مقالات كل العرب

من أجل فهم الأبعاد الدولية للحرب في السودان

شارك

من أجل فهم الأبعاد الدولية للحرب في السودان

 

أ. المعز محمد الحسن

 

لماذا أصبحت الحروب في العالم تستمر بلا نهاية؟

للإجابة على هذا السؤال هناك حقيقتان مرتبطتان بتطور النشاط الاقتصادي للعالم، من المهم أخذهما في الاعتبار: 

الحقيقة الأولى هي أن الحروب أصبحت، كما يقولون، تدار بعلم الاقتصاد أكثر من الاستراتيجيات العسكرية. وهذا ليس مستغرباً، إذا سلمنا بأن العالم اليوم تديره المؤسسات والكيانات الاقتصادية بشكل أصبحت معه حكومات أقوى الدول مجرد أدوات لحماية مصالح القوى الاقتصادية المؤثرة في هذه الدول، والسبب ببساطة هو أن النفوذ الاقتصادي صار العامل الأقوى في السياسة الدولية والسلاح الأهم الذي تستخدمه حكومات الدول لفرض نفوذها السياسي في محيطها الإقليمي أو في العالم. 

الحقيقة الثانية مرتبطة بمفهوم مهم وخطير في عالم الاقتصاد والأعمال وهو مفهوم “النمو”. فوجود أية مؤسسة اقتصادية ومقدرتها على اجتذاب رأس المال وعلى المنافسة صار يعتمد بشكل أساسي على قدرتها على النمو المستمر، وبلا توقف، وذلك يعني البحث بشكل دائم عن فرص وأسواق وموارد جديدة. وخلق ذلك جواً تنافسياً حامياً في عالم باتت فيه الموارد والفرص محدودة. 

في ظل تلك الندرة أصبحت الحروب والنزاعات من أهم العوامل المساعدة على خلق فرص جديدة. فالحرب تخلق ديناميكية أشبه بديناميكية الزلزال. فهي تحدث هزة عنيفة تؤدي إلى تغيير مراكز القوة وخلق واقع جديد « new setting » يفرض على بعض اللاعبين الانسحاب و يتيح فرصاً جديدة يتنافس عليها لاعبون جدد في عملية أشبه بإعادة “شك” ورق الكوتشينة، لتنشأ علاقات جديدة من المصالح تعتمد في وجودها على هذا الواقع الجديد الذي فرضته الحرب، والذي يعمل المستفيدون منه بشكل مباشر أو غير مباشر على استمراره. وهكذا يمكن أن نقول، من وجهة نظر اقتصادية، إن ذلك أدى لنشوء نوع جديد من “الطلب” يمكن أن نسميه “الطلب على الحرب”، مثله مثل الطلب على المواد الخام والطلب على رأس المال والطلب على الأيدي العاملة وغير ذلك. يضاف إلى ذلك ما تخلقه الحروب من فرص لسوق السلاح، علما بأن الإنفاق على التسليح وصل لمستوى قياسي خلال السنوات الأخيرة حيث بلغ، حسب إحصاءات البنك الدولي، 2,21 ترليون في عام 2022. وذلك يعادل حوالي 8% من الناتج المحلي الإجمالي للولايات المتحدة ويفوق الناتج المحلي الإجمالي للسودان بأكثر من أربعة وأربعين ضعفاً. ظل هذا الإنفاق يتزايد بشكل مضطرد منذ منتصف القرن الماضي كما يوضح الشكل البياني في الأسفل. ذلك دون الأخذ في الاعتبار العدد الكبير من الصناعات المدنية المرتبطة بالصناعات العسكرية و ما يمثله هذا الانفاق بالنسبة لها من دخل وفرص استثمارية و ما يوفره من وظائف. 

دولة الإمارات هي مثال صارخ لكيفية توظيف الحروب كمصدر لاكتساب النفوذ الاقتصادي واستغلالها لصالح الهيمنة السياسية التي تهدف لاكتساب المزيد من النفوذ الاقتصادي. يتجلى ذلك بشكل واضح في الحرب الروسية الأكرانية، إذ فتحت الإمارات أبوابها للشركات والمؤسسات الاقتصادية الروسية كملاذ آمن مكّن هذه الشركات من الإفلات من الحصار الاقتصادي الذي فرضه الغرب على روسيا. هذا التدفق المالي الجديد كان له تأثير أيضاً على معادلة توازان النفوذ الداخلي في الإمارات التي تتميز بعدم وجود حدود واضحة فيها بين الاستثمارات الحكومية وتلك الخاصة بأفراد الأسرة الحاكمة، إذ أسهمت الاستثمارات الروسية في تقوية النفوذ الاقتصادي لمحمد بن زايد ونجله خالد مقابل أخيه طحنون الذي كان أكبر المستفيدين من التطبيع الاقتصادي مع إسرائيل وفرض نفسه كوسيط لا يمكن للشركات الإسرائيلية تجاوزه. ومن ناحية أخرى تدعم هذه الأموال الروسية نفوذ آل نهيان مقابل غرمائهم آل مكتوم، حكام دبي.

ما يحدث في السودان مرتبط ارتباطاً وثيقاً بذلك، ففاغنر هي إحدى أهم الكيانات الروسية التي اتاحت لها الإمارات الاستفادة من شبكاتها الاقتصادية لتمويل أنشطتها في افريقيا المرتبطة بالتعدين ومبيعات الأسلحة عبر شركات مسجلة بأسماء وهمية في الإمارات. وهي نفس الشركات التي أمنت تدفق التمويل والدعم العسكري لقوات الدعم السريع. وقد يستغرب البعض أن تجرؤ الإمارات على تحدي المصالح الأمريكية والغربية، وهي التي تعتبر في نفس الوقت أهم حليف للولايات المتحدة في المنطقة. الحقيقية أن الإمارات، التي كانت حتى وقت قريب، دولة ضعيفة تستقوي بالوصاية الأمريكية، استطاعت عبر توظيف المصالح الاقتصادية بذكاء أن تتحول إلى قوة مؤثرة على مراكز اتخاذ القرار لمن كانوا في السابق أوصياء عليها. فإذا أخذنا على سبيل المثال القارة الأفريقية سنجد أن الإمارات تمثل أكبر مستثمر أجنبي فيها بحجم بلغ أكثر من 44 بليون دولار في عام 2023، في حين بلغت استثمارات الصين وهي في المركز الثاني حوالي 26 بليون دولار. وقد يبدو من غير المفهوم أن تقف القوى الاقتصادية الكبرى عاجزة عن منافسة هذا النهم الاستثماري الإماراتي في أفريقيا. في الواقع أن هذه الاستثمارات الهائلة تتقاطع فيها مصالح لاعبين دوليين كبار. فقد استطاعت الإمارات أن تجعل من أبي ظبي مركزاً لمجموعة متداخلة من الشبكات الاقتصادية عبر شراكات متعددة مع كيانات اقتصادية كبرى لتكتسب، عبر هذه الشراكات، نفوذاً اقتصادياً قوياً يمكنها من توفير الحماية لنفس هؤلاء الشركاء. وبالمقابل يعمل هؤلاء الشركاء كمجموعات ضغط، أو لوبي، على حكومات الدول العظمى لتوفير الحماية السياسية للإمارات. بمعنى آخر، أصبح المساس بالمصالح الإماراتية يمثل تهديداً لشركاء الإمارات الدوليين. وهذا ما يفسر التراخي الأمريكي تجاه التعاون الإماراتي الروسي وتجاه دورها في تمويل الحرب في السودان، وأيضاً رضوخ بريطانيا للابتزاز الإماراتي والدور الفاعل الذي قامت به للحيلولة دون إدانة التدخل الإماراتي في السودان من قبل مجلس الأمن، بمجرد قيام الإمارات بإلغاء اجتماعات وزارية متعلقة بمشاريع مهمة بين البلدين.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى