كل الثقافة

خماسية لوحة جدارية

قصة قصيرة 4 - مخبر

شارك

خماسية لوحة جدارية

قصة قصيرة
4 _ مخبر

أ. حمزه أبوخالد

ما أن بدأ المدرس فتحعلي آخوند زاده بدفع هيكله المدحدح المحمول على ساقيه وردفيه المترهلين الهزيلين بقرعته الملساء وعينيه الغائرتين خلف نظارته المدورة، المثقلة بعدستين سميكتين وقد انكسرت هيبته، وهو يولول ويعربد ويهدد حينما هم بالخروج من الصف،
حتى هب زميلهم عبد مسرعاً دافعاً زميليه المحشورين معه خارج الكرسي المدرسي الخشبي والواحد المشترك لأثنين، مقدماً وفاتحاً قدميه الواحدة تلوى الآخرى إلى الحد الأقصى على الأرض بحماس ليختصر المسافة
نحو طاولة المدرس بقامتهِ المختلة التناسب، ولما وصل حمل العصا وبسرعة أنهكت قدميه، سار نحو المدرس وناوله عصاه ثم رجع ورأسه يتدلى نحو رقبته كالبندول يميناً ويساراً بابتسامتة التي يستلطف به الآخرون دائماً، دون أن يركز عينيه في عين احد بصوتٍ ظل محشرجاً لم يكن مفهوماً وقد علق مكبوتاً مخنوقاً على شفتيه ثم خرج هذا الصوت الذليل معاتباً يردد ويكرر :
خطيّه المدرس.. عيب٠٠٠
خطيّه٠٠عيب ٠٠٠
حتى جلس في مكانه ٠
لحظات بعدها حل في الصف الهدوء والإرتياح وانطلق في أجوائه ألفرح عرساً وسط حرية لا تعرف مثيلاً لها إلا في مراسم لحظات موت شيوخ الغجر ، فهذا الذي يدفع ويفرغ زفير صدره المكبوت بالصراخ وذاك الذي يدبك على الأرض و فوق المقاعد الخشبية مردداً اهازيج محلية حماسيه (هوسات) وآخر يلعن ٠٠٠
جمع من الشبيبة تبلور فجأة متحداً يغمره السرور كأنه على ضفاف نهر كارون يوم كان عظيماً ويشهد نجاة غريق، ثم راح هذا الجمع منسجماً في خلق الإيقاعات العفوية الأيادي ضربا” على الخشب و الأصوات في الأغاني و الأناشيد تتعالى ، لقد تضامن الكل وانشرح باجواء مفرحة دفعة واحدة. فشكل عدا نفرٌ قليل ممن معهم ومنهم زميلهم الخجول المبتسم دائماً والمميز بهيكله العظيم الطويل والقصير من السرة حتى أخمص القدمين بقي جالساً في الصف الأمامي بابتسامته الثابته وهندامه المختلف ٠٠٠
فرقة فنية متعددة الفعاليات فجرت كرنفالية بهيجة كأنه خُطط لها و اختيرت فعاليتها من قبل٠٠ كلمات أغانيها وأصواتها الجميلة، ايقاعات رقصها كانت تثلج الصدور ..
علت الأصوات متحدة بماجد و هو يغني مقاطع من قارئة الفنجان للمطرب عبدالحليم حافظ وكلمات نزار قباني :

_ وبرغم الحزن الساكن فينا ليل نهار…

_ وبرغم الريح .. وبرغم الجو الماطر والإعصار…

_ الحب سيبقى يا ولدي…

_ احلى الأقدار…

وبينما كان البعض منغمراً هائجاً بالأهازيج المحليةالأهوازية والدبكات ، عاد البعض الآخر ليندمج مع ماجد باغنية أخرى وهذه المرة لكاظم الساهر بأعلى صوت:

_ زيديني عشقاً زيديني..

– يا احلى نوبات جنوني…

_ زيديني غرقاً يا سيدتي…

_ إن البحر يناديني…

_ زيديني موتاً…

_ علّ الموت اذا يقتلني يحييني…

احسوا وسط هذا الجو الحماسي المفرح كأنهم يحيون احلى احتفالاً للنصر
او إنهم غرقوا وسط جو صوفي طليق لأول مرةٍ… فراحوا كأنهم يلعبون ويمرحون ببهجةً في حدائق خالية من الوحوش البشرية، أو من القطيع الوحشي المتمترس خلف الزمر المالية الكبرى والأعظم هنا وهناك وغيرهم من الفائزين بأوراق صناديق العصر والمعروضين في واجهات الاعلام والسياسة . . وكأنهم انتقلو الى أجمل من حدائق أوربا محط افتخار ساسة الغرب تلك التي سكنتها منذ البدء، أنياب الإبادة والتمييز المفترسة تحت يافطة الحضارة والتنوير وتربعتها ملوك ديموقراطياتهم لتستثمر العبيد القادمة إليها من كل البقاع والأطياف و الألوان..
الكل راح تدفعه اعماقه بنسق عفوي يتحرك نحو مركز جاذبية ليشكل دائرة ضيقة يتمركز فيها ماجد وجليل ، لقد هب الجمیع ليعبر عن تقديره لجلیل عن شجاعته عن تضامنه معه ، هذا الذي كسر طوق الأسر والذل بجسارته بعد الوقوف المذل الذي امر به المدرس فتح علي عقاباً منذ بداية الحصة إلى قريب من منتصف وقت الحصة .
دقائق ثم استمر عدد من التلاميذ يشدهم العزم متحمسين لإكمال ما لم ينجز، و بسرعة يسابقون فيه الزمن، فأخرجوا عدتهم وأقلامهم الملونة من حقائبهم يتقدمهم خطاط ماهر، ثم أسندوا بعض الرحال الخشبية المهترئة التي أكل عليها الزمان و شرب فوق بعضها للإقتراب إلى نهاية الجدار القريب من السقف. وهناك من اليمين حيث الباب فوق محل جلوس زميلهم العظيم الجذع الذي انتقل و تجمد في مكان آخر يرافقه سكوته المبهم ٠٠
هناك فوق الأرضية السوداء للّوحة بدأوا يخطون بيتاً من الشعر العربي على عجل لشاعر اهوازي مجهول لم يسمح الوقت بكتابته يوم امس
وحينما باشروا بخط كلمات الشعر في اعلى الجدار احسوا كإنما هم لازالوا في تجربتهم الفنية الساخرةَ التي بدأت يوم امس بأقلام عفوية متزاحمة ومتحدةٍ تتدفق بالوان الرصاص والفحم، سكرى على امواج الألم ثم تتداخلُ وتندمج في وحدة واحدة لتخلق تكويناً فنياً فريداً معبئاً بالجراح والآمال…
تجربة جاءت بعد يومٍ واحدٍ من الضرب والتنكيل بزميلهم جليل من قبل آخوند زاده حيث اخذت وقتاً كثيراً وطاقةً كبيرةً، فكان فيها من رسم الخط ما هو مميزٌ وجميلٌ لوحة لتجربة حملت عباراتا” ذهبية” قصیرة” ، ربما لم يتطرق إليها فيلسوف او لم تأتِ على لسان روائي كبيرٍ، و الرسومُ الكاريكاتوريةُ البسيطةُ والنابعةُ من ألأعماقِ كانت تثيرُ المشاعر وتفضح الكراهيةَ الغارقة بالتميز العنصري تحت يافطة
النازية القومية المفضوحة المتفردة بالسلطة لا بل بكل شئ و في النهاية بعناصرها فراداً او جماعاً تدعو إلى الحب والسلام ، إنها كانت تجمعُ بين ألأحلام ورفض الظلم..
بل كانت تحاكي؛ جداريات الغرف الصغيرة جداً ذات الجدران السمكية والقوية الحالكة الظلام و ما أكثرها في أرجاء المعمورة، التي تصرخ فيها الآلام والآمال معاً..و تختنق هناك ٠٠٠ كالتي يتركها سجناء الرأي في الزنزانات ألأنفرادية منذ دخولهم الصمت والعتمة إرثاً للاجیال. هذا الذي تراكم منها الكثير والعدید على فوق البعض لتصلنا لوحات رمزية يصعب على بیكاسو وفانكوك وغيرهم من عظماء الفن تفكيك اجزائها غير آن سوادها يبقى معبراً ويترك تكويناً واقعياً فنياً رائعاً وصارخاً تجسد صورةً وثائقيةً عميقة ذات كثافة عالية لحقبة من التمرد و الإنتفاضات المذبوحة..

هذا كان بعد ليلةٍ لم يرَ فيه جليل وجه النومِ بعد الضربِ المبرح والاهانات والقذف المهین المقرف… وحينما كانوا منهمكين في مشروعهم الفني وهم في لمساتهم الأخيرة غارقين في رسم ظلال كلمات العجز من بيت الشعر… جاء صوته متقطعاً بحشرجةٍ وحزن : لقد ظلت امي تضمد جروحي طوال الليل،
وبرغم الأوجاع استيقظت كالعادة فجراً لمساعدة ابي في دفع عربانته التي يبيع عليها الخضار في سوق المحلة القديم الذي يتراكم على نصفِ دائرةٍ لساحة كبيرة جرداء خالية من الحياة تؤدي إليها ثمانيةِ أزقةٍ على هيئة العلم البريطاني هُجِّر اليها أجدادنا ووضعوا فيها قسراً بعد ابعادهم عن ساحل الكارون ( الأمنية) موطنهم التاريخي لإنشاء مخزن الحبوب أو الـ (سيلو) قبل الحرب العالمية الثانية ، المحلة التي اهملت إلى يومنا هذا.
وعلى الرغم من شدة أوجاعه الاَّ انه شملهم بحضوره، بكلما يستطيع واتحفهم بعباراته الغنية بالمعلومات وهم ينزّلوا أفكارهم على الجدار

و يردد الشعر معهم بصوت عالٍ ، حاله حال نخبة شباب حي النهضة يحسن الكلام لإمتلاكه مخزون كبير من الثقافة.. قال وهو يصف اللوحة : إنها سفينة َفضائية ستذهب بنا لتجتاز مجتمعات الغرب التي سبقتنا بمئات السنين لا بل ستسبق حتى دول الخليج… إلى هناك . . إلى عالم جديد حيث لا جياع.. لا دموع.. لا تمييز.. لا زعماء لا خرافة ولا جهل.. وأضاف :
ليس المهم ان نكتب ونرسم حتى نبهر او يصفق لنا ألآخرون بل المهم ان نُعبِّر عما في داخلنا بصدق ونُبدعُ حتى نعطي ويتعلم ألآخرون ونؤسس لمستقبل زاهر.. حينما كانوا
يستمعُوا
اليه وينصتُون لأقوالهِ المليئةِ بالطموحات يغرقُون في الأحلام وتتداعى لهم ألآمال ليرقوا و تلتهبُ في داخلهم جذوة العلم والذوق ويشعروا
بعمق بإنسانيتهم التي اكتسحتها و خيمت عليها عنوةً ثقافة الجهل و الخرافة و أختطفت وسلبت منها مساحات التفكير، ارادة القرار والتصميم والإختيار..
سادت البساطة والسرعة في خط الشعر واكتفى الرسامون بجر الحروف بوضوح وإنزال الظلال ما أمكن به الوقت..
وبعد شوط من الزمن بان الشطر الأول وكم كان جميلاً ومعبراً

ايران يوماً قد تهب شعوبها…..
وتحطم التيجان  (کالأوثان)

و حينما أرادوا أن يبدأوا بحروف وكلمات الشطر الثاني للشعر حتى لفت انتباه الجميع عزلة زميلهم الجالس المنزوى وهو يتلفت ويسترق النظر كأنما أفاق من سباته وأراد احصاء الواقفين الناشطين من زملائه كان تركيزه العجول مفضوحاً للبعض محاولاً يظهر ابتسامة” خالية” من الإبتسامة الحقيقية. و إظهار نفسه للآخرين على انه بجسده كما بأفكاره بعيد عن الآخرين غير أن عيونه لم تفارق الجميع..
الأغلب كان يظن على انه يفكر بخطيبته وهو ابن المدينة القرويه فمنذ الخطوبة… اخذ يأتي الى المدرسة يومياً بحذاء (كلارك) ثمين وبنطلون (شارلستون) لبسه ابوه الموظف الزراعي يوم زفافه وكان من القدمين يقترب من 33سانتي يربط على خاصرته حزام عريض ويزين بتسريحة شعر تحاكي هيئة ريجارد كيل الذي لعب الأدوار الأولى لجيمس بوند ٠٠٠
مع كل ذلك لم يكن موفقاً في إختيار ألوان ملابسه كما أنها لم تغطي الخلل في تناسب اندامه وكأن هيكله يعطي ايحاءً لتصميمٍ كوميدي معكوس لهيئة شارلي شابلن القصير القامة..
نظر اليه الغالبية دائماً بشئ من العطف و الرأفة قروياً شاع خبره في الصف والمدرسة و هو لم يكمل الثمانية عشر من عمره بعد، الا انه اقبل على الزواج واليوم سيلتقي مع خطيبته لإكمال بعض المقدمات و التشريفات…
احس انه ادخل الريبة والشك لدى البعض ٠٠ارتبك٠٠ارتعب
من نظراتهم ٠٠ فتموج بقميصه الضيق الأصفر الشاحب اللون وهو يدفع بنفسه خارج الكرسي على عجل ولكن هذه المره معه حقيبته المدرسية ليحمل فخذاه و ساقاه القصيران هيكله العظيم نحو الباب برأس يتدلى كعادته على رقبته دون كلام، فتح الباب ثم غادر دون أن يغلقه٠٠٠
أثار خروجه الشك عند البعض فاشار ماجد إلى احدهم متابعته لتقصي اخباره، فور ذلك خرج صديقهم بسرعة ومعه زميلهم *عيدي* الخطاط المبدع ليغسل يديه٠٠
اسرع الطلاب فأوقفوا عملهم رجَّعوا الطاولات المدرسية إلى وضعيتها الأولى وكل جلس في مكانه ينتظر الى ما يأتي به زميلهم٠٠٠
بعد دقائق جاء واللهاث يعكر صفو كلماته :
(خشم الچلب طلع إفتینی، گرش علينا٠٠)
واضاف: أنه كذاب
لم يذهب الى خطيبته، رأيته من خلف شباك غرفة مدير المدرسة رحيمي يتحدث إليه بحضور آخوند زاده وقد وشى بـ 18 طالباً منا.
وأضاف :
يتردد على السنة الطلاب في ساحة الَمدرسة ان حافلات ركاب كبيره و عربات تبيع الفول تخبئ السلاح وتموه على أفراداها تقف عند بوابة المدرسة ٠

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى