قراءة في المجموعة القصصية: “نيران على حافة الوجود”
سرد الذات المهمّشة
أ. سرور ناصر
من الأهواز
يرنو هذا المقال إلى قراءة مختارات قصصية، من المجموعة القصصية “نيران على حافة الوجود”، للكاتب الأهوازي سعيد إسماعيل، والمنشورة عام 2023م، عن دار الدراويش_ألمانيا. وذلك على غرار سرد الذات-الهامش، وقراءة هذه الذات على ضوء واقعها الزمكاني؛ أي استنطاقها جراء الهجمات الرمزية والسافرة لحذفها أو لتغييبها عن الساحة العالمية، وإخراس لغتها وتاريخها لجعلها هشة أمام الأزمات الوجودية. فسرد هذه الذات-المغيَّبة ليست إلا محاولة لإزالة التعتيم من وجودها ومطالبها؛ أو جعلها مرئية ومقروءة عبر السرد.
في خضم قراءة كلية لا بد من الإشارة إلى أن الإنسان وهمومه الوجودية المرتبطة بتاريخه تبرز في جميع القصص الموجودة في هذه المجموعة، المتكونة من ثلاثة عشر قصة، وعلى ضوء هذه الملاحظة العامة، والمنطلية على جميع القصص نرصد الذات المهددة بالحذف، والتي يرى الفيلسوف الألماني نيتشه بأن هذا التهديد يؤدي إلى محاولتها لسرد ذاتها، خوفًا من الاندثار. لكن لا يمكّننا هذا الموضوع من مجانبة السؤال الملِّح والذي لا بد من طرحه في هذا السياق، عن زمكانية هذه الذات؛ أي هل يمكن اقتلاع هذه الذات من جذورها المكانية والزمانية لسردها أم أن سرد الذات مرهون بالمكان؟
وتجيب القصص وحدها في هذا المقام بعد استنطاقها بمعزل عن صاحبها، لأنها طريقة واحدة بين عشرات الطرق إذا لم نقل المئات، لسرد هذه الذات على حد تعبير الفيلسوفة جوديث بتلر، فنجد الدور الذي تلعبه هذه المكانية-الأهواز في مصير الشخصيات جراء الظروف الثقافية والتاريخية وحتى الجغرافية التي أكسبتها حالة خاصة مقارنة بشقيقاتها العربيات. بما أن هذا المكان له ظروفه التاريخية الخاصة التي تعزله عن بقية الأمكنة، فلا بد لهذا المكان أن يترك أثره في هذه الذات وكيفية نشوءها.
على سبيل المثال نورد في هذا السياق قصة “لقاء مقهى عبادان الأخير”، وهي القصة الأولى من هذه المجموعة القصصية، والتي تتضح إحالتها إلى المكان من خلال عنوانها، وهي جزيرة عبّادان، والتي جمع فيها خيال الكاتب ثلاثة شعراء على طاولة واحدة في مقهى من مقاهي عبادان، ليظهر الظروف القهرية التي كانت تسود المقاهي في عهد السافاك.
“في العاشر من نيسان
نسيت على أبواب الأهواز عيوني”
وتريات ليلية، مظفر النواب
“كنت ذات ليلة، أنا وصديق عربي من عربستان في إحدى المشارب. وأقبل على المشرب شُبان عرب ما لبثوا أن تحلقوا حول منضدتنا، حين سمعونا نتحدث باللغة العربية.”
كنتُ شيوعيًا، بدر شاكر السياب
تأتي العتبات_والتي ذكرها المقال في الأعلى_ قبل الولوج في القصة على لسان الشاعرين بدر شاكر السياب ومظفر النواب في حال الأهواز، ليدخلا بعدها القصة بصفتهما شخصيتان فيها، إضافة إلى الشاعر عدنان الصائغ. ومع أن الشعراء الثلاثة من دولة العراق الشقيقة، لكن سبق لهم زيارة الأهواز في زمنية غير متزامنة وبعيدة، فجمعهم خيال الكاتب في زمن واحد وعلى طاولة واحدة. جاءت هذه القصة وليدة لتلميحات شعرية أو نثرية عن الأهواز تركاها_الشاعرين بدر السياب ومظفر النواب_ هنا وهناك لتصبح بذلك الحجر الأساس لهيكل هذه القصة. لا سيما النقاش الذي دار على الطاولة يستهدف الإنسان الأهوازي ومأزقه الوجودي دون أن تنتشله الأيدي الأيديولوجية برغم شعاراتها ولافتاتها التي تندد بالإجرام ضد هذا الإنسان، كما تكشف المحادثة الآتية عن تعامل الشاعر السياب مع حزب تودة الشيوعي:
“_لم أفعل هذا، قلت لهم انشروا قصيدتي كما هي، بلغتها الأصلية، فهي بلغة هذا الشعب. لكنهم أصروا على ترجمتها إلى الفارسية ففعلوا.”
فيما نرى تجربة الشاعر مظفر في الأهواز حرّكت مشاعره تجاه هذه الأرض المنسية، فيقول في حوار له في القصة: “أحس أن يتولد فيَّ شعر مختلف، منبعث من تجربتي التي خضتها هنا. شيء مثل الموسيقى، ربما تكون (وتريات ليلية).”
بيد أن السؤال عن الذات-المكان يجد إجابته في قصة “عام الدشاديش المقلَّمة” بوضوح، إذ إنها تدور حول الذات الأهوازية في مكانيتها، وكيف أن الحرب العالمية الثانية خلَّفت آثارا مختلفة باختلاف المكان، لا سيما أن الأهواز بدورها عانت من الحرب العالمية الثانية، بعد أن وقعت تحت سيطرة قوات الحلفاء، لكنها أقل معاناة للذات الأهوازية مقارنة بالسابق؛ ذلك لأن قوات الحلفاء كانت تقدم المؤن الغذائية مجانا للعمال. السرد في هذه القصة يكتسب حلة الكوميديا السوداء لأنه يروي المرحلة التي خيّمت فيها القوات للنازحات البولنديات في الأهواز، فيستخدم الفرد الأهوازي قماش الخيم _والتي كانت متوفرة أكثر من الحاجة_ لباسًا له، والتي يؤكد السارد بأن عُرف ذلك العام بعام الدشاديش المقلّمة، ذلك لأن قماش الخيم كان مقلَّمًا. جاءت هذه القصة لسرد محاولة الذات-الأهوازية للتكيّف مع ظروفها.
ولا نكتفي هنا بإلقاء الضوء على الإنسان-المكان، إنما الإنسان ذاته والظروف التاريخية القهرية التي تخضع ذاته لقوتها، فتؤثر هذه الأخرى بالسرديات التي يقدمها عن نفسه؛ أي سرد ذاته، ولكن قبل سرد الذات لا بد من معرفتها، ولمعرفتها لا بد من معرفة الآخر، بناء على قول الفيلسوفة الإيطالية أدريانا كافاريرو والتي تقول: “دونما أنت تصبح قصتي مستحيلة”، وهي ترمي بهذه “الأنت” إلى الآخر، لأنها تعتقد بأن لا يمكن معرفة الذات دون معرفة الآخر. وعلى ضوءها نسبر غور قصة “قصة حب غير مكتملة”، والتي نرى من خلالها الذات التي تبني نفسها نقيضا لإرادة الآخر، فتؤثر هذه الأخرى على ملامح الذات المهدَدة، وعليه فإن هذه الذات المتمثلة في شخصية “فارس” تحاول إعادة سرد ذاتها عبر الذاكرة وهي في الزنزانة، فيختلط عليها الزمن؛ إذ تعيش الماضي بصفته حاضرا، كما يؤكد الاقتباس الآتي هذا: “وضع الكتاب جانبًا، طفق يفكر ليتذكر اسمها مرة أخرى، محاولا أن يزيل طبقات سميكة من النسيان ليتذكره، لكن أيقظه صراخ جنوني لسجين فزع من نومه في الزنزانة التي جنب زنزانته الانفرادية.” (نيران على حافة الوجود: 61) لذلك يبرز قول الفيلسوفة أدريانا في هذا المجال، لأن قصة شخصية “فارس” غير مكتملة دون هذا الآخر.
على أن قصة “نيران على حافة الوجود” وهي القصة المحورية لهذه المجموعة تحيلنا إلى الأديبة الإفريقية الحائزة على نوبل الآداب، عام 1991م، والتي ترى أن “لا توجد طريقة لفهم الإنسان إلا من خلال الفن”، فهي في جميع أعمالها الأدبية ناهضت الفصل العنصري، لا سيما قصتها “كان يا ما كان” التي رسمت واقع الفصل العنصري من خلال رسم الأحياء السكنية في جنوب إفريقيا، وكما نرى في قصة “نيران على حافة الوجود” والتي تبدأ بعتبتين لتوصف حقيقة أرض الأهواز، ثم تأتي القصة لتروي ملامح الإنسان الأهوازي على أرضه الغنية، كما يلي:
“أرض الأهواز نحاسُ تنبت الذهب” (المغيرة بن سليمان)
“الأهواز سلَّة الخبز” (المأمون العباسي)
وصفت هذه القصة السكان الأصليين في ظل مستوطنة “يزد نو”؛ أي بمعنى يزد الجديدة على غرار نيويورك والتي تعني يورك الجديدة. تبيّن هذه القصة الذات المغبونة والمترددة إزاء موقفها في الوجود وهي تراقب نمو المستوطنة وسكّانها الغرباء دون أن تعي المعادلة؛ “بُنيت البيوت، والمرافق التي تحتاجها قرية حديثة محاذية للهور، لم يألف الأهالي من قبل وجود سياج حديدي يُزرع بين البشر، لكنهم كانوا يشاهدون كل هذا باستغراب وشعور ممزوجين بالغبن والانسحاق.” (نيران على حافة الوجود: 20)
تروي المحادثة الآتية تبلور السؤال عن المكان، والذي بمجرد استغلاله تتعرض الوجود لخطر الاندثار؛ إذ تكتشف أن لا صوت لها ولا قدرة على المطالبة فور أن تواجه أزمة.
“_سلبوا أرضنا، والآن يسرقون حياتنا منا. قالها بصوت أشبه للهمس.
_ماذا بيدنا، الدولة لهم، ورجال الشرطة منهم. هم أنفسهم مسلحون والقانون يجيز لهم قتلنا إن فعل أحدنا شيئا.
_لكنها أرضنا، أرض أجدادنا، أما الآن أصبحنا مجرد عمال عندهم، كل هذا بلمح البصر.” (نيران على حافة الوجود: 22)
في قصة نادين غورديمير نرى الذات-المركز تقع في الفخ الذي وضعته للذات-الهامش دلالة على أنها ستؤدي بنفسها في نهاية المطاف، وستخسر في لعبة المركز والهامش، بينما في قصة “نيران على حافة الوجود”، نرى الذات-الهامش تصطدم مع سؤالها الوجودي في الحياة، دون أن تتمكن من الرد عليه في إطار القصة، ليبقى بلا إجابة قاطعة، دلالة على الدائرة المفرغة التي تدور فيها الذات الأهوازية في الوقت الراهن.