كل الثقافة

الرازم

رواية قصيرة جدا

شارك

الرازم

 

أ. حميد عقبي

 

مضت خمسة عشر عامًا، ظلت الأيام والليالي تسير بخطوات بطيئة، خاصة تلك الليالي التي أتذكركِ فيها، أتذكر خطوات عقارب الساعة، مشيتها البطيئة في المساء نحو السابعة، تزداد ضربات قلبي، يتجه نظري وسمعي وكل تركيزي نحو الباب، عندما أسمع خطوتكِ على الدرج أقبض على روحي من أجل ليلة حياة وحب.

 بعد فراقنا واللقاء الأخير في فبراير 2009، قبل ذلك اللقاء كنت كالتلميذ الفاشل الذي يعلم أن الاختبار سيكون صعبًا، ومع ذلك بقيت شارد الذهن لا أفعل شيئًا رغم أني كنت أعرف موعد اللقاء. لم أحضر يومها مونولوجًا أو كلامًا كي أعتذر لكِ، كي أرجوك أن نعود كما كنا. كنتُ كمن سُلب روحه وعقله وفقد خارطته وحتى اللغة، كأني… نعم، شعرت أني لا أتقن جملة واحدة باللغة الفرنسية أو لغة. قبل دخولك بلحظات بقيت متسمّرًا أنظر إلى اللاشيء، تتلاطم في رأسي أمواج الفراغ والصمت.

رمقتني بنظرة رأفة، فتحت عينيها وكللت نظرتها بابتسامتها التي اشتقت إليها، ها هي تبتسم بعد صمت سنوات طويلة لم نتواصل فيها بعد ذلك اللقاء.

لم يكن الزمن عادلاً معنا، لم تصلك مناجاتي وهتافات الروح التي كنت أبعثها لكِ، لا تخلو قصة أو قصيدة من ذكركِ.

قاطعتني: لم أكن أريد أن أعيدك إلى الوراء، أنت الحالم تملك تسعة أجنحة وأنا لا شيء، مجرد تجربة، ظننت أنها ستمضي وسوف تنسى ما حدث بيننا. قرأت بعض أخبارك، كنت أعلم أنك ستنجح وتحقق الشهرة.

لا أبدًا لم يكن حلمي الشهرة، وربما أنتِ تبالغين، أنا هو أنا الطفل المجنون، المجنون في حبكِ وإلى هذه اللحظة.

تمتمت بصوت خافت، كأنها تريدني أن أخفض صوتي فالمكان في هذه الحانة مزدحم والناس تتحدث همسًا:

لك حياتك الخاصة ومشاريعك، لا تجعلني أندم لأني قبلت أن نلتقي، ولا يجب أن نمني أنفسنا بأحلام قديمة لم ولن تتحقق بالأمس ولا غدًا. حدث خطأ ما عندما تركنا لأنفسنا العنان وحلقنا أبعد مما مسموح لنا به. كما تذكر أنت في رواياتك حلم ألف ليلة وليلة، لا أريد منك شيئًا ولا تطلب مني مواعدة جديدة، فقط انتبه لنفسك وقلل من التدخين والشرب، أنت تقتل نفسك.

سألتها: ستبكين يوم موتي، أليس كذلك؟

صمتت، انهمرت دموعها، نهضت مغادرة، أمسكت بيدها.

لم تقوَ على الكلام، ابتسمتُ.

قالت: تبتسم كعادتك عندما أبكي، لا أريدك أن تموت، نعم سأبكيك وأعلن الحداد عليك، لم أحقد عليك ولا تمنيت لك الشر، إنها الحياة جمعتنا ثم فرقتنا، لا أحتمل أن نخوض مغامرة جديدة، أمامك طريق يجب أن تكمله بدوني، سأضطر أن أتركك دقائق ويأتي قطاري، اهتم بنفسك.

تركتني ومضت، بقيت متسمّرًا في مكاني، عاجزًا عن فعل أي حركة، لم نودع بعضنا، حدث هذا اللقاء صدفة قدرية ساحرة لم نحسب لها حسابًا ولم نتوقعها بعد فراق خمسة آلاف يوم ويوم، هكذا حسبها خيالي بسذاجة. أحقًا مضى على فراقها هذا الزمن الطويل؟ لا أعرف كيف كنت أتنفس وأمشي وأنام، ربما الكتابة ساعدتني إذن ليظل قلبي ينبض وصدري يتنفس. لم أفكر بالانتقام منها في كتاباتي وتصويرها في شكل وحش أو زومبي، كان بمقدوري أن أفعل ذلك وأكرهها من دواخلي، أن أزج بنفسي في مغامرات جديدة وأشتري من حين إلى آخر بعض الحشيش، كل ليلة تأتي في مخيلتي وأنوي الهروب منها إلى عوالم جديدة.

بقيت جامدًا أقلب في دفتر ذكرياتي وأتساءل: أكان حبها منقذًا وحافظًا لي أم سببًا للتصدع في حياتي؟ فلم تعد حياتي وسلوكياتي وأحلامي كما كانت قبل أن نلتقي أنا وهي. 

أتذكر تلك الليلة النوفمبرية العاصفة، ليلة فعلناها لأول مرة، قبل تلك الليلة كنا نلتقي، نأكل معًا، تنام عندي أو أنام في شقتها الصغيرة،  يزداد اهتمامي بها ولم أكن أخطط لشيء وربما هي أيضًا لم تخطط لتلك الليلة التي منحتها فيها القيادة الكاملة. أتذكر أن تصرفاتنا كانت عفوية، بل ربما بدائية، فعلناها في جوف العتمة، هرب كل واحد في جسد الآخر خوفًا من الرعد والبرق.

كنت أدعوها أن تعلوني في اللحظات الحميمية، تفعل ذلك بمرح وفرح، لكن رأسها ينحني نحوي، ترتفع لتقبيلني ثم تدفع بنفسها إلى الأمام وهي تطبق بساقيها على معصمي، أشعر بدفء تلك اللحظة، لم تفعل أي امرأة معي اللذة كما كانت تفعل وربما بسبب ذلك لا تزال تحضر في خيالاتي وأصفها بالعشيقة. 

أتذكر فمها الشجاع التواق إلى القبلات، تفرك شفتيها بشفتي، تصبح روحنا رطبة، تدعوني أن أرتشف كل شيء أنثوي في جسدها من الشفتين ثم أهبط وأهبط إلى العنق، الصدر، البطن ثم أسفل السرة.

إنها كالسحر الذي لا أستطيع فكه، لم أجد إلى الآن امرأة أخرى أعيد خلق العشيقة بداخلها. كبر سني الآن، لكني رأيتها كأنها لم تكبر مثلي. بقيت وإلى هذه اللحظة أخلق شخصيات نسائية شجاعة بحدود عمرية بداية أو وسط ونهاية الثلاثينيات كحد أقصى.

فتحت صدرها لرياحي ومطري، لرعدي وبرقي الذكوري، وقعت في براثن سحرها (حورية)، حورية من نوع خاص، ربما قليلات جدًا أمثالها. 

أحببنا بعضنا حبًا جامحًا ومختلفًا. أنا هنا في مدينة قد لا تسمح لرجل في بداية الخمسينيات من عمره أن يغازل امرأة في نهاية العشرينيات أو بداية الثلاثينيات من العمر خاصة أني لا أمتلك مميزات مادية أي مالية. 

أبحث عن وسائل مسكنة تعويضية فأجد الكتابة منفذي الأكثر رحابة ولذة. بوسعي أن أخلق حورية مثلها وأخلق صدفة للقاء وليلة عاصفة وأترك لها القيادة ولكن بعد شهر أو شهرين أعرف أنها حورية متخيلة وربما يستمتع بها غيري من القراء وقد يضيف إليها أحد القراء من خياله فتصبح أكثر سحرًا وأناقة من حوريتي المخلوقة من الحروف والكلمات.

أنا محكوم أيضًا بأعراف شرقية، بطاقة مدنية وحالة اجتماعية، فلست حرًا بما تعنيه الحرية الكاملة المطلقة. كنت مقيدًا منذ مرحلة المراهقة ووجدت في الدين والتدين ملاذًا لتهذيب تلك الرغبات الجامحة. كتمت أنفاس الرغبة، خنقتها لسنوات عديدة ثم تحررت من التدين والجماعة الدينية وهرعت إلى قراءة الروايات. بقيت وربما إلى الآن الرجل الذي يفترسه الخوف والخجل، الرجل الذي ينتظر (حورية) جديدة تنسيه الأولى وتكون الحورية الأخيرة.

أحاول بكل قوتي أن أكون رجلًا مهذبًا مدنيًا لا تغريه النادلات، لكني قد أندفع إلى حانة لمجرد وجود نادلة مغرية وأشرب كأسًا وأنظر إليها مئة نظرة ثم تولد في ذهني صورة أو العبارة الأولى لنص جديد. أيحق لي أن أعيد واستحضر صور النادلات المغريات وهل هذه الحكايات والقصص ملكًا لي أم لهم؟

أهوى أن أجد بغيتي، أن أجد (حورية) شهوانية تعشق العناقات وليست لها مطالب وشروط مادية أو مدنية، لا تسألني عن شيء، تأخذني كما أنا. لست من هواة الحوريات الماديات حيث تعطيك الواحدة بقدر الهدايا التي تعطيها لها. بوسع أي شخص أن تكون له عدة خليلات في العالم الافتراضي فقط أن تكون كريمًا مغفلًا وأبله ترسل المال وتكتفي برومانسية افتراضية بعيدة وقد تأخذ واحدة مالك ثم تقطع تواصلها بك.

حدث من حين إلى آخر أن أقع بصدفة تعارف عابرة مع نساء لهن بعض مواصفات حورية وأشعر بأني لا زلت مرغوبًا رغم ما بدأت ترسمه الأيام على وجهي المرهق. وقد أنظر إلى المرآة يومًا وأتفاجأ بزحف علامات وتجاعيد تنبهني أني دخلت فعلاً بوابة سن الخمسينيات. 

ماذا سيحدث بعد هذا اللقاء؟ 

هل أغلقت حورية كل أبواب الوصال ويجب أن أقتنع بذلك أم ربما قد تراجع نفسها وتعود لي؟ عرضت عليها أن نعود كأصدقاء، لتكن بيننا صداقة لكنها لم تتحمس لهذا العرض.

ـ إنها الجنة على الأرض، ليالينا تزهر بالملذات الفردوسية. 

أتذكر عبارتها هذه وعبارات كثيرة تعكس ما في نفسها من فرح ونحن نحتضن بعضنا. نفعلها مرتين على الأقل كل ليلة، بعد أن ننتهي من الأولى، نبحث عن فيلم لطيف أو نتحدث عن أشياء بعيدة عن موضوع الجنس. نادرًا ما كنا نتحدث عن الجنس رغم أننا نفعله بكثرة. 

أحيانًا كانت تبتسم وتقول: معقولة اليوم والليلة فعلناها ثلاث مرات.

 أحيانًا مثل هذه العبارة تدفعنا إلى فعل الحب. لم نخلق أو نتفق على قواعد ما تحدد أو تقنن اللذة. تمنيت في لحظة هذا اللقاء وأنا أمسك بيدها أن آخذها ونغادر، نترك هذه المدينة وهذا البلد ونذهب إلى مكان بعيد نكون فيه وحدنا. لم يكن دافع هذه الأمنية أن نعيد فعل ما مضى من الجنون الجنسي، لم أفكر بها في مشهد متعة، منذ زمن طويل وأنا أفكر فيها لشيء آخر، لمجرد أن نكون قرب بعضنا، أن تتلامس وتتشابك أصابعنا، أن أسمع همسات أنفاسها اللطيفة الهادئة وأحكي لها ما كتبته طيلة هذه السنوات. 

كتبت الكثير ونشرت الكثير من الكتب، أكتب وأشعر أني لم أكتب عشرة بالمئة مما يوجد في خيالاتي ولا أدري إن كنت سأعيش لأكتب أكثر، فأنا أشعر بموتي يقترب كل يوم وقد لا يمهلني أن أصل إلى نصف أو ربع ما يوجد بدواخلي. لست بحاجة إلى أن أقتبس أو أخذ من كتابات الآخرين، لست بالداعية إلى الفضيلة والخير ولا أملك حلاً لمشاكل ومصائب هذا الكون، لست الكاتب الذي يبحث عن البلاغة والفصاحة ولا حتى الرموز والدلالات وأنواع الزخرفة. أريد أن أتخلص من كل صورة وحلم وذكريات، من هزائم وفشل الماضي والحاضر، أريد أن أعرف من أكون.

أريد الآن أن أعود إلى البيت، إلى وحدتي وعزلتي، أتمنى نومًا عميقًا، لكني أخاف (الرازم). الرازم حالة من شلل النوم، شيئًا ما أو مخلوقات شريرة تقيدك، تقذف بك في براكين الرعب والمتاهات. يأتي (الرازم) للأشخاص المدمنين على تناول نبتة القات في حال عدم تناوله. هذا ما كان يحدث معي أحيانًا عندما كنت في اليمن. عندما وصلت إلى فرنسا عشت لسنوات في سلام بدون هذا (الرازم) المخيف. لا أدري لماذا الآن أنا أخافه وخاصة هذه الليلة.

في الشهور الأخيرة من علاقتنا ظهرت بعض المشاحنات بيننا لكني كنت أبتكر وسائل لتلطيف الجو وتنتهي ليلتنا بممارسة على الفراش، قلت بهجة اللذة لكنها كانت تفاجئني أحيانا بليلة ساحرة تعيدنا إلى الليالي الأولى بل الأشهر الستة الأولى كانت ليالينا مفعمة بالجنون اللامحدود، أكاد أسمع شهقاتها، تهزني، يرتجف كل شيء معنا، لم أقع ضحية للرازم ولا مرة عندما كنت معها، لم أقع في هذا الرعب حتى بعد فراقنا ربما لأنها لم تغادر مخيلتي وكان لدى أمل ولو واحد في الألف أن يحدث لقاء يرتبه لنا القدر ويعيد ربط حبال الود، لماذا من لحظة مغادرتها اليوم تبخرت؟ 

لم يبق شيء من أثرها، لم تنس ولو منديل مستخدم فيه بعض منها ثم تركتني لشريط راجعت فيه بعض المشاهد من حياتنا ثم تفجر بداخلي الخوف من الرازم.

كان شعوري بوجودها كشعوري بأنفاسي، الآن أفتقدها لم تعد بقربي حدث ويحدث أمر ما ـ لأول مرة ـ ينتابني الشعور أني أفقدها وأن الرازم يبدأ من هذه اللحظة يلاحقني، يقترب ويقترب.

 كانت تقسم بأغلظ الأيمان بأنها تحبني تحبني وسوف إلى الأبد، حدث ذلك بعد الشهور الستة الأولى والتي كان فيها حوارنا قليلاً وعناقات تذهب بنا إلى البعيد ولم نكن نشعر بحاجتنا إلى كلام كثير، كنا نتحاور حول اللذة ـ بالفعل ـ  الشجاع والإشارات، تختم على فمي بقبلاتها، لم أكن بارعًا في التقبيل بالبداية، تعلمت منها ثم تفننت بأن تكون ردة فعلي مماثلة، ترتمي بذراعي وأخذ فمها المشتاق للقبلات يذوب في فمي، نصهر بعضنا، ننصهر تماما.

 لم تكن بيننا مراسلات مكتوبة ولا صور مشتركة، لم يعد معي أي صورة مشتركة ولا أدري كيف حدث ذلك؟

ليس لديها حسابات على وسائل التواصل الاجتماعي، شاهدت له صورة بالصدفة منذ أكثر من عشر سنوات، أعود إليها كلما أشعر أني لم أعد أحتمل الحكم بهذا الفراق المؤلم، لا أدري من أصدر هذا القرار وكيف استسلمت له.

حدث وشاءت الصدف أن ألمحها أكثر من مرة في السنوات الأولى من فراقنا لكنها في كل مرة ترفض منحي ولو دقيقة واحدة، بدت مقتنعة بالنهاية دون ضجيج، لم أحب ازعاجها بعد ذلك كنت أرسل لها بعض قصائدي على المسنجر، تقرئها ولا ترد وفي ذات ليلة كتبتُ لها  قصيدة طويلة صورت فيها حالة التشظي المؤلم، بعدها قامت بحذف حسابها على فايسبوك وكان آخر خيط، سمعت أنها تسكن وتعمل في باريس، لم تحدث أي صدف جديدة إلى هذا اليوم، يجب أن أفهم أنها نهاية النهايات.

لا أدعي أني كنت ملاكا طيبا، طلبت مني بعد السنة الأولى من حياتنا المشتركة أن نخطط لحياة اجتماعية معا، كأنها صفعتني بالطلب وقالت: نحن نكبر ولسنا مراهقين صغار.

منذ اللحظة والعناق الأول صهرتني، تحولت إلى مشروع شاعر وعاشق، كأني شعرت بأن أي شكل قانوني، ديني أو مدني لهذه العِلاقة سيقتل فيها هذا الوهج، سيخمد سعير الرغبة وتدفقها، تحججت ببعض المشاكل وأشياء عديدة لأني أعشقها كعشيقة، عشيقة سرية، بعدها علم بعض أفراد عائلتها وأربع أو خمس من صديقاتها فقط، بعد فراقنا لم أعد أرى أي واحد منهم، ربما كل الذين يعرفون سرنا هجروا المدينة ونسوا القصة كُلََّها.

أنتهي هذا اليوم، خفت ثم تلاشى صوتها، تلاشت صورتها، أنا مؤمن الآن بالنهاية الموجعة ولا أملك فعل شيء، لكن يبدو أن هذه الليلة ستكون مختلفة وقد تحدث فيها أشياء مثيرة ومخيفة، ميلاد (الرازم)، أشعر ببرودة أصابعي وقدماي، برودة غريبة تغتالني؛ أقولها بصراحة : نعم أنا خائف من الرازم ولا منقذ لي إلا نبتة القات.

كنت أسمع أنها تباع يابسة ومجففة، لا أعرف أحدا هنا يمكنه أن يسعفني ولو بالقليل، لا أشعر برغبة في شرب النبيذ أو أي مشروب، لم تعد معدتي تتقبل الشرب بالرغْم أني شربت محيطًا من كل هذه الأنواع والأصناف، لا طعم ولا مذاق للسجائر، لم يعد لي الكثير من الأصدقاء ولم اعد أبوح بأسراري لأي أحد، فقط وأنا أكتب فقد يختلط ويتمازج المتخيل بالحياتي الذاتي، سألت نفسي مجددًا أحقًا رأيتها اليوم وحدث ذلك الحديث القصير أم أن المشهد كان خياليًا بحتًا؟

الآن، حقا أنا مرتبك، أشعر بالبرد والخوف معا، لست على ما يرام ولا أدري كيف احسم حقيقة ما حدث معها.

انحدرت الشمس إلى عالمها الآخر، كأني أشعر بأنها لن تشرق غدًا وربما ستغيب لعدة أيام أو أسابيع، يحدث هذا في عز الصيف، يغمر الضباب هذه المدينة الأطلسية، يفترش البرد الأرصفة والأزقة ويسكن جسدي.

كنت بمساعدة النبيذ ولا سيما نبيذ بوردو اسلط خيالي على حواسي كي أرى العشيقة في بعض الأماكن التي مررنا بها، كانت هذه المشاهد الخيالية تخفف من وجع البعد والفراق ومن وحي هذا الألم كتبت نصوصًا كثيرة ثم كانت الحرب هناك في بلدي البعيدة فتحول الموت صديقًا ورفيقًا وأسئلة، تماديت معه فأصبح ظلي لا يفارقني، أشتكي له واعترض على بعض تصرفاته، يفاجئني بما يمتلكه من وجوه وأقنعة لكنه يظل يُخفي دفاتره الخاصة بوظيفته كملاك موت كأنه يعلم أني أريده أن يخبرني عن العشيقة، لا أتصورها ميتة ولكن حركته سهلة ويدخل كل بيت ومكان وأنا متأكد أنه لديه معلومات عنها، هو أيضًا يفاجئ ببعض كتاباتي وأسئلتي التي لا يرد عليها، أغضب منه، أعتذر له، يبدو أنه يتقن ويتفنن في التعامل مع الكتاب والفنانين، يعرف متى يظهر ومتى يختفي.

أظل مستيقظًا إلى الساعة الثالثة صباحًا، يقولون أن هذه الساعة لها سحرها الخاص، أنه ذلك الوقت من الليل حيث يكون الحاجز بين الأحياء والموتى في أضعف حالاته، لكني هذه الليلة لن أنام خوفا من الرازم، منذ عدة ليال لم أر ملاك الموت، لم نتحدث.. لا أدري فربما هو غاضب مني بسبب ملاحظاتي على أدائه الوظيفي، يأخذ المساكين البسطاء بعنف مرعب، أم هي ارادة الله؟

أسأل الله أيضا؟ أريد فقط أن أفهم لماذا خلق الله الحرب وخلق الفراق بعد العشق؟

ألم يكن هناك بدائل ما غير مؤلمة؟

هناك حادثة سيئة ستحدث الليلة أو ربما الغد، لا أدري بالضبط لماذا يتضخم في عقلي ونفسي هذا الشيء.

