في رحاب روضة الشعر
في رحاب روضة الشعر
أ. بكري حسين عبيد
رجع النواعير الشجية
والرعاة العائدين عشية
هزم التحفز فيك
فأنكسرت قناتك وانثنيت
الأبيات الشعرية أعلاه للشاعرة والأديبة أميرة الشعراء، روضة الحاج في ثنايا قصيدتها الدّوار، قرأت هذه الأبيات مرات عديدة ووقفت عندها طويلاً متأملاً تارةً ومستغرباً ومتأثراً بها تارةً أخرى،فقد حتشدت كثيراً من المعاني والصور البيانية في هذه الأبيات،بل تعدى الأمر إلى أكثر من ذلك إلى صورة حية تلامس الوجدان . روضة التي لا تحتاج إلى تعريف، كانت ولازالت شامة في جيلها المثقف المستنير والمتحضّر جيل القراءة والتنوير، كانت علامةً فارقةً في تاريخ الأدب السوداني المعاصر، دراسة وحفظا ،نصاً وبيتاً شعريا وكلمة قوية، حيث قادته مع من قاده إلى مصاف العالمية، وأثرت الساحة الأدبية بروائع القصيد . أفضل ما يمكن قوله عن شعرها أنه قوى المعنى، رقيق اللفظ بليغ الصورة وفصيح المفردة ،وعذب الموسيقى.قادت روضة الحركة الأدبية النسوية في السودان فتركت بصمة واضحة ومكانة رفيعة ومرموقة لا تقبل المقارنة من حيث الشكل أو المضمون.
تأثرت روضة بمجتمعها الذى استمدت منه بساطة شعرها وسلاسته وسهولة معانيه و تفاعلت في معظم قصائدها مع قضايا مجتمعها ومحيطها العربي، ما أكسب شعرها الأصالة والتفرد مع مواكبته لقضايا العصر . يقول الدكتور سعد العاقب :(مما يُحمد لروضة أنها اجتنبت اللغة التي تدور هذه الأيام بين أدعياء الحداثة والتجديد، تلك اللغة التي تتعمّد الإغتراب والغموض فتحول بين القارئ والنص.) إذاً فإن روضة اختارت لنفسها مساراً جديداً محصناً بالمعرفة ومزودا بفنون وأدوات الشعر . حيث اتخذت السهولة باباً ولجت منه إلى عوالم الشعر الأمر الذي جعل شعرها يطوف السودان والعالم العربي في وقت قصير .ثم ان من دلالات جودة لغتها ، تزيّن قصائدها بالكنايات والإقتباس وغيرهما من الصور البلاغية الأخرى،وكل ذلك يدل على تأثرها بالتراث الأدبي العربي القديم، اذ ظهر ذلك واضحا في معظم قصائدها.
وفي تناولها لبعض القضايا الإجتماعية استخدمت الشاعرة اسلوب الإشارة غير المباشرة او عن طريق الترميز الخفي خاصة عند تناولها لموضوع العلاقة بين الرجل والمرأة في المجتمع السوداني ثم موضوعات الحزن والفراق والحب والوداع الذي قالت فيه:
وغداً تسافر كالمساء
واظل وحدي للصقيع وللشتاء
اواه لو تدرى صديق العمر كيف غداً اكون
والناس حولي يضحكون ويمرحون
وحدي مع الأشواق أبقى والشجون
كلمات معبرة وصادقة تصف الحال عند الوداع وليس أصعب من وداع الأصدقاء ولم تقف شاعرتنا عند الوداع فقط بل تطرح الكثير من التساؤلات عن الحال بعد الرحيل والوداع فتواصل بقولها:
تمضى غداً واظل وحدى كالغريق
تتشابه الاشياء عندي
والمرائي والطريق
قل لي بربك سيدي
من لي اذا جاء المطر
من لي اذاعبس الشتاء
او اكفهر
وكثير من القضايا التي عبرت عنها بصدق في ووصف دقيق وسهولة من دون ركاكة في الصوغ والمعنى.
لم تخلو قصائدها من ملامح العامية السودانية من اقتباس وأمثال وحكم الأمر الذي أكسب شعرها بريقاً والقاً وتفرداً.
قالت آميرة الشعراء في هذا
عندما يشدو المغني
فالصباح الباهي لونك
انت لن تأتي إلي
ومغني الحب مات
علاوة على القضايا التي حواها شعرها فإن قسما كبيرا منه ركزت فيه على موضوعات تخص المرأة أمُ كانت ام حبيبةً لذلك جاءت بعض القصائد من شعرها أنثى مشتاقة تبحث عن الحب وعن نصفها الآخر وتسافر في ترحال مستمر في رحلة الأشواق فتقول روضة في قصيدة مدن المنافي:
وأحتجتُ أن ألقاك
حين تربع الشوق المسافر وإستراح
وطفقتُ أبحث عنك
في مدن المنافي السافرات
بلا جناح
كان إحتياجي ..
أن تضمخ حوليَ الأرجاءَ
يا عطراً يزاور في الصباح
كان إحتياجي .. أن تجيءَ إليَّ مسبحة ً
تخفف وطأة الترحال ..
إن جاء الرواح
واحتجتُ صوتك كالنشيد
يهز أشجاني ..ويمنحني جواز الإرتياح
وعجبتُ كيف يكون ترحالي
لربعٍ بعد ربعك
في زمانٍ .. ياربيع العمر لاح !
اخذت هذه القضية مساحة واسعة واعتباراً واضحاً من الشاعرة لأهميتها وأثرها وتأثيرها على فئة مهمة في مجتمع سمته المحافظة على العادات والتقاليد بل تقديسها وتجريم كل من يحاول تجاوزها.
تواصل روضة في اقتراض القصيد في بوح العبير وجزالة التعبير في ذات السياق وتكتب :
أسرجتَ أنتَ رواحلَ الإيناسِ
والفرحِ الجديد
وحملتَ زادك روعةَ العمرِ الذي
قد كنتَ أنتَ ربيعَه
وتجلُّدَ القلبِ العميد
صادرتَ مقدرتِي على النسيانِ
حينَ سكنتَ ذاكرتي
وبتَّ إليَّ أقربَ يا ربيعَ العُمرِ
من حبلِ الوريد
قامت روضة الحاج بدور كبير في المجال الثقافي في السودان بأفرعه المختلفة نظماً للقصيد ومشاركة في المنابر الأدبية والثقافية المحلية والإقليمية والعالمية، نشراً ورقياً ورقمياً فكانت تقود تحرير مجلة السمراء وتقدم البرامج الإذاعية والتلفزيونية حتى عبرت إلى فضاء العُلا ، فكان دورها ظاهراً من خلف جيلها من الشعراء والشاعرات والمهتمين بالشأن الثقافي وعلى بقية الأجيال. يقول النقّاد عنها انها أعادت ذكريات شعراء مثل بدر شاكر السياب و نازك الملائكة وآخرين،أهدت روضة المجتمع السوداني بردة آمير الشعراء وجعلت من بلدها روضة غناء من رياض الأدب والثقافة والفنون.
دبلوماسي- سفارة السودان باريس