مقالات كل العرب

“هل ابقى على قيد الحياة.. ريشتي”

شارك

“هل أبقى على قيد الحياة .. ريشتي”

 


د. تهاني رفعت بشارات

الريشة التي كنت أرسم بها منزلنا الجميل المطل على نهر شديد الزرقة، والذي استمد لونه من السماء الصافية، كانت تلتقط جمال التلة الخضراء المرصعة بالنجوم، والغنم المنتشرة، وقن الدجاج، والراعي السعيد الذي كان يملأه نشوة الطبيعة. هي نفسها الريشة التي أصبحت أرسم بها بقع الدم الحمراء على لوحة بيضاء نقية. لم أعد قادرة على ممارسة هواية الرسم التي سلبتني طفولتي وأنا أتصور ألوان الحياة البهيجة، حتى واجهت الحقيقة المرة حيث اللون الأحمر يلطخ كل شيء، حتى الطفولة أصبحت ملطخة بهذا اللون البغيض.

إلى أي مدى أصبحت الإنسانية مبتذلة؟ كيف يمكن لطفل أن يولد إلى حياة مملوءة بالمعاناة دون أن يسمع صرخات والدته الأولى؟ هل يبكي لأنه لا يريد الحياة التي ملأتها الويلات؟ أم أنه يبكي لأن أمه لم تحتضنه بعد؟ الإنسانية تُزهَق كذبا أمام أعين الجميع، ويستنزف منها كل بريء حتى أصبحت على شفا الانقراض.

رأسي مثقل بالصراخ والآلام التي أسمعها بوضوح. أنا أعيش معها الآن؛ فهي تلاحقني في كل لحظة. لا كهرباء ولا وسيلة لمعرفة ما يحدث. أنا الآن أزف كل الأخبار من قلب اللعبة، إنها حقًا تشبه إحدى الألعاب اللعينة التي صممت لتوثيق أيديولوجية الدم. لم أكن أعتقد أنني سأكون جزءًا من تاريخ يُكتب للأجيال القادمة، أو أن أكون شخصية تُجسد في عمل درامي يُعرض على القنوات الفضائية بهدف الربح أو لاستدرار تعاطف أصحاب الضمائر الحية. هل ستبكيهم قصتي؟ أم أن الموسيقى الحزينة المناسبة للموقف هي التي ستجعلهم يبكون؟

كان الليل دائمًا ملاذي الوحيد، حيث أتنفس رائحة الحياة، وأطلق أمانيَّ إلى الفضاء، ظننت أنها لن تعود أبدًا. أحببت الليل وأنا أراقب القمر في السماء يتحرك مع نظراتي، ويتوقف عندما تتجمد عيني، كان القمر وقتها كاملاً كجنين على وشك الولادة. هل اختفى القمر حقًا؟ لم أعد أجرؤ على النظر إلى السماء، حيث تحجبها آلاف القنابل والصواريخ التي تنير عتمتنا قبل أن ننطفئ نهائيًا. أقبع في ظلمة يحيطها سواد عميق، ورائحة الموت تحاصرني ولا مثيل لها. هنا نتحسس الموت بالرائحة لا بالنظر.

كانت العائلة تجتمع حول طاولة الطعام، نتبادل القصص والضحكات المليئة بالألم، متجاهلين الجوع أو نقص الكهرباء بسبب قلة الوقود. تلك كانت اللحظات التي تجمعنا كأسرة. والآن، في ظل هذه الهمجية البغيضة، أصبحنا أكثر إصرارًا على هذه اللحظات، وأكثر تمسكًا ببعضنا البعض. لقد أصبحنا جسرا واحدا نحو الموت أو الحياة. الحياة أصبحت ضيقة وشحيحة الأمل، ونورها لم يعد مبعثا للطمأنينة، وكأنها تعمل بالطاقة المتجددة التي يديرها المتآمرون على حقنا في العيش. باتت بوارق الأمل مظلمة لا تحمل سوى السواد القاتم، ولم يعد الموت يخيفنا كما كانت النجاة. النجاة من الموت أصبحت موتًا آخر، كأننا نعيش ألف مرة لنموت ألف مرة أخرى.

الخسارة هي الكابوس الوحيد الذي يسيطر على أجسادنا. كل الذكريات تعود إلينا نابضة بالحياة، نعم، عدت طفلة رغم بلوغي الثلاثين، ألاحق رائحة أمي، أمسك بطرف ثوبها، وأتوق إلى صوت أبي الذي أتتبعه بين أصوات الموت القريبة منا. أصبحنا أكثر تشبثًا ببعضنا البعض، ربما لا أعيش فقدانهم الذي أخشاه طوال حياتي.

لم يعد الموت يخيفني، كيف أخاف من شيء يحتضنني أينما ذهبت؟ أصبح الأمان الذي نبحث عنه جميعًا عدلًا إلهيًا، وثقتنا به أصبحت مطلقة. كنا نريد حياة كريمة، والآن نحن في حضرة الموت نبتعد عن الحياة شيئًا فشيئًا. ما يؤلمني في كل هذا هو الخوف من فقدان عائلتي.

الطيور الآن تهاجر السماء، حتى طائر البوم الذي كان يعد طائر الشؤم، لم يعد نعيقه يطربني. ألم يقولوا إنه يبشر بالموت؟ لماذا لا ينعق إذن؟ لقد زيفوا حقيقتك يا بومة. تعالي هنا لكي أستمتع بصوتك من جديد، فأنت الآن بشارة للحياة.

الانتظار هو أبشع صور الموت، كل شيء من حولي يبشرني بالنهاية، الأصوات تتعالى من كل حدب وصوب، نستمع لصوت أثره مجهول. بعد كل دوي انفجار، نتحسس أجسادنا، فقد فقدنا أبسط الأشياء اقتناء، تلك المرآة التي كانت تزين غرفتي لم تعد موجودة، وغرفتي لم تعد على الخريطة. أصبح خيالنا مرآتنا، لو علمت ذلك لتحسست جسدي مليًا؛ علني لا أجهل عدد الندبات والخدوش فلا أظنها حديثة المولد. بتنا نلملم بعضنا بعد كل هجوم بربري حاقد، أصبحنا أشلاء من الداخل، ليس خوفًا من النهاية التي باتت وشيكة، بل خوفًا من الفقد اللعين.

ليلنا الآن لم يعد حالكًا ولم يعد السواد سيد الليل وذروته، صار أحمرًا كاحمرار الشمس عند باب البحر ساعة الغروب. هنا تستحضرني قصة يوشع بن نون، ألم تحبس الشمس له كي يكمل معركته؟ هل هي معجزة أخرى؟ هل هي إشارة للانتصار وزوال الظلم؟ هل فينا يوشع بن نون؟ كيف هذا والمعجزات لا تتكرر؟ أرى الليل أحمرًا فأتذكر أنها النار التي تشتعل في أجسادنا وتلتهم كل ما حولها، دون حول لنا ولا قوة إلا بالله العظيم الذي لا تضيع عنده الودائع.

رأسي الآن مشوش بالتساؤلات، كم من علامات الاستفهام تحاصر عقلي، والضجيج فيه يكاد يفصل رأسي عن جسدي. نحن الآن في رحلة بحث عن مأوى جديد، أمسك بيد ابنة أخي الصغرى وأسير بين أفراد عائلتي. عيناي تلاحق أعدادهم لا خطواتهم، أصبحت أعدهم فردًا فردًا وأنا التي لم أحب حصة الرياضيات يومًا. لم أعد أشعر برغبة في الحياة، أشعر كأنني نسيتها ترتع خلفي بين أكوام البيوت المهدمة، أو أنها اختنقت تحت سقف قد انهار من قصف أعمى وسيعلن عن استشهادها في الصباح الباكر. كل ما في الأمر أنني أخاف العيش دون عائلتي، لا يهمني موتي بقدر ما يهمني مصير عائلتي، ليتني أستطيع أن أخبئهم في جوف قلبي. ثم أتوقف قليلاً في جوف قلبي؟ حتى القلوب لم تسلم من نارهم، كم من القلوب وجدت خارجة من صدور ساكنيها؟ حتى القلوب لم تعد مكانًا آمنًا. تخيلوا أن قلوبنا أصبحت مهددة كما بيوتنا، إلى أين الملجأ والمفر حتى تظل عائلتي على قيد الحياة لعل الله يحدث بعد ذلك أمرًا.

ليتني أستدل على مكان قبري، ليتني أعرفه لأهرب إليه أتحسس التربة التي ستواريني جسدًا أو أشلاءً، فأنا لست متأكدة من شكلي النهائي بعد. أختبره إن كان هو أيضًا سيخذلني. الكون كله خذلنا، كل ما فيه، بيوتنا التي أحببناها خذلتنا فانهارت فوق رؤوسنا، والليل الذي أحببنا خذلنا فصار ويلا. هل سيخذلني قبري أيضًا؟ هل سيتبقى مكان لي؟ لن أحتاج أكثر من مئة وستين سنتيمترًا لأرقد في ضيافة الرحمن آمنة مطمئنة.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى