كل الثقافة

قطة شرودنجر

شارك

قطّة شرودنجر
مجموعة قصصية للقاصّة سامية العطعوط
(القص الضحّاك حُزناً)


أ. سليم النجار
أن تكون الكتابة القصصية عراكا دائما مع اللغة وعنتا وعناء، هذا ممّا لا مجال للشكّ فيه، وإن اختلفت درجات العناء هذه من كاتب إلى آخر، وهنا أودّ أنْ أشير إلى حالة تُعتبر نموذجية بهذا الخصوص، وهي حالة القاصّة سامية العطعوط التي روت عن معاناة كثيرة للإنسان المعاصر وأطنبت في وصف حالتيْ الإحباط والعجز اللتين كانتا من السمات الأساسيّة لعملية الكتابة القصصية لديها. ممّا يحمل على الاعتقاد بأنّ الكتابة ليست إلا عملية ابتزاز أو اغتصاب بصورة أدقّ. اللغة القصصية لا نسلس قيادتها إلا بالمراوغة والمطاولة التي تفضي إلى المساكنة، ولكنّها مساكنة قلقة ومرحليّة. لذلك كان الصراع معها يدفع العطعوط إلى الحزن أحياناً عندما ينعدم سبيل التواصل بينهما رغم إصرار القاصّة تكبّدها لأشقّ المتاعب.
هذا عن علاقة القاصة باللّغة٠ أمّا عن نقطة الانطلاق للعمل الإبداعي، فكثيراً ما يكون ذلك نتيجة انفعال على الأقلّ – تبدأ في التدرّج حتّى تبلغ حالة من التوتّر تنعدم معها أسباب الراحة.
والحقيقة أنّ النّص في المجموعة القصصية “قطّة شرودنجر” والمقصود هنا الشخصيات الفاعلة فيها صورة خاصّة يتحوّل شيئا فشيئا إلى كائنات ماديّة يتعين على القاصة أنْ تتحاور وتتشاور معها، وهذا ما وجدناه في قصّة “ثلاثةُ فِئران”، (ثلاثة فئران عمياء عرفوا الطريق إلى القدس، ولم يضلوا. ثلاثة فئران عمياء لن تركض في شوارع رام الله، كما اعتدنا.. ص19).
إنّ الدعوة إلى الالتزام بشكل ما لصورة الشخصية القصصية التي جاءت على شكل “فئران” والتي رسمتها القاصة سامية العطعوط، ليست في نهاية الأمر إلا تكريسا لوثن السخرية، ودعوة صريحة إلى الموت والتلاشي في بوتقة المفارقة.
إنّي أعتقد أنّه لا وجود لشكل قصصي نموذجي وإنّما هناك قوانين أو سمات تُميِّز هذا الجنس الإبداعي عن غيره- وهي سمات موجودة بالضرورة في الجهاز اللغوي بصفته مؤسّسة تختزل الوجود الإنساني قاطبة، كما نجده هذه الرؤية في قصّة “فيديو كليب بالألوان”:
(- لماذا ينام الأطفال بين الموتى؟
– كي يناموا بهدوء.
– متى نوقظُ الكبار؟
– لقد ماتوا للتوّ. دعهم في موتهم يهجعون.
– وانت ماذا تفعل هنا؟
– جئتُ كي اصلحَ فأسي وأدقّ عنقك.
– هذا أفضل حالاً. فأنا مللتُ من كثرة الخرائط التي لا تَصلُح بيتاً لمأوى أو مقبرة للموت…! ص43).
هذه الصّوَر التي تنبت من رحم اللغة القصصية، هي عين مصوّر قاصّة، تتحدّث عن يوميات الموت، وكأنّه يعتريها إحساس أبدي بالخوف الشديد٠ البطل في قصة “الموت” باختصار كان رمزًا لما أحدثه الرعب الذي التقطته عين القاصة٠
لقد اهتمت القاصّة العطعوط ببناء قصتها ميتاسرديا، باستحضار القارئ الافتراضي، ورصد عوالم الكتابة وطقوسها، وطريقة البداية أو المقدمة السردية كما في قصتها (تواطؤ)، (أذكرُ أنّني كنت قد بدأت أنسى، لذلك لم يصدّقني أحدا…! ص67)٠ كانت بداية مغلقة فصارت رحبا. كان الصمت وناب عنه الضجيج (لم أعرفْ، هل صار جسدي يتمرّدُ عليّ؟ أم بدأَتْ هي تمارسُ معي مساجاً مختلفاً يستدعي مثل هذه الحركات، وبالتالي الملامسات المقصودة؟
لم أنم في تلك الليلة.
لم أنم وأنا أفكر..
كنتُ أستعيدُ ما حدث ويحدث بيننا وأحاول أن أجدَ له تفسيراً ص71).
ويبدو أن اهتمام القاصّة العطعوط بنهاية قصصها دليل على تحفيزها للقارئ على المشاركة في بناء قصتها، ومساعدته على بناء متخلية السردي تأويلا وتفسيرا وتصوّرا، كما هو موجود في قصتها (البحث عن قصّةِ جديدة)، (أنتَ تأتي إلى هنا تبحثُ عن قصةٍ ما، فتصبحُ أنتَ نفسكَ قصةً عالقةً على الحدودِ، تبحثُ عن كاتبٍ لها…! ص86).
وهكذا تعلن المؤلِّفة السّاردة نهاية قصّتها المتعالية برموزها الموحية، وتجريدها الغامض، فتحاول تبديدها لكي يخفي معالم تضمينها وانزياحها، وتطمس معالمها التخييلية والافتراضية.
تسعى القاصّة العطعوط إلى رسم عتبات نصّها القصصي الميتاسردية الموازي (العناوين والإهداءات والمقدمات والهوامش والحواشي والأيقونات والصور وكلمات الغلاف..) إلى خطابات ميتاسردية في قصّتها (قطّةُ شرودنجر) (أيةُ حركة هنا، تعني موتك..
لذلك، تحاول جهدك أنْ تكون مثلهم لا مرئياً.. تسير من دون ظلال أو رائحة أو حركة.. ص15).
ونجد هذا التقديم الميتاسردي، بشكل آخر، تقدّم القاصة رؤى حول القصة القصيرة جدّاً، باعتبارها شكلا من أشكال التعبير والتغيير، داعيا إلى بناء مشروع جمالي ونظري لكتابة القصة قصيرة جدا. كما إنّ العطعوط استطاعت خلق فواصل قارئية بين المقدمة للقصة بوصفها قصّة قصيرة جدا، وبقية القصة.
يترك التناص، بكلّ آلياته المضمرة، وتقنياته الجلية، ترسباته الواعية واللاواعية في قصص (قطّة شرودنجر)، لعبة الميتاتخييل أو الميتاقص. وهكذا، نجد العطعوط ولاسيما في قصتها (القدسُ بينَ مسرَحَيْن) يشغل التناص الميتاسردي للإحالة على قصص المكان الذي يقترب من مفهوم الأسطورة، حيث تستدعي القاصة التقابل بين داخل المسرح (تصاعد الدخانُ من الموقد، تحلّقوا حوله يستدفئون.
البردُ قارسٌ. السماءُ تنذر بعاصفةٍ ما، ووجهُها غائبٌ عن المكان تماماً ص35)، أمّا خارج المسرح فجاء على الشكل الآتي: (خرجت البطلةُ تتحدّث بانطلاق، وقبل أنْ تبتعد عن الخشبة، كانت رصاصة عوزي -“سلاح جيش الاحتلال الإسرائيلي وهو رشاش إسرائيلي”، تخترق صدرها في القلب تماماً ص26).
وعليه، تضع المؤلّفة الساردة تقابلا بين زمن زمان المكان وزمان الموت، بين براءة السماء وتسلط الموت.
ويحضر التناص الميتاسردي، حيث تتقاطع فيها الكثير من الإحالات التناصية التي تستدعي تناسل، أو وليد تلك العملية الميتاسردية التي تتولّد عن قصّتها الرئيسة قصّة فرعية، أو قصص صغرى متضمنة داخلياً على غرار قصص (كليلة ودمنة) لابن المقفع، أو قصص (ألف ليلة وليلة). بمعنى أنّ ثمّة قصّة مؤطِّرة (بالكسر) وقصّة مؤطَّرة (بالفتح)، ويبدو هذا جليّا في المجموعة القصصية (قطّة شرودنجر) للقاصّة سامية العطعوط. وهذا يدلّ على مدى وعي القاصّة سامية العطعوط بالكتابة السردية، وإدراك آلياتها الفنية والجمالية وتبيان مقوماتها الحداثية والتجريبة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى