ما بين كيقالي والخرطوم، أوجاع و احزان تدوم!
ما بين كيقالي والخرطومْ، أوجاعٌ وأحزانٌ تدومْ!
أ. مجدي مكي المرضي
احتفلت رواندا، في السابع من أبريل من هذا العام، بالذكرى الثلاثين للإبادة الجماعية، والتي راحت ضحيتها أكثر من مليون نفس بريئة، من الرجال والنساء والأطفال، كانوا عرضة للقتل والتنكيل بلا ذنبٍ جنوه أو جرمٍ اقترفوه، ولم يكن في مخيلة أكثرهم تشاؤماً أن يصبحوا يوماً هياكل عظمية وجماجم تُعرض في متحف يزوره الناس من شتى بقاع العالم.
عاشت رواندا أفظع مئة يوم في تاريخها، خلال الفترة من أبريل إلى يوليو 1994م، ولكنها سرعان ما تخطت هذه المأساة الرهيبة، لتودع حقبة الحرب والاقتتال، وذكرى الإبادة وأهوالها، لتبدأ مسيرتها الظافرة نحو السلم والأمن والوفاق الوطني.
سبق السودان رواندا في الانعتاق من ربقة الاستعمار، ولكن رواندا تسير الآن في خُيلاء بين دول القارة السمراء، فهي قد تجاوزت بنجاح أحد أسوأ التجارب الإنسانية في القرن العشرين لتحتل مكان الصدارة من حيث أعلى معدلات النمو الاقتصادي في أفريقيا، بمعدل نمو بلغ 8.2% عام 2023م، وتوقع البنك الدولي أن تشهد الفترة ما بين عامي 2024م و2026م زخماً في نمو الناتج المحلي الإجمالي في رواندا مع متوسط نمو يبلغ 7.2%، بإسهام مقدر من القطاعين الصناعي والسياحي في هذا النمو القوي.
عانت رواندا، كغيرها من دول القارة الأفريقية، من صلف الاستعمار وسياساته البغيضة، حيث تفننت بلجيكا في ممارساتها الاستعمارية البشعة، من خلال استخدام بطاقات هوية على أساس الإنتماء العرقي، مما زاد من الفجوة المجتمعية التي اتسعت بعد ذلك ومهدت الطريق لهذا التناحر والكره الاجتماعي.
أما فرنسا فلم تكن أفضل من جارتها بلجيكا وهي تلعب دوراً قذراً خلال فترة الإبادة الجماعية، ولم تكن “عملية فيروز” التي أطلقتها الحكومة الفرنسية تحت غطاء التدخل الإنساني، إلا إسهاماً مشبوهاً منها في هذه الكارثة، وما زال الأرشيف الفرنسي يخفي الكثير من الأسرار عن دور فرنسا في هذه المأساة، وقد صرح ساركوزي، خلال زيارته لرواندا في العام 2010م، بأن بلاده أخطأت في التقدير ولم تكن تتوقع أن تصير الأمور إلى هذه الدرجة.
صمت المجتمع الدولي خلال فترة الإبادة، ولم تحرك الدول ساكناً، بل تركوا البلاد وأهلها لمصير بشع مجهول على امتداد 100 يوم، تحول فيها الجاني إلى وحش آدمي، يقتل الكبير والصغير، بلا شفقة ولا رحمة، وساعدت بطاقات الهوية التي خلفها الاستعمار البلجيكي في التعرف بسهولة على قومية الأشخاص ومن ثم قتلهم.
سقط في رواندا حوالي مليون قتيل خلال 100 يوم )أي بمعدل 10 ألف قتيل في اليوم الواحد (، بينما لا يُعرف بالتحديد عدد القتلى في السودان، وقد مرت 458 يوماً على الحرب حتى تاريخ 15 يوليو، وما زال الرصاص هو لغة الكلام!
صمت المجتمع الدولي أيضاً عما يحدث في السودان، والحرب في شهرها الخامس عشر، ولكنه ظل يتعطف على أهل السودان، بين الفينة والأخرى، بإصدار بيانات بائسة من منابر أكثر بؤساً، ليؤكد على يقظة الضمير الإنساني الدولي، بينما يموت السودانيون، قتلاً وجوعاً وغبناً، بين كل بيان وآخر.
وبينما توجه الروانديون، يوم الإثنين الموافق 15 يوليو، للإدلاء بأصواتهم في صناديق الاقتراع للانتخابات الرئاسية، وقد أرسوا دعائم الديمقراطية في بلادهم، كان السودانيون يزحفون نحو مناطق آمنة، هرباً من جحيم آلة الحرب، وبحثاً عن الأكل والشرب، ومستقبل بلادهم مرهون بصمت البندقية، وأن يكون هناك وطن أو لا يكون!
وبينما تتعدد المنابر الخارجية وتمتلئ القاعات بالوفود ويتسامر البعض وهم يتناولون ما لذ وطاب من موائد الاجتماعات وكوكتيل المؤتمرات، لا يزال المواطن السوداني المسكين يبحث عن الأمن والأمان بعيداً عن صوت الرصاص وقعقعة السلاح.
لم يستعمل الروانديون عصا موسى لوقف الحرب، ولم يتعنت الفرقاء وهم يشاهدون تلك الأشلاء التي امتلأت بها الطرقات، والدماء التي لطخت الشوارع والبنايات، فكان خيارهم أن تتوقف حمامات الدم أولاً، فكان لهم ما أرادوا.
يعيش السودانيون منذ فجر الاستقلال، في حالة لا وفاق دائم، إذ أن الحروب لم تتوقف إلا بمقدار ما يلتقط المتحاربون أنفاسهم ليعاودوا الاقتتال مرة أخرى، لتجئ حرب 15 أبريل لتدخل البلاد بعدها في نفق مظلم، وتعيش الدولة السودانية أسوأ كوابيسها، فالمعركة وجودية وإدارتها تعني أن تكون الدولة أو لا تكون!
في ظل هذا الفقر السياسي المدقع الذي يعيشه السودان، ينبغي أن يُكتب التاريخُ من جديد!
تبرز الحاجة إلى إبرام عقد إجتماعي جديد تصطف حوله كل مكونات المجتمع بتركيباته المتعددة وتعقيداته المركبة وذلك حتى يستقيم العود والظل معاً!
يحتاج هذا العقد الاجتماعي إلى صيغة جديدة، تخاطب الداخل الإنساني السوداني أولاً ليتخلص من أوهام الذات السودانية السامية، تكون مبرأة من شوائب الماضي وسقطات الحاضر، يتخلى فيها السياسيون عن أنانيتهم البغيضة، ويتناسى فيها السودانيون كل مراراتهم القديمة، التي لن تزول آثارها بالطبع، ولكن لتبقى حبيسة في الدواخل على أمل أن يغسلها الزمن، وأن نعيَ جيداً أن ثمن ذلك هو “الوطن”!
وُلد ثلثا سكان رواندا بعد الإبادة الجماعية، ويتبوأ الآن المناصب القيادية فيها، سواء في الدولة أو في مؤسسات القطاع العام والخاص، ذلك الجيل الذي وُلد في عام المجزرة أو من كان طفلاً حينها، وهم يشكلون الآن المجتمع الرواندي الجديد، لا مكان فيه “لتوتسي” أو “هوتو”، بل “رواندي” يتطلع إلى رؤية بلده تتطور وتنمو وتتقدم.
عندما تتحدث مع فئة الشباب من الروانديين، من عاشوا تلك الحقبة صغاراً، لا تجد في خطابهم مكاناً للكراهية أو الانتقام، بل تحس أنهم قد تجاوزوا تلك المحنة وتكاد تشعر بأنهم لا ينظرون إلى الوراء وإنما يسابقون الزمن لبناء الوطن وإرساء دعائم الدولة. يتحدث معك الرواندي عن تلك الفترة وهو في هدوء تام وسكينة داخلية، وقد ودع العصبية ونبذ القبلية، وصارت رواندا هي القبيلة والوطن معاً.
ينبغي أن يُكتب التاريخُ من جديد!
لا يوجد تاريخ أنصع من بداية تخلق ثورة ديسمبر 2018م المجيدة لكتابة العقد الجديد الذي يمثل مرحلة مفصلية من عمر الدولة السودانية والتي يمثل الشباب عمودها الفقري وسيفها البتار. لن يكون هناك وطن نتقاتل في ترابه، ونحن نكره بعضنا بعضاً، لا لشئ إلا لأن كل واحد فينا لا يقبل الآخر، والآخر لا يملك إلا أن يرد لك الصاع صاعين، وتدور الدائرة!
علينا نبذ الفرقة، والتخلي عن الأنانية، واحترام الآخر، وتجنب الإقصاء، وأن نصيغ عقدنا الاجتماعي الجديد وفي مقدمته مفهوم “العدالة الإنتقالية” حتى يكون القانون هو المرجعية، وليكن الجوهر هو السير في درب الوفاق والمصالحة الوطنية.
في ظل العدالة الانتقالية، لا مجال للإفلات من العقاب، ولكن الباب مفتوح للتسامح والتصالح في سبيل بناء الدولة ونهضة الأمة! يقول ابن خلدون إن الظلم مؤذن بخراب العمران ولكن العدالة تسد الطريق أمام هذا الخراب فيتجه الجميع إلى الإعمار والنهضة!
على الساسة أن يعوا دروس الماضي، وليست رواندا قصة من نسج الخيال، وعليهم أن يتجهوا بأنظارهم نحو المستقبل، فالأيام تمضي والنسيج الاجتماعي يتمزق والوطن يشيخ والدولة تتأرجح!