الأستاذ الدكتور نجمان ياسين: مؤرخاً وقاصاً وشاعراً وروائياً وأكاديمياً
حاوره في الموصل: أ. عبد الجبار الجبوري
حوار خاص لمجلة كل العرب
الأستاذ الدكتور نجمان ياسين: مؤرخاً وقاصاً وشاعراً وروائياً وأكاديمياً
حاوره في الموصل: أ. عبد الجبار الجبوري
لا أعرف من أين أبدأ حديثي مع موسوعة ثقافية وأدبية وتاريخية تمشي على الأرض، بل إنسايكلوبيديا متنقلة كنجمان ياسين، الأكاديمي، والمؤرخ، والروائي، والقاص، والشاعر.
ولد نجمان في الموصل القديمة عام 1952، وبدأ كتابة القصة وهو طالبٌ في الثانوية، ونشرت أول قصة له وهو في الثانوية، نشر أكثر من خمسين كتاباً في القصة والرواية والشعر والتاريخ، يعمل أستاذاً متمرساً للتأريخ الاقتصادي والاجتماعي في جامعة الموصل/ كلية الآداب، وعمل رئيساً لاتحاد أدباء العراق قبل الاحتلال الأمريكي للعراق، وحاصل على وسام المؤرخ العربي من اتحاد المؤرخين العرب عام 2002، مجلة كل العرب حاورت الأستاذ الدكتور نجمان ياسين، في لقاء خاص وحصري للمجلة…
ـ حدثنا عن محطة طفولتك القاسية التي دائماً ما تصفها في قصصك، وتتفاخر بها رغم الفقر والحرمان، ولكنها ثريةً بحيواتها؟
- الطفولة قدري وذاكرتي وزادي وزوادتي.. هي الينابيع الأولى، وهي المصبات الرائقة الفاتنة.. ما كنت لأكون هذا الرجل لولا ذاك الطفل الذي كنته والذي شكلني نفسياً وروحياً وعقلياً.. أجل ذاك الطفل الذي يسكنني دوماً، والذي لم ينكسر رغم خشونة الحاجة الشائكة.. الطفل الذي بقي يرحل في سر وسحر المكان، ويضم القلب على موروثٍ شعبي غني وزاخر بالبطولات، وجاذبية الأسطورة والخرافة الشعبية.. طفولتي هي أنا الذي لم ينكسر أمام صخرة الواقع، بل نطحها بالتفوق والكتابة والإبداع، ومد اللسان في وجه كل الفوارق، كاشفاً وفاضحاً الزيف والترهل والانحطاط، وجالباً معه رؤيته البريئة الخاصة التي تنشد الحق والحقيقة.. ستظل الطفولة منجماً لا ينضب.. وسيظل طفل أعماقي يرنو إلى سموات قصية لا تنال..
ـ هل تذكر لنا كيف بدأ لديك هاجس القصة يتشكّل، ولمن قرأت، لا سيما وأنت كتبت القصة ونشرتها في مرحلة مبكرة جداً من حياتك؟
- في الابتدائية اكتشف معلم اللغة العربية قدرتي على التعبير وفي الحكي، وشجعني لأقف أمام طلبة الصف لأشرع في إنشاء حكايتي ارتجالاً.. في الثاني متوسط نشرت أولى قصصي وكانت عن (فلسطين).. في الابتدائية قرأت الملاحم الشعبية، مثل سيرة عنترة بن شداد.. وتغريبة بني هلال.. وسيف بن ذي يزن.. وحمزة العرب.. ورافق هذا قراءتي لألف ليلة وليلة.. وفي المتوسطة كنت قرأت نجيب محفوظ ويوسف إدريس، وعرفت عيون الأدب العالمي، فقرأت لتشيخوف وهمنغواي وفوكنر وفلوبير ودوستويفسكي وغوتة وغيرهم من أساطير الأدب العالمي.. وفي الإعدادية توسعت قراءاتي لتشمل الفلسفة والاجتماع والاقتصاد وبقية المعارف التي هي ضرورة للأديب.. وفي الجامعة عرفت ماركيز، وأبهج روحي طاغور، وقبله جلال الدين الرومي.. كنت وبقيت قارئاً نهماً وجاداً أبحث عن قراءات صعبة وعميقة تثير التأمل.. وأظل مؤمناً أن المبدع المفكر ينبغي أن يقرأ أكثر مما يكتب…
ـ القاص والشاعر والروائي يتأثر بمن يقرأ له أول مرة، من له الفضل في ذلك من الأدباء…؟
- قرأت وانفعلت وتفاعلت وأبكتني بعض الأعمال الإبداعية، عربيةً كانت أم عالمية.. الكثير من كتب التاريخ والتراث أثرت في تكويني وإنضاج رؤيتي عن التاريخ العربي الإسلامي، ولقد بهرني الطبري في تاريخه، وأغناني البلاذري في أنساب الأشراف وفتوح البلدان، فضلاً عن أبي يوسف في كتابه الخراج، وإلى هذا زودني أبو عبيد القاسم بن سلام في كتاب الأموال بذخيرة حية.. كل هذه الكتب كانت خصيبةً وأثرت رؤيتي التاريخية.
أما في الأدب فأعتقد أنني وكما أخبرتك قبل قليل كنت قارئاً نهماً شغوفاً، وبقيتُ هكذا ألتهم عيون الآداب الرفيعة عربياً وعالمياً، ومن يعرفني من جيلي وأساتذتي وطلبتي يعرف طبيعة وتنوع قراءاتي التي انعكست بالضرورة في كتاباتي التاريخية والإبداعية الأدبية
ـ نجمان ياسين كتب مجموعته (ذلك النهر الغريب) قصص الطفولة المعذبة، ثاني مجموعة بعد احتراق مجموعتك الأولى، كيف تفسر لنا تحولاتها الفنية في الموضوع والرؤية، وبماذا تختلف عن مجموعة احتراق لتلقى هذا الاحتفاء الكبير من الشهرة والنقد…؟
- كتبت احتراق مجموعتي الأولى وكنت أغرد خارج سرب القصة الستينية.. هي كتبت بعد ١٩٦٧، أي بعد نكسة حزيران، وكانت تفصح عن قلقٍ وجودي وهم اجتماعي، واتسمت بالوضوح والسعي للتميز عما هو سائد من قصص.. أجل تشخيصك دقيق.. ذلك النهر الغريب كانت نقلةً في كتاباتي، وفي القصة العراقية وربما العربية، وهذا أمرٌ شخصه النقاد والأكاديميون العرب وبعض من درسها من الأجانب في جامعات عربية.. أبطال وفقراء النهر الغريب هم من استدعوني لأكتب مرثيتهم عن زمنٍ ضائع.. أبطال ذلك النهر الغريب أنضجتهم نار الفقر، ووصلوا البلوغ قبل أوانهم.. لم يكن لديهم إلا الحلم يرحلون فيه ليدقوا عنق الظلم والظلام.. أجل هم فقراء غير منكسرين وغير مستسلمين.. ولدوا ليتحدوا ويكتشفوا وهم في تحديهم يجلبون معهم قواعدهم الخاصة، ويرسخون كرامتهم وكبرياءهم.. ولعل غنى وثراء التجربة، وتفرُّد اللغة والأسلوب وراء عناية ودراسة نقاد كبار وباحثين أكاديميين كتبوا عشرات الدراسات عن هذه القصص.. وهنالك من ترجم قصصها إلى أكثر من لغة عالمية، فضلاً عمن درسها في جامعات عراقية وعربية وأجنبية.. ولعل صدق التجربة كان جذر نجاح وانتشار قصص ذلك النهر الغريب…
ـ الأكاديمي نجمان ياسين، خُضت تجربةً فريدة في كتابة فلسفة التاريخ الاقتصادي والاجتماعي في القرن الأول الهجري، وكانت رسالة دكتوراة استثنائية تكمن أهميتها في أن رئيس الجلسة من أكبر المؤرخين في الوطن العربي، هو المؤرخ الأستاذ الدكتور عبد العزيز الدوري، واستغرق نقاش الأطروحة ثماني ساعات، والمشرف الأستاذ الدكتور والمؤرخ هاشم الملاح، لو تحدثنا عنها..؟
- رسالتي للماجستير كانت بعنوان (تطور الأوضاع الاقتصادية في عصر الرسالة والراشدين)، ووصفت من قبل أحد المناقشين بأنها تعدل ٣ أطاريح دكتوراة.. واستمر النقاش.٧ ساعات ونصف، أما أطروحة الدكتوراة وهي بعنوان (التنظيمات الاجتماعية والاقتصادية في المدينة في القرن الأول الهجري)، فأخذت كما هي من دون تغيير حرف واحد، وهو أمر لم بحدث من قبل، ولاحقاً أحرزت ثناء لجنة المناقشة عام١٩٩٠، ووصفتها بأنها عملٌ جديد وأصيل ومبتكر، وفي شجاعة ورؤية فريدة، وتشرفت لاحقاً بأن كتب العلامة الراحل عبد العزيز الدوري مقدمةً لأطروحتي هذه وأشاد بها وبما ضمت من نتائج تحليلية عميقة تُكشف لأول مرة، وعدها عملاً فيه اجتهادٌ وتميُّز….
ـ يكاد يكون نجمان ياسين المتفرد في نقل هواجس وآلام وهموم المجانين وأدق تفاصيل حياتهم، وأسمائهم في الموصل، وقد وصفتهم بـ(الحكماء)، وأصدرت مجموعةً قصصية اسمها (جنون وما أشبه)، ما سرّ ولعك بالمجانين وحياتهم وأسرارها، ولماذا وصفتهم بالحكماء..؟
- يا صديقي الشاعر الناقد، أنت أحد من كتب عن مجانين نجمان ياسين.. وعن عقلائه.. والحق أن دراستك كانت ذكيةً مدركة تصدر عن معرفةٍ بي وبقصصي، وهو أمر ناتج عن صداقة تمتد لأكثر من٤٠ سنة، أنت تعرف أنني لا أكتب إلا عما أعرف وأكابد وأكتشف.. أي أنبثق من قلب الأزمة في الكتابة.. العشرون مجنوناً الذين كتبت قصصهم وحكاياتهم بدمي وليس بالحبر كانوا قريبين مني وكُنتُ قريباً منهم، وقد عشت معهم في منطقتي الشعبية.. أكلت مع بعضهم.. وصادقت بعضهم.. وخاصمت بعضهم، واعتركت مع بعضهم.. ولعبت مع بعضهم.. عرفتهم عن قرب، سبحنا في نهرٍ واحد.. ولعبنا ألعاباً واحدة.. وكان لنا أغانينا المشتركة، إنها حياة حافلة مع المجانين الذين اكتشفت أنهم حكماء.. وإن المجانين نحن.. ربما كانت الواقعية السحرية هي من أكسبت قصصي عن المجانين هذا الألق.. وربما هذا ما يفسر كتابة أكثر من ٣٠ دراسة نقدية وأكاديمية عن هذه القصص.. وربما كان هذا ما جعل بعضهم يعدها عملاً فريداً واستثنائياً في الأدب العربي الحديث والمعاصر…
ـ في مجال الشعر كتب عدة مجاميع شعرية أسميتها نصوص نثرية، منها أنثى الصياد الأول، وبقية المجاميع، هل تسمي نفسك شاعراً، أم قاصاً، أم روائياً..؟
- أصدرت حتى الآن 10 دواوين من قصيدة النثر، وطبعت في سوريا والأردن ولبنان والعراق.. دخلت قصائدي في موسوعات ومجلات خاصة بالشعر العربي الحديث، وكنت أكتب وأنشر قصائدي منذ 50 سنة.. المشكلة أن القصة سرقتني من الشعر، فكتبت وادخرت الشعر وحفظته بين أوراقي لأربعين سنة، ثم عدت لأخرجه وأنشره، وما أن صدر أكثر من ديوان حتى انبرى النقاد وكتبوا دراسات عن شعري، وحالياً توجد أطروحة دكتوراة تكتب عن المرجعيات الثقافية في شعر نجمان ياسين.. أنا مؤمنٌ أن المبدع الحقيقي يتكامل في أغلب أشكال وضروب الإبداع.. عندما يضيق نهر القصة ألجأ إلى بحور الشعر والرواية
ـ كتبت روايات كثيرة في الحب والحرب، ما هي أقرب رواية إلى نفسك، ولماذا..؟
- رواياتي هي سيرة ذاتية تؤرخ لصبوات وتقلبات روحي في جحيم حياتنا الراهنة، وكل كاتب حقيقي يحكي حكايته مع الحياة.. كل رواية صدرت عن أزمة.. حجابات الفاو كانت عن ضياعي مع الأدباء العرب في مملحة الفاو إبان الحرب العراقية الإيرانية.. ورواية شظايا قلب كانت عن صراعي مع سرطان الغدة الدرقية المميت… ورواية موسيقى سوداء كانت عن اعتقالي في سجون الاحتلال الأميركي وهي أقرب الروايات إلى نفسي؛ لأنها شهادة وكشف وفضح لديمقراطية المخالب والأنياب، هي صرخة الروح التي لا تنكسر أمام بطش التعذيب، وترفض تزوير التاريخ.. والحق أن هذه الرواية نالت ثناء واحتفاء النقاد، فكان أن جمع ولدي الدكتور محمد نجمان 12 دراسة ونشرها في كتاب عنوانه (نشيد في الجحيم)، وهذه الدراسات كرست لتحليل رواية موسيقى سوداء…
ـ كتبت عن فن التصوير الفوتوغرافي، وأخذت الفنان والمصور العالمي مراد الداغستاني أنموذجاً، لماذا..؟
- أجل، كتبت ثلاثة كتب عن فن الفوتوغراف، هي: (فوتوغرافيون عراقيون)، و(الإنسان والحرب)، والأهم منهما كتاب مراد الداغستاني (جدل الإنسان والطبيعة) الذي صدر بأربع لغات، هي العربية والإنجليزية والفرنسية والألمانية.. وهو أول كتاب يصدر بأربع لغات مجتمعةً في كتابٍ واحد، مراد الداغستاني فنان عالمي من أعظم ثمانية فنانين في العالم، وهو قناص رؤى من طرازٍ خاص.. عالمه قريبٌ من عالمي، فهو يؤرخ بعدسته وعينيه المدركتين لحالات إنسانية وطبيعية واجتماعية أعرفها بدقة، فهو من مدينتي، وعذابه عذابي وصبواتنا مشتركة، وقد أشار أكثر من باحثٍ إلى أن نجمان ياسين يؤرخ بكلماته ويسجل هذا العالم الخصيب.. يعرف من يعرف أنني جمعت مادة أطروحتي للدكتوراة في سنة، وكتبتها في أربعين يوماً، بينما جمعت وكتبت كتابي عن مراد الداغستاني في عشر سنوات! فتصور أي جهدٍ فيه وأي عناء، وأي مكابدة يا صديقي……
ـ أين تكمن خصوصية تجربتك في الدراسات التاريخية، أسألك وأعرف أن كبار المؤرخين العرب من أمثال عبد العزيز الدوري، وصالح أحمد العلي، وهاشم الملاح، وعبد المنعم رشاد قد أشادوا بعطائك في حقل المعرفة التاريخية.. كيف تنظر أنت إلى تجربتك هنا..؟
- أستطيع أن أقول وبكثيرٍ من الطمأنينة أنني أول من أرسى وأسس للدراسات الاجتماعية والاقتصادية في جامعة الموصل وفي بقية جامعات نينوى، فقبل أن آتي إلى الجامعة لم تكن هذه الدراسات موجودة، وكان لي ولطلبتي النابغين الأذكياء أن نُرسِّخ ونوطد أركان هذه الدراسات الضرورية لفهم تاريخ الأمة، واستطعنا أن نمد تأثيرنا إلى العديد من الجامعات العراقية، لا بل العربية في مصر ولبنان وفلسطين والأردن إن لم أقل أن كتاباتنا اعتُمدت في أكثر من جامعة في المغرب وتونس والجزائر، وبهذا حفرنا عميقاً لنؤسس لتاريخٍ يقترب من الحقيقة، كانت كتاباتنا معنيةً بالإنسان البسيط بعيداً عن تاريخ النخبة، ركزنا في دراساتنا على معيشة الناس، ماذا يأكلون، ماذا يُنتجون، أي رواتب يتقاضون، في أي تنظيمات اجتماعية ينتظمون.. ودرسنا أسباب غلاء الأسعار والكوارث والمجاعات، وفضحنا التدخل الأجنبي الذي عطل انطلاق الاقتصاد العربي الإسلامي، وحوله من اقتصاد تجاري نقدي إلى إقطاع زراعي وراثي متخلف، وأضأنا طبيعة الحركات الاجتماعية والفكرية، كحركة القرامطة والزنج والزندقة والشعوبية والغلو والفكر الصوفي وصلته بالمجتمع، وإلى هذا رصدنا التجاوز على المال العام، واستغلال السلطات الدخيلة لموارد وثروات الأمة.. فضلاً عن أننا أظهرنا قدرة وعبقرية الأمة في الاستجابة المبدعة لتبدل الأحوال والتحديات الحضارية الجديدة، وكل ذلك يُشير إلى أن تاريخ أمتنا لم يكن تاريخ حروبٍ وصراعات، بل تاريخ تنظيمٍ مبدع يُفصح عن عقلية خلاقة لنا أن نرسخها أكثر وأكثر، ونكشف عن خصوصيتها الفريدة، وما سبق يُعطيك فكرةً أولية عن منجزي ومنجز طلبتي وأقراني من الذين حفروا في أرضهم البكر الخاصة، وبذروا بذورهم الخاصة لتنتج ثمراً مباركاً..