قال لي أحدهم ذات مرة: إن الرب يختبرك ببعض المحن القاسية الصغيرة وبأصعب الطرق ثم يعوضنا الفرح والسعادة.

أنا أيضًا مؤمن بكل هذه الغيبيات ولكني أطمع في فهم أكثر لبعضها، قد لا أحسن صياغة الرد في مثل هذه الحوارات وأجد الآخر يتهمني بالكفر والزندقة لذلك اتحاشى الجدل العقيم مع أشخاص يؤمنون بالشكليات وظاهر النصوص الدينية.

كانت العودة إلى البيت في نهاية النهار تشبه العودة إلى الوطن، لم نكن نتشاجر وكنا نغني في صمت و بطريقتنا المثيرة لهذا الكون بكل عوالمه الأرضية والسماوية لم تكن فكرة نهاية العالم ودمار الكون وخرابه تراودنا كأننا نشعر نشعر بأن الحياة يجب أن تعاش كما نعيشها، الكثير من فعل الحب والقليل من الكلام، تبدلت قليلًا أحوالنا يوم بدلت قناعتها بهذا العهد، أنا بقيت متماسكًا به ويمكن أن أهب جسدي إلى حورية ثانية تؤمن بهذه الأفكار وتعيدني عشرين أو خمس عشرة سنة إلى الوراء، لم أعد حقيقة أبحث عن نبيه جديدة تؤمن بما كانت تؤمن به حوريتي الأولى.

أشعر أن لدي حياة بائسة ويجب ألا أعيش أكثر، أو أني أعيش حياة قلقة وأقل فرحًا، أتذكر أني قلت لها ذات مساء : كل قصة حب تصلح أن تكون دينًا جديدًا.

ردت مبتسمة : توجد الكثير من الأديان لكنها تنقسم إلى مذاهب وطرق ويحدث بينها الصراع، أتريد مزيدًا من الصراع.

حاولت أن أوضح وجهة نظري واجبت عليها : العناق بين العشاق يُصلح كل شيء، ستكون هذه الأديان الجديدة مصدر فرح وحلم تلهم الكتاب والشعراء.

مالت بجسدها نحوي، ضحكت وقالت : تعال نفعل الحب ونرى ماذا ستكتب يا شاعري الجميل.

بدأت أعشق شرب النبيذ الأحمر منذ وطأت قدماي هذه الأرض، حورية لم تكن من هواة الشرب  لكنها تبيحه لي وربما لاحظت ما يمنحه لي من قوة ذكورية ليلية معها، لم تكن تتضايق من رائحة فمي ولا جسدي الذي يفوج برائحته طوال الليل وقد تظل الرائحة إلى النصف الأول من الصباح وأحيانًا لبقية اليوم التالي.

 حدثت انقلابات مهمة في الشهور الأخيرة قبل فراقنا ولم تعد تشاركني بنصف كأس، فجأة أصبحت رائحة النبيذ غير محببة لديها، بدأت تردد بأن الحياة ليست هذه الحياة التي نحياها، أشرب بحدود ثلاث كؤوس كل ليلة، الكأس الأول وأنا اعد الطعام، الكأس الثاني احتفي بعودتها ونتشارك في الكأس الثالث، بعدها نأكل ونختم بعد ذلك بكؤوس صغيرة من الشاي مع الحليب،  احضره بالطريقة الهندية وبتحويجه من حب الهيل، القرنفل، الجوز والقليل من الزنجبيل، تصفق لمقدم الشاي مع الحليب ثم نغوص في عالمنا المغري، نستيقظ باكرًا، أذهب إلى جامعتي وتذهب هي إلى عملها.

عندما تدخل المشاحنات في أي بيت يفر منه الحب وتفقد الرغبة بريقها، أنجح في كل مرة في خلق بعض الدفء، بدأت تحلم وتبحث عن المستقبل الدنيوي، عندما تدخل فكرة في رأس امرأة من الصعب اجتثاثها، نعيش في عالم يشيخ، يصيبه الهرم والضعف وتتغير المفاهيم، تردد على مسمعي : السعادة ليست في اللذة والعناق فقط.

الشعراء وحدهم لا يهرمون، لكن ما يزعجني هو أنني لا أعلم بكل ما يجول في رأسها، تبحث عن فرصة للهروب من البلد بِرُمَّتها وليس فقط من المدينة، امرأة تفقد بعض دهشتها في رؤية شاعر يبحث عن مثيرات لخيال أكبر.

لم أتحمس لعرض حصلت عليه من جامعة مونتريال الكندية، لم أتصور نفسي بعيدًا عن فرنسا بلد الجن والملائكة، يحدث أحيانًا أن أقضي أسبوعًا كاملًا بين الكتب والقاعات السينمائية والعروض المسرحية ولا أرى الجن والملائكة أو تقل حساسية الشعور بهم، حدث لي ذلك بعد فِرَاقَ العشيقة، أدركت بأن حساسيتنا للجمال يكون أكبر عندما نكون في حالة عشق أو جنون، خرجت من حديقة العشق أو فقدتها لكنى بدأت أخطو بخطوات جريئة نحو عالم الجنون وهذا ربما سبب من أسباب غزارة منتجي الإبداعي، ربما لو صحوت ذات يوم بعقل كامل قد أمزق وأمسح كل ما رسمته وكتبته، من المفيد للعالم أن أظل في هذه الحالة إلى الأبد.

الرازم هو التحدي الجديد، الشيطان الذي لم تربطني به صداقة ولم اتقرب إليه، لم أطلب وده ودعمه، لا اشتمه لكنني أمدح الملائكة، أحلق معهم وأتخيل عالمهم، بعضهم لا يرحب ببعض أفكاري لكن لا أظن أنهم يفكرون بفعل شيء من الشر والأذية لي.

فشلت كل محاولاتي للحصول على نبتة القات، السلاح الوحيد ضد الرازم، ضد الرعب والشيطان.

 بقيت أقاوم النوم بالشاي والقهوة إلى أن طلع الصبح، خرجت، مشيت بغير هدى إلى حافَة القناة، صباح بلا شمس ولا فرح، صباح فارغ، لا حركة ولا ضجيج، قليلة جدا تلك النوارس التي بدأت تحلق وتهبط، تتعارك لكنها لم تخلق ضجيجًا يجعل أهل المدينة يستيقظون.

 وحدي في هذا الكون البارد، يلفني الضباب الكثيف، كل شيء يبدو مهزوزًا، رؤيتي مهزوزة وغير سوية، ليتني نمت وتحملت قسوة الرازم دقيقة ونهضت بعقل ورؤية واضحة، أكاد لا أعرف تفاصيل الطريق، لا أرى شيئا واضحًا، فقدت طريق العودة إلى البيت، لا آحد يمر أو يتحرك كي يساعدني لمعرفة الاتجاه المؤدي إلى البيت، أنا ضائع، تائه، أشعر بالبرد، أشعر بالخوف.

هنا في هذه اللحظة، أنا متيقِّن مما أسمعه، أسمع صوت ديك، كأنه يأتي من مسافة قرية مني لكني لا أرى شيئا، فجأة يبدأ يظهر لي رغم اردية الضباب السميكة، المفاجأة أنه ديك ملكي تايلاندي من نوع التاو، بدأت أرى ملامحه، أرجله الضخمة البرتقالية، هذه الألوان الفاتحة الزاهية تقهر الضباب والتشويش، رأيت رقبته الطويلة المميزة، بدت لي أنها تطول بالتدريج، لم أفلح في رؤية لون عينيه أو أنه دون عينين، ها هو يقترب نحوي، يتوقف، يحرك رأسه ثم يتحرك، كأنه يشير لي أن أتبعه، تجمدت في مكاني وأنا أسال نفسي: من أين جاء وإلى أين سوف يقودني؟

أنا ضائع، فقدت معالم المكان والزمان، أهو الرازم؟ أهو ملاك أم شيطان؟

لا مخرج لي إلا هذا الديك، قد يقودني إليها أو إلى عالم آخر، يزداد شعوري بالبرد كلما تراجعت خطوة إلى الوراء، تقدمت خطوة وراء هذا الديك الغريب، كأني أشعر بلمسة دفء خفيفة، تقدمت خطوة ثاني كي أتحقق من لمسة الدفء، نعم، كل خطوة وراء هذا الكائن تعني شيئا من الدفء، تكبر ثقتي فيه، يشير إلي مشجعًا للتقدم أكثر وأكثر، تجمدت للحظة، لابد من أن أتخذ قراري الآن، أن أطيعه وأتركه يقودني إلى عالمه أو أن أظل هنا شريدًا وحيدًا وخائفًا.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى