كل الثقافة

“بعض اللحظات” نص مسرحي

النصوص الشعرية للشاعرة اللبنانية دورين نصر سعد

شارك

“بعض اللحظات” نص مسرحي

أ. حميد عقبي

النصوص الشعرية للشاعرة اللبنانية د. دورين نصر سعد

ملخص مختصر
تدور المسرحية حول امرأتين، الأولى مقيدة على كرسي متحرك والثانية حرة. المرأة المقيدة تدرك أنها غير مرئية للمرأة الثانية تحاول الهروب والتفكير في أسباب وجودها والمخاطر المحيطة بها. الثانية تقوم بأفعال غريبة وغامضة لتخلق مشاهدا سريالية ثم يظهر بيدها مسدس. يحدث تبادل غير متوقع للأدوار، حيث تتحرر المرأة المقيدة وتترك الكرسي وتجلس المرأة الحرة على الكرسي فتصبح عاجزة عن الحركة وغير مرئية. يتسارع التوتر وتتطور الأحداث، وفي النهاية، تحدث حادثة غامضة تغير مجرى الفعل وتترك القارئ في حيرة وتساؤل حول تفاصيل النهاية والمصير النهائي للشخصيات.
تلعب نصوص الشاعرة اللبنانية دورين سعد دورا مهما، يوجد فقط نص (أشربُ وأشربُ وأشربُ) لحميد عقبي، بقية النصوص للشاعرة دورين سعد وثمة تشابكات هامة بين النصوص الشعرية والمسار المسرحي ويمكن تطويرها أكثر عند معالجة النص على الركج.

النص المسرحي
في مكان لا تكون معالمه واضحة في البداية، يخيم الظلام في اللحظات الأولى ليزيد من التشويش على بداية المشهد، ويكتسي الجو بالغموض الذي يخترق كل زاوية. تسيطر عتمة على المكان، ثم يأتي الضوء تدريجياً وتظهر الألوان والأضواء باردة مائلة نحو الزرقة وليست بكثافة كبيرة.

نرى بعض أكياس القمامة السوداء مرصوصة في الجانب الأيسر. نكتشف امرأة في الثلاثينات من العمر تقريباً، يديها خلف ظهرها ومقيدة بحبل، تجلس على كرسي متحرك مقيدة أيضاً في قدميها ويكون موقعها في الوسط. على اليمين توجد كراتين وعلب وقناني مياه فارغة وأوراق مبعثرة تنتشر بشكل فوضوي في أماكن متعددة.
يظهر لباس المرأة المقيدة بسيطًا، عبارة عن بنطال رياضي وفانيلة بيضاء متسخة قليلاً ولا توجد عليها علامات مميزة. نرى أن تسريحة الشعر جيدة حيث ينسدل الشعر الأسود على كتفيها. تبدو كأنها في غفوة أو فاقدة للوعي.

تهب ريح خفيفة كأنها تحاول تحريك بعض التفاصيل، الفوضى تجتاح المكان.

يظهر الضوء تدريجيًا كمصدر ضئيل ليكشف عن تفاصيل البيئة المحيطة.
تأتي الألوان الباردة برفق وببطء، حيث تعزز الزرقة تدريجيًا في هذه الأماكن المظلمة. ثم يتحول إلى مثل وميض من الألوان الدافئة، ومضات متفرقة تعطي رؤية مشوشة وليست كافية لرؤية كل التفاصيل الموجودة على خشبة المسرح. تهطل بعد ذلك كتلة ضوئية تميل إلى الزرقة الفاتحة على المساحة التي تتواجد بها الشخصية، في حين تقل كثافة الضوء ودرجة الوضوح قليلاً في بقية جوانب المكان.

يظهر كأن الضوء الواقع على الشخصية المقيدة يمنحنا كمتفرجين فرصة أوضح للرؤية، وكأنه يلعب دورًا في إيقاظ الشخصية وجعلها تشعر بوجودها.

في بداية المشهد، نتفاعل مع لحظات من الصمت، ثم تدريجيًا نسمع ما يشبه ضجيج الطريق السريع لمرور السيارات، يليه صوت يشبه زقزقة العصافير بشكل قوي.
ثم تتلاشى هذه الأصوات. لحظات من الهدوء.
ثم تبدأ الشخصية في الاستيقاظ، تفتح عينيها، تغمضها، تكرر الفعل عدة مرات، تكون نظراتها الأولى كشخص يستفيق من غيبوبة وكأنها لا ترى بالضبط ما هو موجود على مستوى نظرها. تتنفس بصعوبة وتحاول السعال، تكرر المحاولة ثم تبدأ في السعال كمن كان غارقًا في الماء، تسعل وتسعل، وتحاول تنظيم تنفسها وهذا أول شيء يستولي على فعلها.
بعد نجاحها في التنفس بشكل مقبول يظهر وكأنها تشعر بأنها حية.
تحرك رأسها من اليمين إلى الشمال، ثم من الشمال إلى اليمين، تكرر الفعل ثلاث مرات، تستكشف المكان، تحاول تحريك جسدها الذي يبدو مقيدًا على الكرسي. لا يوجد أحد غيرها في المكان ولا يُسمع أي صوت.

تسأل نفسها:

“ما هذا المكان؟ ماذا يحدث هنا؟ من فعل بي هكذا؟ أين أنا وكيف وصلت؟”

تصرخ بأعلى صوتها:

“هل من أحد هنا؟ هل من أحد هنا؟ لماذا تحبسوني هنا؟”

تكرر الصراخ عدة مرات، لا يرد أحد.

تحاول أن تتخلص من قيد يديها، تبذل جهدًا كبيرًا، تسعى أن تحافظ على جودة التنفس وهي تقوم بجهد لتحقيق هدف فك القيود لكنها تفشل.
تحاول أن تتخلص من قيد ساقيها، كذلك تفشل. يبلغ بها الإجهاد والتعب ويزيد توترها، وينعكس هذا على تنفسها الذي يضطرب قليلا. تحاول السيطرة على انفعالاتها وغضبها، وتعود لتنظيم تنفسها، تأخذ شهيقًا وزفيرًا وتعيد تأمل المكان، الذي يزيدها حيرة بكل تفاصيله، وكأن عشرات الأسئلة تتساقط في رأسها.
يمتزج القلق مع الخوف، وهي تعيد تأمل المكان للمرة الثالثة، وكأنها في هذه المرة تدرك تفاصيله ومحتوياته. في البداية، تكون نظراتها فوضوية، ولكن في المرأة الثالثة، تتأمله ببطء وتركيز أكثر، وتدرك أن هذا المكان موحشٌ ومخيفٌ، كأنه سجن إنفرادي أو قبو ممتلئ بالنفايات وبعض الكراتين.

تعيد التفكير بصوتٍ عالٍ، ويكون أكثر وضوحاً ومفهوماً، حيث تنقل لنا الأسئلة التي تطرحها، وتوجهها كذلك إلى نفسها ثم إلينا. كأنها ترغب وتريد أن تبني بيننا كمتفرجين وبينها كشخصية وإنسانة علاقة لنشعر بها أولاً، ثم بعد ذلك ستسعى لطلب دعمنا أو أن نكون شهوداً على ما يحدث. تسعى أن تكون مرئية بالنسبة لنا وكذلك محسوسة:

“هل أنا سجينة أم مختطفة؟ لا أتذكر شيئًا عن نفسي… منذ متى وأنا هنا؟”

تتعدد الأسئلة وتصيغ الجمل بتراكيب متعددة، تكون تارة واضحة ومفهومة ثم يسودها الارتباك والاضطراب وخلل في التنفس. تسعل وتأخذ بعد ذلك شهيقًا وزفيرًا، ترفع صوتها وتصرخ بغضب عن سبب وجودها في المكان الموحش ولا صوت يأتي من الخارج.

لحظات صمت. يتخللها الحزن ونرى هذا على ملامح وجهها. تبكي وتطلب النجدة منا، وتبدأ طلب ذلك بصوت أقرب إلى الهمس والترجي، كمن يحاول أن يكسب تعاطفنا، وكأنها توصل فهمها أنها ترى الجمهور وتكسر الجدار الرابع، ولا تريدنا مجرد متفرجين بل كأنها تتوقع أن يجازف أحد من الجمهور أو مجموعته لتنقذها وتفك قيودها.

تهمس، تهتف ثم تصرخ:

“أرجوكم، ليساعدني أحدكم، يبدو أني مختطفة.. كأني أعيش مشهد بداية فيلم مرعب.. ماذا فعلوا بي وبكم؟ لا أظن أني في سجن قانوني.. حتى المسجون تكون له حقوقًا ويجب أن يتوفر في أي سجن الحد الأدنى من الحقوق الإنسانية ولا يُقيد كالحيوان المتوحش، حتى الحيوان يجب ألا يعامل بقسوة.. أشم روائح كريهة ورائحة رطوبة وتعفن.”

تتجمد للحظات وتبكي بصمت.
يتصاعد ما يشبه الدخان والبخار من الجانب حيث أكياس القمامة والكراتين المبعثرة، يعلو ويزداد وكأنه يبشر بمتغير أو جديد أو تحول هام. ثمة ريح خفيفة تأتي كذلك من الجانب الآخر من الخشبة.

نسمع صوت هبوب الريح.
ترتجف الشخصية على كرسيها مما يوحي أنها تشعر بالبرد، لكن رؤيتنا لها تضعف. حيث يظهر ضوء يأتي من جهة بعيدة في مستوى نظر الشخصية ويكون التركيز على الوجه ويأتي ليدعم رؤيتنا للوجه بينما يضعف الضوء في بقية المكان.
تتنهد وكأنها تحاول الحفاظ على طاقتها لأحداث قادمة أكثر توتراً ومعاناة.

فجأة، تدخل امرأة تكون بالثلاثينات من العمر تقريبًا، في ظل هذه الأجواء الضبابية، ثم يبدأ الضوء تدريجيًا وببطء ليظهر هيئة الشخصية الثانية بوضوح أكثر. ندرك بعد لحظات أن ملابسها تكاد تشبه نفس ملابس الشخصية المقيدة، ويبدو أن شكلها وتسريحة شعرها تتشابه قليلاً مع الشخصية المقيدة. هذا التشابه القريب يؤدي إلى زيادة حيرة وقلق الشخصية المقيدة.

المرأة الثانية، في حركاتها الأولى، كأنها تحاول إخفاء وجهها عن الشخصية المقيدة وعن المتفرجين.
تنوع حركتها بعد ذلك ويتنوع الضوء ليُظهر بعض تفاصيل هذه الأفعال.
تدرك الشخصية الأولى المقيدة أن هناك تشابهًا في الشكل والملبس، وهذا يزيد من ارتباكها.

تكون الشخصية الثانية بيدها مكنسة، تتحرك دون أن تنتبه للشخصية المقيدة، تقوم بكنس بعض الأوراق المتناثرة وقناني الماء الفارغة وتكون حركتها غير مركزة ومنظمة.

هنا تتفاعل الشخصية المقيدة عند رؤيتها للشخصية الثانية، ويبدو أن هناك أملًا بالخلاص من القيود.
تنظم تنفسها وكأنها تجمع نفسها المبعثرة.
تبتسم وتنادي الشخصية الثانية: “سيدة، أنسة.. أنتِ.. أرجوكِ فكي قيودي.. أخبريني أين أنا؟، أين نحن؟ ما هذا المكان؟ ماذا يحدث هنا؟”

تكرر الأسئلة وترفع صوتها أكثر، تسعى أن تبني معها علاقة اتصال وتلفت نظرها إليها.

نسمع ما يشبه صرير الريح ويكون الصوت بالبداية خافتًا ثم يرتفع أكثر، وكأن الريح ترد على أسئلتها.

تستمر الشخصية الثانية في الكنس وهي تهز برأسها وتتمتم بكلمات غير مفهومة وبصوت خافت جدا وغير مسموع للشخصية المقيدة أو للمتفرجين.
تهمس المرأة المقيدة بصوت مسموع لنفسها وللجمهور وكأنها تقوي العلاقة معهم وتعيد هدم الجدار بينها وبينه وتجعله عنصرًا فاعلا في الحدث والعرض. تهمس: “لا أسمع ما تقولينه، لا أسمع ما تقوله، أنتم هل تسمعونها؟”

يبدو من حركة الشخصية الثانية ومن نظراتها الأولية كأنها تتجاهل المرأة المقيدة عمدًا أو أنها هي في عالم آخر وخاص بها، حيث لا تؤكد لنا فهمها للمكان وهل هو مألوف أم غير مثير للاهتمام. أو أنها تدرك المكان وتعرف ما ستفعله.
مع تقدم الأحداث، ستزيد حيرتنا، وتصل لتأخذ أو تكنس بجانب الكرسي حيث المرأة المقيدة وتنشغل بالنظر إلى شيء آخر في المكان، ويبدو أنها لا تشعر بوجود أي شخص آخر في المكان.

خلال حركتها في الكنس، تركل بقدمها اليمنى بعض الأشياء في طريقها. تجمع بعض المخلفات وتتقدم بها إلى مقدمة المسرح، ثم تركلها وتبعثرها، ثم تعيد جمعها ثم تعيد ركلها وبعثرتها.
تتوقف للحظة وتدوس على قنينة ماء بلاستيكية، تقفز على بعض العلب والقناني الفارغة لتصدر بعض الضجيج.
تستمتع بما تفعله، تهز جسدها وتخلق حركات أقرب إلى الرقص وتضرب بالمكنسة وتحركها لخلق تشكيلات بهذه الحركات الجسدية والمكنسة وإصدار ضجيج صوتي.

تزداد حيرة المرأة المقيدة، التي تشاهد بعض ما يحدث، حيث أن حركة الشخصية الثانية تحجب الرؤية بعض الأحيان، كأننا أمام عرض مزدوج، أي عرض للشخصية وعرض للجمهور.
تعود الشخصية بالنداء والترجي والحركة ثم الصراخ: “أنتِ أيتها الأنسة.. لماذا لا تردين؟ ألا تريني أني مقيدة هنا؟ أرجوكِ ساعديني.”

تستمر الشخصية الثانية في تجاهل الشخصية المقيدة، مما يؤكد للأخيرة أنها لا تسمعها ولا تراها.

تتوقف الشخصية الثانية وتظل جامدة للحظات.
هنا نسمع أصواتٍ تشبه أصوات أفعال بالمطبخ، كأن هذا المطبخ قريب جداً من المكان. يتضح صوت قلي البصل والبطاطس، وصوت خلاطة العصير يندمجان ويعلوان.
يدخل صوتٌ يشبه صوت المكنسة الكهربائية، يعلو ويسيطر.
تظهر تأثيرات هذه الأصوات على المرأة المقيدة وكأنها تعزز وجود طرفٍ جديدٍ ليس بعيدًا عنها، وقد يتدخل لينقذها. بالإضافة إلى ذلك، يظهر على بعض ملامح وجهها شعور بالجوع.

الشخصية الثانية لا تلتفت أو تتفاعل مع الأصوات المتعددة، ولا مع الجمهور، ولكن يبدو أن صوت المكنسة الكهربائية ينقذها من جمودها ويكون إشارة لتواصل فعلها.

تعود الشخصية الثانية لتجميع ما تنظفه من أمام المسرح، وتركض هنا وهناك لتجميع ما تفرق على خشبة المسرح، ثم تنزل خارج الخشبة لتجمع الفوضى هناك.
تسير قليلاً، ولكنها لا تدرك وجود الجمهور ولا تبذل جهدًا لإقامة علاقة معه. بعد ذلك، تصعد مرة أخرى وتعود إلى الخشبة، وتضع كيسًا كبيرًا للنفايات بجوار الكومة. تلي ذلك وضع كيسين أصغر، وتجد قصعة من الألوان (الأبيض والأسود والأزرق) وتلوّن الأكياس بألوان تجعلها تشبه تمثال رجل الثلج.
تنظر إليه وتتجول حوله، تقترب وتبتعد عنه وتكرر هذا الفعل عدة مرات، ثم تأخذ بعض الأوراق لتنظيف يدها من الألوان ثم ترمي بها، وتواصل تنظيف يديها بتمريرها على سروالها والفانيليا.

تظل المرأة المقيدة تشاهد وتتابع الأحداث بذهول ورعب أمام سلسلة هذه الأحداث الغريبة والصامتة. تستمر في متابعة الشخصية الثانية التي تقوم بخلق تمثال يشبه رجل الثلج.

تحاول الشخصية المقيدة البحث عن إجابات داخل نفسها، تعبر عن ارتباكها وتلعثمها بعبارات غير مرتبة، صوتها يكون مبحوحًا في بعض الأحيان وتحاول تحسين صوتها في أحيان أخرى، مع بعض الضعف والخفوت.

تقول هامسة: “أي عالم مجنون هذا؟ أي عالم مجنون هذا؟”

يظهر من ملامح وجه الشخصية الثانية أنها تفكر في شيء جديد، حيث تقترب من التمثال وتنظر إليه بصمت.
تدور حوله ثم تتوقف للحظات، ثم تبدأ في ترتيب الكراتين بقرب التمثال من جوانب عدة في المسرح. بعد ذلك، تأخذ كيسًا بلاستيكيًا وتستخدمه كوشاح للتمثال. ولكن الأمور لا تنتهي هنا، فتحضر كيس قمامة ضخمًا وتضعه بين الشخصية المقيدة والتمثال، وتضيف كرتونًا ترميه على الأرض.
بعد ذلك، تجلس على الكيس الكبير وتستخدمه ككرسي، تنظر إلى الكرتون الذي تمسكه، وتقوم بفتحه لتجد أوراقًا كثيرة. تلقي ببعضها حولها، وتأخذ ورقةً تكومها ككرة صغيرة وتلقيها بجانب التمثال، وتكرر هذا الفعل عدة مرات.

تحاول الشخصية المقيدة التحرك وتنجح بصعوبة في تحريك الكرسي لمتابعة هذه الأحداث المجنونة.

تعثرُ الشخصية الثانية على دفتر، تتصفحه بصمت، ثم فجأة تبدأ القراءة بصوتٍ عالٍ. تقوم بالانتقال في جوانب المسرح، تدور حول الشخصية وتتعدد حركاتها.
وهي تقرأ نصًا شعريًا بعنوان “لا تسألها”:

“لا تسألها…
لا تسلْ عن حزنٍ حفر في عيني امرأةٍ
أو ابتسامةٍ غابت عن شفتي وردةٍ
كانت تضيء الحياة،
تلك المرأة لا تشبه نساء الأرض
لا تُفرحها حفلة راقصة
ولا يُغريها غناء…

ترقص للحظات رقصة تشبه الفلامنكو.
يهطل عليها ضوء بلون أكثر حرارة ودفء. للحظات ثم تصمت. تتجمد بمكانها رغم استمرار الضوء الأصفر والذي يمتزج بالحمرة، ثم تواصل قراءة النص بديناميكية أكثر وبنمط حواري:

تلك المرأة ما عادت تنتظر أن تنام في حضن نجمةٍ
أو تسهر مع قمر العزلة
أو تعبر في مرآة…
تلك المرأة الغريبة الرقيقةُ
ما عادت الطيور تنقر حلمها،
ما عادت رقصة الغجر تُدهشها،
ما عاد العشب ينبت بين مفاصل الكلمات…
تتوقف للحظات، تجمع بعض الأوراق من أرضية المسرح، تضمها إلى صدرها، تتقدم إلى مقدمة الخشبة، تجلس، تلعب بالأوراق وتكورها ككرات صغيرة وتعبث بها كطفلة صغيرة، ثم تعيد جمع بعضها وتنهض، تتقدم وترمي بها في وجه الجمهور، تتوقف ، كمن يشعر بالبرد ثم تهمس بصوت واضح وتكمل النص :ـ

فحزنها نارٌ وطقوس صارت تمارسها
كلّما نام الفرح
واختنقت في قلبها شهوة البكاء،
من شدّة الألم، رقصت كلّ النايات
وصار الأنين صدى الأشجار ولحن الغابات…

تكرر العبارة الأخيرة عدة مرات وهي تركض اتجاه الشخصية المقيدة، ثم تعود إلى مقدمة المسرح.

تتوقف للحظة، تتقدم إلى مقدمة خشبة المسرح، يتولد شعور للمرأة المقيدة أن الشخصية الثانية تبدأ بالانتباه إليها وتلوي رقبتها ثم تستدير تجاه منطقة الكرسي. تتقدم ببضع خطوات ثم تعود إلى مقدمة الخشبة، وكأنها ستبني علاقة مع الجمهور، لكنها تعود لهذيانها وتكمل الفقرة الأخيرة بصوت جهوري فخم:ـ

الحزن امرأة
ما عادت تعاتب التاريخ،
غفت على صدرها كلّ الآآآاهات…”

تتابع الشخصية المقيدة وتنصت بانتباه، وتظل هادئة طوال القراءة، حيث لا تتدخل فيما يجري ولا تظهر أي رد فعل. عند نهاية النص، تعود الشخصية الثانية لتجلس وتتأمل التمثال في صمت تام.

تحاول الشخصية المقيدة فهم ما يحدثُ وتردد النص كأنها تعرفه وتحفظه، يكون الإلقاء إنفعالياً وكأنه لقطات متتالية، كل عبارة تشبه طلقة ويأتي ضوء خاص أنيق على وجهها ليدعم هذا الأداء.

“لا تسألها…
لا تسلْ عن حزنٍ حفر في عيني امرأةٍ
أو ابتسامةٍ غابت عن شفتي وردةٍ
كانت تضيء الحياة،
تلك المرأة لا تشبه نساء الأرض
تلك المرأة لا تشبه نساء الأرض.”

تتفاعل مع الجملة الأخيرة وتعيد تردديها بهمس، ثم يرتفع تدريجياً إلى صراخ عالٍ: “تلك المرأة لا تشبه نساء الأرض!”

تحاول السيطرة على إنفعالاتها والتذكر، تهمس بابتهاج: “أعرف هذه القصيدة.. أحفظها عن ظهر قلب… إنها لي.. نعم أنا كتبتها.. أتذكرها جيدًا.. كيف وصلت معي إلى هذا المكان؟”

تظل الشخصية الثانية صامتة ولا تظهر أي فعل يدل أنها تسمع أو ترى الشخصية المقيدة، تعبث في اأحد الكراتين، تجد سندوتش صغير وقنينة ماء، تجلس على الأرضية، تأكل وتشرب مبتسمة.

يفقط مراجعة وتدقيق لغوي والمحافظة على النص

يهطل ضوء يعم كل ارجاء المكان وكأنه يبني لقطة عامة للمكان والشخصتين ويحاول بناء العلاقات بحيث يظهر كل شيء مرئيا وطبيعيا.
نسمع تكرار لأصوات كأنه تأتي من مكان قريب وهي أصوات مطبخ، صوت قلي وكأن شرائح بطاطا تُلقى بزيت حار ثم صوت خلاطة كهربائية وتكون السيطرة لصوت مكنسة كهربائية.
صمت
نرى تفاعل الشخصية المقيدة التي تشعر بنشاط ذاكرتها، تتحدث وهي تتلعثم: “يبدو أن ذاكرتي تنشط، أنا كاتبة هذا النص ويبدو أني أتذكر نصا آخر.. سأتذكره .. أمنحوني لحظات.. هذه المرأة أهي سجانتي أم سجينة مثلي.. أهي خفتتي أم مخطوفة مثلي؟ لماذا لا ترأني حسنا سأتذكر قصيدة أخرى.. أمنحوني لحظات..”

هنا تتقدم الشخصية الثانية إلى جهة الشخصية المقيدة، تمسك بالكرسي المتحرك وتقوده وكأنها لا تشعر بوجود شخص عليه، يزداد ذعر الشخصية المقيدة تصرخ بعبارات الترجي: “أرجوك لا تؤذيني… لا يبدو عليك الشر… أتذكر قصيدة كتبتها سأسمعك إياها.. أنتِ تحبين الشعر؟”

يعود صوت المكنسة الكهربائية واضحا وعاليا ويكون بمثابة المحفز والمنبه للشخصية الثانية بخلق أفعالا غير متوقعة.

لا يظهر أبداً أن الشخصية الثانية ترى أو تشعر بالشخصية المقيدة لكن صوت المكنسة الكهربائية يثير نشاطها حيث تتحرك وتمسك بالكرسي المتحرك وتحركه وتدور به به ثم تثبته بجانب التمثال.
صمت

هنا، تتذكر الشخصية المقيدة قصيدتها الثانية، وتلقيها بتفاعل وبنبرة أكثر ثقة وتوازنًا، وتعبر بكلام موجه وابتسامات إلى الجمهور، كما لو أنها تسعى إلى تعزيز علاقتها مع الجمهور ليقدم دعمه لها. وترسل أيضًا إشارات إلى الشخصية الخفية التي تصدر ضجيجًا يشبه صوت مطبخ منزلي:

“بعض الّلحظات لا تموت…
بعض الّلحظات لا تموت
إيقاعها في النفس
كإيقاع الموت في عروق الحياة
كإيقاع الموج في بحر
شربت الشمس مياهه،
وجعها كوجع الجلد النّاعم
حين تلامسه شجرة الصّبّار…
تسرع الشخصية الثانية بالركض نحو التمثال وتدور حوله، تتلمس وجهه برفق، وتهمس له بهمسات غير مسموعة. ثم تدور حوله مرة ثانية، وتتجه لتدور حول مكان المرأة المقيدة ثم الجهة الثانية، كأنها تربط بين الموجودات المكانية والموجودات. تعود إلى مقدمة الجهة اليمنى للمسرح، ترقص ثم تتوقف وتهمس: ”

تلك الّلحظات
تتلوّى في الأعماق
كتلوّي النغم
في حنجرة ناي أخرس،
تموت فتحيا، فتموت….
ثمّ تهبّ في الذاكرة كريح استوائيّة
تقصّك كسنابل القمح
بمنجل الحياة…
بعض الّلحظات هي أنا
حين فقدتُ أناي/هو…
فصارت تلك الّلحظاتُ قصيدةً خاليةً
من أناي وأناك.”

تردد العبارة الأخيرة عدة مرات.

تتحرك الشخصية الثانية إلى جانب التمثال، تتعامل معه كشخصية إنسانية، وتهمس له:
“أخبرني متى سيأتي الشتاء الجديد كي أصنع لك رفاقًا من ثلج حقيقيين أبيضين وناعمين، الحياة موحشة بدون رفاق وأصدقاء وعائلة.. أريد أن تكون لك عائلة وأصدقاء.. أخبرني بموعد الشتاء وتساقط الثلج.. إياك أن تكذب كما تكذب توقعات نشرات الطقس، يقولون يوما مشمسًا فيكون رعديًا ممطرًا ويقولون المطر فيكون الشمس حارقة.. إن كذبت ستطول أنفك مثل أنف بينوكيو وسيعرف العالم كله أنك تكذب وسيقولون الكذاب أهو.” ء هنا تقفز وتتحرك وهي تتقافز وتردد عبارة “(الكذاب أهو..الكذاب أهو)”، تضحك الشخصية المقيدة من الموقف.
تظهر على الشخصية المقيدة ملامح الفرح، ثم تتغير وتظل الشخصية الثانية صامتة وواقفة مقابل التمثال.
تصرخ الشخصية المقيدة بغضب: “بعض اللحظات لا تموت… لكني أريد هذه اللحظات أن تنتهي.. أن ينتهي هذا الكابوس المخيف وأن يزول.. أنها محنة قاسية.. القيد محنة مرعبة، تمتد عذاباته لتقيد الروح أيضاً، خاطفتي هذه المرأة ربما مجنونة أوسادية متوحشة أم ربما هي ضحية مثلي فكوا قيود جنونها.. ما أعيشه هنا هو كابوس من عذابات الجحيم القاسية.”

تبدو الشخصية الأولى الآن واثقة من ضرورة التعامل مع الواقع بحذر وفهم حقيقة أن المرأة الثانية لا تراها، وعليها البحث عن بعض الحلول. تبدو للحظات أنها سعيدة وهي تستذكر قصيدتها الثانية.
هنا، تقود المرأة الثانية الكرسي المتحرك وتتلاعب به للمرة الثانية بشكل جنوني وعنيف. تحركه يمينًا ويسارًا، تدفعه إلى الأمام ثم الخلف، وتظل الشخصية المقيدة تتنازع بين الصمت والصراخ، وتزيد الأضواء من حدة التوتر، ويصبح التوتر مرعبًا للشخصية على الكرسي.
تتحدث الشخصية المقيدة إلى الشخصية الثانية بغضب: “أنتِ أيتها المجنونة، لا تريني إذن، احذرك من العبث بي.. هذا ليس مضحك.. أنتِ كابوس لعين يجب أن أتخلص منه ومن هذا المكان والزمان.”

تتوقف الشخصية الثانية عن العبث بالكرسي وتوقفه على يسار الخشبة، ثم تذهب لتفتش في الأكياس والكراتين في أعماق المسرح. يستقر الضوء ليصبح أكثر نعومة. لحظات من الصمت، تحاول الشخصية الأولى أن تنظم حركتها وتنفسها وتجمع شتات نفسها.

تأخذ الشخصية المقيدة بعض الراحة، تتنفس بعمق شهيق وزفير، ويبدو أن ذاكرتها تنتعش أكثر: “ذاكرتي تنتعش قليلاً، هذه المجنونة ذهبت للبحث عن شيء قد يجلب أشياء خطيرة، ربما مادة حارقة تحرق المكان كله، وأنا أيضًا قد أحترق.. أتوقع كارثة مرعبة.. أتذكر الحبيب.. أكاد أسمع أنفاسه.. أتذكر كتبت له وعنه.. سأتذكر النص قبل قدوم تلك اللعينة وعبثها بهذا الكرسي.. أتذكر عنوان القصيدة أسمعك .. سأسترجعها ربما سيسمعني الآن ويأتي لإنقاذي.
أسمعك حين تصمت اللحظات
ويشتعل (بريق الكتابة)…
أسمعك
حين تمطر (السّحب السود)
وتنبت وردة حمراء
بين ثقوب الجدار…
وفي الدفاتر القديمة
أسمعك

تتوقف للحظة، تصمت، تحاول هز الكرسي، تئن، تلهث، تنظم حركة تنفسها.
يُسمع صوت زقزقة عصافير وتمتزج مع تغريد حمام ويتواصل الصوت ليرافق ويمتزج مع استمرار الشخصية وهي تتذكر قصيدتها.
تلقي القصيدة بنبرة حالمة كالمناجاة، كأنها تتمنى من حبيبها أن يسمع لها ويُسرع لينقذها. تكمل: ـ

و أنا أعيش فوضى النهار
أبعثر ملابسي
فوق الأسرّة العتيقة…
أسمعك
حتّى يتعب الانتظار
من ألم الساعات الطويلة…
أسمعك
و أنت تهمس في قلبي
فتنضج الحروف على شرفة الحياة
و أعود طفلة صغيرة
أسمعك لأحيا
كلّما غبتَ عنّي
و صار صوتك قصيدة…

تصمت، عتمة عامة للحظات قليلة ثم يأتي الضوء وكأنه نهار يوم مشمس، تختفي المؤثرات الصوتية.

تأتي المرأة الثانية ومعها ثلاثة أكياس بأحجام مختلفة وتبدأ بالعمل لصناعة تمثال آخر من الأكياس. تنهمك في العمل وتذهب وترجع عدة مرات لتحضر علب ألوان، تظل الشخصية المقيدة تراقبها بحذر وفي الوقت نفسه تحاول فك القيود.

تصفر وتغني الشخصية الثانية وتحاور التمثال وهي تعمل: “انتظر، أنا أجتهد من أجلك لتكون لك حبيبة تسمعها وتسمعك، تحبها وتحبك، وأحذر أن يختطفها أحدٌ أو يمسها بسوء. ستكون لطيفةً وجميلة، شعرها يشبه شعري وجسدها يشبه جسدي، طبعًا أنا أجمل منها ستكون جميلتك أيها الوحش لن تشعر بالعزلة والاقصاء مثلي، فأنا وحدي. لا أدري من أين جئت وإلى أين أمضي؟ وحدي لا أحد يسمعني أو يشعر بي، يمكننا أن نكون جميعاً أصدقاء ورفاق نسمع لبعضنا ونشعر ببعضنا البعض.”

يزداد خوف الشخصية الأولى وكأنها تشعر بأن هذه الشخصية الثانية المجنونة ستقدمها كقربان أو أنها في أجواء طقس وثني.

تعتني المرأة الثانية بالتمثال الثاني الذي تصنعه وهي بحالة مرح وتهتم به أكثر وتجد بأحد الأكياس باروكة وقماشًا بحيث يُعطي دلالات أنثوية.

فقط مراجعة وتدقيق لغوي والمحافظة على النص

تنشف الشخصية الثانية يدها من الألوان وتمسح بيدها على الفانيلا وتخاطبهما: “ربما نحن في أمان هنا، ربما توجد فوضى بالخارج وربما لا يوجد خارج، لا يوجد شيء. ربما كان على الجميع أن يعيش في سلام وتفاهم ومحبة وأن نلعب ونضحك. لقد وجدت ورقة أخرى.. أنتِ أيتها الأنثى كوني رقيقة.. أسمعي ما يوجد بالورقة:

أُمرّرُ أصابعي فوقَ عقارِبِ الوقت
لأوقِفَ الزمنَ برهةً
فينقلني عطرُكِ إليّ
حينَ يفوحُ في ذاكرتي
وأتذوقُ كلماتي بينَ شفتيك…
أخشى أن أفتحَ أصابعي
فتسيلَ السعادةَ التي كوّمتها
في قبضةِ يدي،
حينَ التقينا…

تفشل المرأة الأولى في فك قيودها، وتكون حركتها أكثر حذرًا، كأن الشعور بالخطر يتعاظم، وكذلك الشك والخوف. تردد بصوت خافت: “ماذا لو كانت تتذاكى وتمثل بأنها لا تراني.. ماذا لو ذبحتني كقربان لتماثيلها ..المكان غريب ومن الطبيعي أن يكون أهله قساة.. ربما يوجد سجانًا وخاطفًا لعينا.. لماذا لم يظهر إلى الآن؟”

غريبة هذه المرأة هي تتحدث بقصائدي، كل تلك الكراتين فيها أوراقي.. لا أتذكر كثيرا عن حياتي قبل أن أكون هنا.. مع الوقت سأتذكر كل شيء.. لماذا تقول قد لا يكون أي شيء خارج هنا.. هل حدث وباء قتل الجميع أم اتسعت نيران الحروب فأكلت شيء.. الحل الخروج، الهروب من هنا وأن أحترس من كل شيء، منها.. فقط لو فتحت قيودي سوف ألكمها وأربطها.. أجبرها أن تراني.. لتكن من تكونسجانة أو خاطفة، لا يهمني.. كنت سأتفهم الوضع لو أنها تسمع وترى.

فقط مراجعة وتدقيق لغوي والمحافظة على النص

هذه المرأة وهذا المكان وما يوجد به، كل هذا يثير خوفي وخوفكم.. أه، أتذكر كنت أسمع بقيام حرب عالمية ثالثة مدمرة.. هل فعلاً حدثت وانتهى أمر الكون كله.. أتذكر مدينتي كانت مبتسمة وضاحكة.. أنيقة وشامخة.

تصرخ في المرأة الثانية: “هاها هاها لماذا تفعلين بي هذه القسوة؟ أفيقي من جنونك.. أخبريني بما حدث ويحدث.”

ترقص المرأة الثانية وتغني مقطع من أغنية وتمخطري يا عروسة، تستمر لبعض الوقت في الغناء والرقص.
بعد أن تنتهي من الأغنية، تتجه نحو الكرسي المتحرك وتهزه، تتجول به دون أن تشعر بردة فعل المرأة المقيدة التي تشعر بالرعب.

تستمر المرأة الثانية باللعب مع الكرسي من جديد ولكن في المرة تقوده إلى عمق المسرح، خلف أكياس القمامة، يختفيان هناك لبعض الوقت خارج رؤية المشاهدين، تظل الخشبة خالية من أي فعل للحظات.

تعود المرأة الثانية وهي تقود الكرسي وعليه المرأة المقيدة، تركن الكرسي وسط الخشبة، تكون تحمل معها كرتونين صغيرين، تفتح الأول تجد مسدسًا وتفتح الثاني تجد ورقة ووردة مجففة، تتأمل المسدس ونشعر أنها تعي ما هو، تضعه بيدها اليمنى وبيدها اليسرى الورقة والوردة، يزداد ذعر المرأة المقيدة وهي تتابع ما يحدث.

تضع المرأة الثانية المسدس تحت أبطها، تشم الوردة وتتراقص قليلاً ثم تضع الوردة على رأس التمثال الثاني.
هنا تعود المرأة المقيدة لمحاولة فك قيودها ويبدو أنها تنجح قليلا، تستمر.
تضحك وتبتسم المرأة الثانية، ثم تقرأ الورقة والتي بها قصيدة، تلقي القصيدة بطريقة أنيقة:

“أطلقت رصاصةً
على أفكارها..
حين انتهك البوح حرمة الصمت،
لحظة توقّف الطريق
إلى الشّمس
في منتصف القصيدة…

تتوقف للحظات قليلة وقصيرة، تركض إلى عمق المسرح بحركة تفتقد للهدف وبالعمق تكرر عبارة
ـ في منتصف القصيدة
تكررها بنبرة خائفة ومرتعشة ثم تعود إلى مكانها وتكمل هذيانها :ـ

أطلقت رصاصةً
على عقلها
لحظة ارتباك النبْض
على حافة الضوء…
وصار الحلم قطعة غيم
رتقها وجع التنهيدة…
تتوقف للحظات وهي تردد (عبارة وصار الحلم قطعة غيم).
يهطل ضوء يعم المسرح ببعض الألوان الدافئة.
تأخذ المسدس وتصوبه نحو رأسها، تبتسم، يُشرق وجهها، ترقص وهي في مكانها،تلهو بهذه الحركة، تصوبه نحو المرأة المقيدة ثم لعدة جهات، تدور حول نفسها، تصوب المسدس نحو رأس التمثال وتكمل مخاطبته :ـ
أطلقت رصاصة على حروفها
فسقط عصفور
كان يغرّد على شرفة القصيدة…

أطلقت رصاصة على وطنها
فسقط الوطن في قلبها
وصار الجرح تغريدة…”

بعد أن تنتهي من القصيدة، تضع المرأة الثانية الورقة بجانب الوردة ثم تعيد اللهو بالمسدس كأنها تريد تجريبه بشكل حقيقي وجاد.

نسمع صوت ناي كأنه يأتي من بعيد، بصوت منخفض ثم يعلو تدريجياً، ومع ارتفاعه تتجمد الحركة على المسرح لدقيقة تقريباً، ثم يتلاشى الصوت ويختفي.

هنا تنجح المرأة المقيدة في فك قيودها كما لو أن صوت الناي منحها القوة. ومع ذلك، يظهر الذعر على ملامح وجهها والخوف من المسدس، تنهض من الكرسي بحذر، خاصةً أن المرأة الثانية تصوب المسدس نحوها بقصد أو غير قصد، مما يرفع التوتر.
تسير المرأة الأولى بخطوات حذرة، وترفع يديها وتناور بحركتها، وتظل المرأة الثانية تصوب المسدس.
تهمس المرأة الأولى: “هل تريني؟ لماذا تصوبين نحوي؟ سأنقض عليك، أتركي هذا السلاح اللعين.”

لا تظهر من نظرات المرأة الثانية أي تعابير تدل على حساسيتها بوجود المرأة الأولى، ولكن الحركات وطريقة التصويب تثير الخوف. تقترب المرأة الثانية من الكرسي المتحرك وتدفعه قليلاً، ثم ترفع المسدس إلى أعلى وتردد: “طاخ طاخ طاخ بوم بوم بوم… طاخ طاخ بوم بوم.”

تتنفس المرأة الأولى ويهدأ قلقها، كأنها تأكدت أنها غير مرئية. ترفع رأسها إلى الأعلى وتغمض عينيها.

هنا تجلس المرأة الثانية على الكرسي المتحرك. يحدث ما لا يتوقعه الخيال، المرأة الثانية على الكرسي المتحرك يصبح جسدها السفلي مشلولًا وغير قادرة على الحركة، لكنها الآن وفجأة ترى المرأة الأولى التي تظل تنظر إلى الأعلى وكأنها تنصت لشيء ما لا يسمعه الجمهور .

تحاول المرأة الثانية التي على الكرسي أن تحرر جسدها، لكنها تعجز وتكون يدها اليسرى مشلولة تمامًا، كما لو أنها ملتصقة بالكرسي، والمسدس لا يزال في يدها اليمنى وهذه اليد غير مشلولة بشكل كامل.
بصوت يبدو عليه الضعف والخوف، تنادي على المرأة الأولى الواقفة في حالة ذهول:ـ “أنتِ، أنتِ الواقفة يا سيدتي، يا أنسة، هل يمكنكِ مساعدتي؟ ماذا أفعل هنا؟”

تتحرك المرأة الأولى لكن يبدو أنها لا تسمع النداء، تتجول في المكان ولا يظهر عليها أنها ترى المرأة الثانية على الكرسي والتي أصبحت غير مرئية.

تتحرك المرأة الأولى في المكان ثم تذهب إلى العمق حاملةً ثلاثة أكياس قمامة بمختلف الأحجام، وتبدأ في رصّها. ثم تذهب وتحضر علبة لون أخضر، تقوم بعمل تمثال وتطليه باللون الأخضر. في هذا الوقت، تظل المرأة الثانية على الكرسي تصرخ وتنادي.

تنتهي المرأة الأولى من عمل التمثال وتلوّنه بالأخضر، ثم تبتسم وتضحك، قائلةً: “من الصعب أن تظل وحيدًا دون أن يكون لديك أنيس أو جليس أو شجرة أو وردة. أتذكر حديثًا معينًا، لا قصيدة.. أعجبتني.”

تتمايل بخطوات راقصة ثم تلقي مقطعًا تتفاعل معه، قائلة: “كنت أصغي إلى صوت غليان المياه وتدفّق البخار بين أوردة الغيم، فألمح طيفًا يعبر، يهرب ثمّ يعود…

فأنا لا أعرف كيف يفور الحلم في منتصف النّهار، كيف تشيخ الغابات، ويشرب النهر حزنه بصمت…

تصمت للحظات وكأنها تنتظر سماع صوت ما سيأتي من الخارج.
بعد لحظات نسمع صوت الذي كأنه يأتي من مطبخ قريب من المكان، صوت ماء يصب من حنفية وصوت غسل صحون ثم صوت قلي بالزيت وأخيرا صوت المكنسة الكهربائية ويكون لهذا المؤثر الأخير تأثيره على الشخصية الثانية المقيدة والمشلولة على الكرسي المتحرك الآن وسماعها لهذا الصوت يجعلها تريد التحرر وتبذل جهدا لفعل ذلك، ترمقها المرأة الأولى بنظرات وهي تتحاشئ الاقتراب منها أكثر حيث أنها ترى المسدس والذي يتحرك صوبها ويخلق لديها حالة من الفوبياء المرعبة فهي لا ترى المرأة الثانية وترى فقظ المسدس وحركته، تتحرك وتلتقط المكنسة وكأنها أداة للدفاع عن نفسها وتبدأ باستخدامها كمجداف، تتحرك كما لو أنها على متن قارب وتجدف بالمكنسة، تكمل حديثها:ـ

أنا لا أعرف كيف تظمأ البحار، وتَبهتُ السّماء فجأة… تحزن…

فلا تعود تظلّل الأرض…

ما عُدت أرى رمالًا تتحرّك بين حبيبات الوقت، أجد الآهات صامتة صمت السّنوات الطويلة…

فيغصّ الزّمن في حنجرة النسيان، ويتململ كالأفعى في مواكب الحياة.”

تصمت
تجلس القرفصاء وتظل تتمسك بالمكنسة، وهنا تستخدمها كأنها تهش أشياء غير مرئية، ترتسم معالم الخوف على وجهها وتردد عبارة: “كلنا في خطر، لا أحد هنا في أمان، لا أنا ولا هي ولا أنتم ولا الذين يحدثون ذلك الضجيج، غسل صحون وقلي وكنس بمكنسة كهربائية.”

تتوقف للحظة وتهمس: “صوت المكنسة الكهربائية كان يثيرها، يزداد جنون تلك المرأة هناك هي الآن غير مرئية وربما مقيدة على ذلك الكرسي وهي تراني، أنا لا أرى سوى حركة المسدس، أدوات القتل في كل مكان، في البر والبحر والجو، بعمق البحر والأرض، يتفنون ويخترعون أدوات قتل مخيفة خرافية ولا معقولة ويتقاعسون عن إنقاذ إنسان يتوه بين الحدود ويتوه في وطنه حينما تبتلع أوطاننا الحروب. السيد هو الموت، البطل هو الموت الجاني، الموت يكون المنقذ والمنفذ من الألم والتعب، في مكان كهذا وزمان كهذا وأرض كهذه وسماء كهذه.”

تنظر إلى المكنسة، تستخدمها كآلة العود، تحرك أصابعها كأنها تعزف على العود وتعزف.
نسمع مقطوعة عزف عود لمدة دقيقتين.
تهبط بقعة ضوء عليها تقترب من اللون البنفسجي، بينما تعتم بقية جوانب الخشبة وكأن الضوء يدفعنا كجمهور لنسمع هذه المقطوعة ونتفاعل معها روحيًا وبصريًا.
تنتهي من العزف، تستخدم المكنسة كأنها منظارًا لتعيد ربط العناصر الموجودة بالمكان أو كأنها آلة تصوير بلقطة متوسطة، وتبدأ تحريك مكنستها من اليمين حيث التمثال الأول ثم التمثال الأخضر الذي صنعته هي، ثم التمثال الأنثوي الصغير، وتنتهي بمكان وجود الكرسي والمرأة الثانية المشلولة هناك، ثم على نفسها وفي كل حركة كأنها تريد أن تعي وتفهم تفاصيل المكان،تهطل دائرة ضوء أبيض وواضحة على المكان بحيث يتاح لنا كجمهور رؤية وجهة رؤية أفعالها بوضوح.

يحدث تبادل الأدوار أو المصائر، ولكن بوجود المسدس في يد المرأة الثانية يظل مثيرًا للقلق.

تتحرك المرأة الأولى نحو الكرسي المتحرك وتدفعه، وتظل عصا المكنسة بيدها.
تتحرك به يمينًا وشمالًا دون أن تظهر عليها أي ردة فعل توحي بأنها ترى أو تشعر بالمرأة الثانية على الكرسي، وتنهي فعلها بجعل الكرسي في المنتصف. تستمر المرأة الثانية على الكرسي في محاولة التحرر، ولكنها تفشل كأنها أيضًا تخاف من وجود المكنسة بيد المرأة الأولى والمسدس يظل في وضعية التصويب.

تتراقص المرأة الأولى وتصرخ: “بعض اللحظات مؤلمة لكنها تمضي، كل شيء يمضي ويصبح ماضيًا، التاريخ والقوة وحتى العلاقات والعشق، وكل شيء.”

تتقدم المرأة الأولى لتكون أمام الكرسي المتحرك وتستخدم المكنسة كأنها علم أو راية سلام. تهتف: “لترفرف قصائدنا وحكايتنا بحلم العشق والحب والسلام، السلام المفقود في الأرض والسماء. السماء لم تعد نافذة للفرح، وكذلك البحر من هناك يأتي الحريق والموت ويأكل الزهور والورود والياسمين.”

تجف حدائق العشاق والشعراء، وأنا المولعة بالعطر والمنتظرة للعشيق… وعدني أن يكون شاعراً وأن يكتب ولو قصيدة واحدة لي، وتعود عناقاتنا. فقط أن تنتهي الحروب من هنا وهناك. أهو من قذف بي إلى هذا المكان ليعرف إن كنت لا زلت أعشقه؟ نعم.. نعم.. فقط أن تنفذ وعدك وتكون شاعراً لليلة واحدة، لبعض اللحظات.. بعض اللحظات نكون فيها سكارى أوملائكة ونحتاج إلى عناقات دافئة، للرغبة تتدفق وتقودنا للحظات اللذة والفردوس حيث لا تفاحة ولا أفعى، فقط أنهارًا من النبيذ المعتق وخيمًا من الياسمين وسرر مفروشة من الورود والزهور. أحلم أن تأتي وتنتشلني من هذا المكان المخيف، من كل هذا الضياع ولا تظل هناك بالمطبخ تقلي البطاطا واللحم بالزبدة وتضيف بعض الكمون ثم تُعد كوكتيل الفواكة بالخلاطة وتضيف إليه بعض العسل والويسكي.

أم أنك تشرب وتشرب وتشرب، حفظت تلك القصيدة. هنا تستخدم المكنسة كأنها ميكروفون، تبتسم وتتقدم خطوات لتحية الجمهور وترفع رأسها ويديها إلى الأعلى وكأنها تريد إضاءة خاصة لتلقي قصيدة شاعرها، يهطل ضوء بقعة خضراء، تأخذ شهيقًا وزفيرًا، تبدأ لتلقي القصيدة بصوت متعدد الانفعالات: ”

أشربُ وأشربُ وأشربُ
أظن أني شاعر
أوهام مظلمة ليست واقعيّة
لم أكن شاعراً يوماً وربّما لن أكون
وحدها العشيقة تدفعني أن أرتكب هذا الإثم
تنفخ في خيالاتي بعض الصُّور
والشَّوق يجعلني أتمادى
لستُ إلّا طفلاً مجنونًاً
يتخيّل أكثر ممّا يجب
يرى ما لا يجب رؤيته
يرى وجه الموت
رغم ما يلبسه الموت من أقنعه
يسمع خطواته تأتي
تقتربُ
ويده يمدُّها الآن
لا مسافات بين أصابعه ورقبتي
لا خارطة زمانيّة أو مكانيّة لمعرفة بقيّة التَّفاصيل
أريدُ أن أهمس في شفتيها بكلمةِ شوق
ثمَّ تكون عناقات اللّقاء والوداع معاً.

تعتم للحظة وتنتقل بقعة الضوء الأخضر إلى مكان ذلك التمثال الأنثوي الذي صنعته المرأة الثانية، تهمس المرأة الأولى بنبرة يسودها الشك والتساؤل والريبة :ـ

هناك امرأة أخرى تقوم بغسل الصحون وتشغيل هذه المكنسة الكهربائية المزعجة، وهي مصدر للخطر هنا.
صوت المكنسة الكهربائية يجعل المرأة الثانية تصبح مضطربة. أنا لا أراها الآن، لكنني أرى فقط حركة المسدس وأعتقد أنه بيدها. إنها تريد قتلي، أو ربما صوت المكنسة الكهربائية يزيد من جنونها وعنفها. خذي هذه المكنسة وارميها من النافذة أو عطلي طبلون الكهرباء. افعلي شيئًا من أجلي ولا تكتفي بهذه الهذيانات الغير مفهومة.
يشع ضوء لطيف في المكان.
تتقدم عدة خطوات.

هنا نسمعُ المؤثرات الصوتية التي يتكرر سماعها وكأنها تأتي من مطبخ قريب، حيث نسمع بوضوح صوت تدفق الماء من الحنفيات، وحركة غسل الصحون، وصوت سقوط صحن زجاجي وآخر معدني، وصوت القلي بالزيت.
تشعر المرأة الثانية بالذعر وتصرخ: “أنتِ لا تريني.. لا توذيني أرجوك.”
تظل المرأة الأولى تتقدم وهي تحمل المكنسة كأنها رأية أو علم نحو الكرسي المتحرك دون أن تظهر أي فعل يوحي أنها ترى المرأة على الكرسي، ويزداد التوتر مع كل خطوة.
هنا نسمع مؤثر صوتي للمكنسة الكهربائية يعلو ويعلو.
مما يثير المرأة الثانية وتصرخ بقوة: “أوقفوا هذا الضجيج، أوقفوا هذه الفوضى المرعبة.” تكرر العبارة عدة مرات بلهجة تهديدية غاضبة. يكون الضوء كوميض متقطع وممزوج من الألوان الباردة والدافئة، وكأنه صعقات متتالية لا تهدأ. فجأة، يُسمع صوت طلق ناري من المسدس، تتوقف المرأة الأولى، تضع يدها على صدرها وتجعل من عصا المكنسة كعكاز وسند في تحركاتها وتحافظ عليها حتى آخر رمق.
يتملك الرعب المرأة الثانية التي تجلس على الكرسي المتحرك، حيث تعجز عن الكلام.
تترنح المرأة الأولى وتظل تخطو خطوات ضعيفة مستندة على عصا المكنسة دون أن تستدير لنرى الإصابة.

يُصبح الضوء واضحًا وموضوعيًا كأنه يتيح لنا لحظات فرحية دون تشوية أو تشويشات، وكأنها بعض اللحظات المشرقة ترسم وتسير بنا إلى نهاية مؤلمة.

تسقط المرأة على ركبتيها، تحاول السير على ركبتيها وتعجز، تسقط على بطنها، تزحف قليلاً، ويسقط رأسها، تتجمد كجثة. تظل المرأة الثانية على الكرسي المتحرك عاجزة عن الكلام أو الصراخ وتصاب بشلل تام، ويسقط المسدس.
يأتي الظلام الدامس لبضع لحظات.
ثم نجد صعقات ضوئية تضرب المكان بشكل متقطع مع ارتفاع صوت المكنسة الكهربائية.
تتوقف الومضات وبرودتها، ونرى بقعة لونية تتساقط على التماثيل، ثم أخرى تسقط على المرأة الأولى المرمية على الأرض، ثم المرأة الثانية المشلولة والصامتة على الكرسي.
يستمر المشهد هكذا لمدة تقرب من الدقيقة.
تعود صعقات ووميض الضوء، كأنها تُبشِّرنا بحدث جديد لمدة تقرب من الدقيقة.
ضوء عام يميل للزرقة المحمرة، كما لو أننا في وقت الغروب، لمدة دقيقة تقريبا.
ظلمة تامة.
النهاية.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى