القفز الى المجهول: لماذا قرر الرئيس الفرنسي حل البرلمان قبل ميعاده؟
القفز إلى المجهول
لماذا قرر الرئيس الفرنسي حل البرلمان قبل ميعاده؟
د. محمد بن أحمد المرواني
في خضم الوضع السياسي المتأزم والاقتصادي المتردي، شهدت فرنسا خطوة متطورة و جريئة ومفاجئة عندما قرر الرئيس إيمانويل ماكرون حل البرلمان قبل انتهاء ولايته. هذا القرار أثار جدلاً واسعاً وتساؤلات عديدة حول دوافعه وتبعاته.
لفهم هذا القرار، يجب العودة إلى بعض الأحداث الأساسية التي قادت إلى هذه اللحظة الحرجة.
الانتخابات الرئاسية لعام 2022
في أبريل 2022، وجد الرئيس إيمانويل ماكرون نفسه في الجولة الثانية من الانتخابات الرئاسية أمام مرشحة اليمين المتطرف، مارين لوبان. كانت هذه الانتخابات مصيرية للشعب الفرنسي، حيث عمل الرئيس ماكرون و حزبه من اجل حشد الدعم الشعبي عبر استغلال خوف الناخبين من سياسات اليمين المتطرف.
لجأ ماكرون إلى قواعد متنوعة من الناخبين، بما في ذلك الجاليات العربية والإسلامية واليساريين و الطبقات المهمشه ، بهدف منع فوز لوبان و ذلك بخيار بين التجديد لماكرون او اليمين المتطرف سيحكم فرنسا بسياساته المرفوضة من غالبية أبناء المهاجرين و اليسار و ألمتبقون من أبناء الأفكار الثورة الفرنسية التي تتخذ شعارات المساواة، الحرية،الأخوة.
تمكنت حملة ماكرون من تحقيق الفوز رغم الاستياء الشعبي الكبير من سياساته الاقتصادية، التي أدت إلى تراجع الأوضاع الاقتصادية في البلاد وزيادة معدلات البطالة. حيث كان الاقتصاد الفرنسي يعاني من تداعيات جائحة كورونا، وأثرت السياسات التقشفية على شعبية ماكرون بشكل كبير و اتهامه بمحابات الاثرياء و اصحاب رؤوس الاموال الكبيرة على حساب الطبقة المتوسطة. ومع ذلك، بفضل دعم الناخبين المناهضين لليمين المتطرف، تمكن ماكرون من تحقيق انتصار صعب من خلال استغلال الوضع السياسي المعقد و تبعات الخوف من اليمين المتطرف رغم ازدياد نسبة المؤيدين لهذا التيار،
الانتخابات البرلمانية الأوروبية لعام 2024
في يونيو 2024، جرت الانتخابات البرلمانية الأوروبية، وكانت النتائج غير متوقعة وصادمة للشعب الفرنسي و للرئيس ماكرون و دارت نقاشات و حوارات كثيرة حول هذه النتائج في جميع الاوساط الاعلامية و السياسية الفرنسية . حيث حقق الحزب ا اليميني المتطرف بقيادة مارين لوبان فوزاً كبيراً، حيث حصل على 28 مقعداً من أصل 79 مقعداً هي مجموع المقاعد المخصصة للنواب الفرنسيين في البرلمان الأوروبي. أثارت هذه النتائج علامات استفهام واسعة حول مستقبل السياسة الفرنسية وتوجهاتها.
الفرصة و الاستغلال
أدرك ماكرون أن هذه النتائج تعكس تحولاً في المزاج الشعبي نحو اليمين المتطرف، مما دفعه إلى اتخاذ خطوة جريئة بحل البرلمان. اعتقد ماكرون أنه بإمكانه تكرار سيناريو الانتخابات الرئاسية، حيث نجح في توجيه الناخبين للاختيار بينه وبين مرشحة اليمين المتطرف. كانت استراتيجيته تعتمد على استغلال الخوف من اليمين المتطرف لضمان تأييد الناخبين لحزبه مرة أخرى.
حل البرلمان والدعوة لانتخابات جديدة
في يوليو 2024، أعلن ماكرون حل البرلمان ودعوة لانتخابات برلمانية جديدة. استند في قراره إلى صلاحياته الدستورية كرئيس للجمهورية، معتقداً أن هذه الخطوة ستعزز موقفه السياسي وتضمن له الأغلبية البرلمانية التي يحتاجها لمواصلة تنفيذ سياساته.
كانت حسابات ماكرون تعتمد على تشتت قوى احزاب اليسار والخضر و غيرهم من الاحزاب الصغيرة، وغياب زعامات قوية قادرة على تحدي حزبه فقرر اقتناص الفرصة لتكرار سيناريو الانتخابات الرئاسية.
نتائج غير متوقعة وتحالف احزاب اليسار والخضر
في الانتخابات البرلمانية الاخيرة جاءت النتائج مفاجئة وصادمة للرئيس ماكرون. استطاعت احزاب اليسار والخضر توحيد صفوفهم وتشكيل كتلة انتخابية موحدة، مما جعلهم قوة لا يستهان بها في الساحة السياسية. في المرحلة الأولى من الانتخابات، حصلت قوى اليمين المتطرف على عدد من المقاعد، بينما حصل حزب ماكرون وبعض الأحزاب اليسارية على مقاعد أخرى قليلة.
لكن المفاجأة الكبرى كانت في المرحلة الثانية من الانتخابات، حيث تحالفت الأحزاب اليسارية والخضر و تقدموا بدعوة إلى حزب الرئيس لدعم مرشحيها وضمان منع فوز مرشحي اليمين المتطرف من خلال فكرة انسحاب المرشح ذو الترتيب الثالث لمنع تشرذم الاصوات المناهضة لليمين المتطرف و توحيد الصفوف.
هذا التحالف غير المتوقع قلب الطاولة على ماكرون وحزبه رغم انه لم يجد بدا من الاخذ بمبادرة احزاب اليسار لاقصاء مرشحي اليمين المتطرف، حيث فقد حزب الرئيس الأغلبية البرلمانية البسيطة التي كان يتمتع بها و خسر الغالبية البرلمانية التي يحلم بها و كان بعول عليها الرئيس لادارة البلاد وفقا لرؤيته الخاصة.
التحديات الجديدة أمام ماكرون
بعد هذه النتائج، وجد ماكرون نفسه في وضع صعب. فقد حزب الرئيس أغلبيته البسيطة في البرلمان، وأصبحت الكتلة اليسارية هي الكتلة الأكبر.
هذا الوضع السياسي الجديد يعني أن ماكرون سيضطر للتعايش مع حكومة ليست من نسيج حزبه، مما يعقد قدرته على تنفيذ سياساته وبرامجه.
تظهر هذه الأحداث أن قرار حل البرلمان كان بمثابة قفزة إلى المجهول، حيث أدت الحسابات الخاطئة إلى وضع سياسي متأزم. كما ان عدم قدرة ماكرون على تشكيل حكومة ذات أغلبية مطلقة أو حتى نسبية يعكس مدى تعقيد المشهد السياسي في فرنسا اليوم.
تحليل النتائج والدروس المستفادة
من خلال تحليل هذه الأحداث، يمكن استخلاص بعض الدروس المهمة. أولاً، أظهرت الانتخابات صعود اليمين المتطرف وقوته المتزايدة، لكنها أيضًا أكدت على عدم الرضا الكبير عن أداء ماكرون وسياساته الاقتصادية من قبل الشعب الفرنسي، الذي كان يأمل في التغيير والتحسن الاقتصادي، و الذي لم يجد في سياسات ماكرون الحلول المطلوبة.
ثانيًا، أظهرت النتائج أن التحالفات السياسية يمكن أن تكون فعالة في تغيير مسار الانتخابات.
اتحاد الأحزاب اليسارية والخضر كان خطوة ذكية نجحت في تحدي سيطرة ماكرون وحزبه على البرلمان. هذا التحالف غير المتوقع أدى إلى نتائج غير متوقعة، وأظهر أن الوحدة بين القوى السياسية المختلفة يمكن أن تكون قوة مؤثرة في الساحة السياسية.
و في الخاتمة
تكشف هذه الأحداث عن تعقيدات السياسة الفرنسية وعن التحديات الكبيرة التي تواجهها الحكومات في الحفاظ على الاستقرار السياسي. إن قرارات مثل حل البرلمان تحتاج إلى تفكير عميق وتخطيط دقيق، وإلا فإنها قد تؤدي إلى نتائج عكسية. سيكون على ماكرون الآن العمل على إعادة بناء الثقة وتحقيق الاستقرار في فترة ولايته المتبقية من خلال تعاونه مع حكومة ليست من طيفه السياسي و هو ان لم بحصل سيدخل البلاد في ازمة سياسية جديدة.
في النهاية، يجب على الرئيس الفرنسي أن يتعلم من هذه التجربة وأن يسعى لتوحيد الصفوف وتحقيق التوافق الوطني.
التحديات الاقتصادية والسياسية التي تواجهها فرنسا تتطلب قيادة قوية وحكيمة قادرة على تحقيق التوازن بين مختلف القوى السياسية وضمان مستقبل أفضل للبلاد. و هو ما لا يراه كثير من الفرنسين في شخص الرئيس امانويل ماكرون الذي قفز إلى المجهول من خلال حله للبرلمان بشكل مفاجيء .