الخطيئة والغفران”. ومن مظاهر التحامل على الرجل طغيان العقلية الشرقية تجاه المرأة رغم ما ناله المعنيون من تعليم ومن كسب من الحضارة الغربية. فنجد في تبرير مدلل لزواج بنته الصغيرة: ” البنت كالبيضة إما أن تسقط وتتكسر أو تفسد مع مرور الوقت”… “أهم موضوع هو الزواج. والدراسة ممكن تكملها لاحقاً”… “صدق المثل الشعبي: ضل راجل ولا ضل حيطة”… “لا تنس يا دكتور (المرأة كان فاس ما بتكسر الراس)”.
- في الروايتين ثناء على الافريقي وعلى نبله، رغم أفاعيل بطلي الروايتين في أسرتيهما وفي الفتاتين الاوروبيتين اللتين احبتاهما: ” أمي لها تقدير واحترام للرجل الإفريقي ذي الأخلاق النبيلة. ذلك المحارب الشرس دفاعاً عن كرامته وعزة نفسه الغالية”… ” أطيب وأنبل جنس هو السوداني. الرجل السوداني هبة النيل. يحب أسرته ويقدس أولاده وبناته. خلق من صلصال الطيبة والمسئولية الذاتية. فارس أمام نكبات الدهر وغدر الأيام. تجده في أصعب الملمات سيفاً يدخر ليوم الكريهة والعداء”… “الرجل السوداني أفضل زوج على الإطلاق”…
- على العكس من ذلك، هناك تحامل على العرب، ربما لأن كثيراً من شخصيات رواية (عاشقة الصمغ من اليهود). نجد (كوهين) زوج راحيل، يحكي عن بطولاته العسكرية وكيف استطاع اسقاط عدد من الطائرات السورية وهاجم قاعدة عسكرية مصرية. ولم يستطع العرب اسقاط طائره فيقتلوه، إنما سقطت طائرته بسبب عطل فني! ونجد فريدة المسلمة (التي كانت فارديا اليهودية) تستسلم لقدرها بفرض زواجها من موشي اليهودي وتتساءل: “ليس هذا قراري، ولكن قرار الظروف. من سأتزوج في عمري هذا: أفريقي أسود أو عربي جاهل؟” لكنه عند الحديث عن (موشي) ذكر ما عرف عن اليهود من حب للمال، فهو “يعرف باريس كما يعرف جيبه”.
- في الروايتين كثير من مفردات اللغة والثقافة السودانية: “أنظروا إلى مؤخرتها. كم هي كبيرة! تشبه مؤخرة بقرة ود التوم”… ” المثل السوداني يقول إذا تزوجت غريبة يجب أن تكون شوف ودوف”… “كفارة ليك يا زول. المرض ما بتكلو زول”… “أبقوا عشرة على العَقاب”… “طيور الحمام تُربّى بماء السكر”… ” وفيهما حنين لموطن بطليهما: ” نستمع لكثير من الأغاني العربية والافريقية والغربية فتلهب نيران الذكرى في فؤادي المتيم البليد فأتذكر أمي وأهل أمي”… “رافقني حب أمي. لكنها ماتت بعد سفري الطويل […] حيث كان غيابي عنها هو الذي عجّل موتها”… “ابحث عن حب قُتل بين أزقة قريتي العابثة”… “أفضل الشاي بالحليب حتى يذكّرني شاي حليب أمي عندما تحلب أغنامها ونحن صغار”. وفي الروايتين أيضاً بعض خيبتنا وخيبة غيرنا من شعوب المنطقة في تأليه الطغاة. فقد هتف أصدقاء وزملاء والدة كارولين بعد أصابتها: ” بالدم، بالروح، نفديك يا نتالي”!
- لاحظت غرام الكاتب بعبارة ” غريق أنقذه تمساح”. وردت العبارة في الروايتين: “كيف لها أن تصف فرحة طفل أنقذه تمساح من غرق محتوم؟”. و “أعدت كارولين وجبة متكاملة وكانت روحها المعنوية مرتفعة كغريق أنقذه تمساح”. نفس هذه العبارة قرأتها من قبل في مقال للدكتور ضياء الدين عن جزع صلاح أحمد إبراهيم عندما يتذكر إعدام الشفيع أحمد الشيخ، إذ يقول: ” رغم صلابة عوده، عندما يذكر مأساة إعدام الشفيع، يبكي أمامي كطفل غريق أنقذه تمساح”.