مقالات كل العرب

خطة البيئة الطاردة و الوطن البديل.. فلسطين في الخطط المستورة

شارك

خطة البيئة الطاردة والوطن البديل
فلسطين في الخطط المستورة

أ. نسيم قبها

عمليات أمنية همجية ومضايقات واعتقالات و قتل واغتيالات متتالية ، واقتحامات سافرة للمسجد الأقصى لم تتوقف منذ الإحتلال الصهيوني لفلسطين. وكل ذلك غير كاف في إجرام الصهاينة الذين لم يرتوِ من دماء أهل غزة واغتصاب النساء والرجال وقتل الأطفال وتدمير القطاع وتحويله إلى كومة ركام، بل شرع جيشُهم اللاأخلاقي فجرَ الأربعاء الماضي بعملية عسكرية بغطاء جويٍّ هي الأوسع منذ اجتياحاته عام 2002 إبان انتفاضة الأقصى. وأطلق على هذه العملية “مخيمات الصيف”، حيث كثف جنود الاحتلال أعمال القتل والتنكيل والاعتقال وتدمير البنية التحتية للمخيمات، وقطع الطرقات ومحاصرة المستشفيات بدعوى اجتثاث “الإرهاب”! لكن هدفه الظاهر هو إيجاد بيئة طاردة للسكان الفلسطينيين لإرغامهم على الهجرة. وذلك ضمن خططه لالتهام أراضي الضفة، والاستيلاء عليها وتصفية فكرة المقاومة ، وإفراغ ما يمكنه من أهلها منها، تمهيدًا لضمها والتوسع فيها، مستغلًّا تراخي الولايات المتحدة مع ما يفرضه من وقائع على الأرض، وإبطالها لمفاعيل القرارات الدولية المتعلقة بإنهاء احتلاله، ومستغلًّا تكبيل الشعوب، والدورَ الوظيفيَّ للأنظمة في تطويع المشهد ، وخفت الأصوات المطالبة بنصرة الأهل والمقدسات في فلسطين، وهرولة الأوساط السياسة العربية للتقرب من السيد الأميركي . وهذا بالإضافة إلى مساندة بعض الأنظمة العربية ودعمها للكيان الصهيوني سياسيا واقتصاديا ، وتحوّل الموانئ المصرية إلى محطات رئيسية للشحنات المتجهة إلى إسرائيل خلال الحرب على غزة، حيث تم رصد 19 سفينة ومساراتها البحرية بين الموانئ الإسرائيلية والمصرية بين حزيران/يونيو، وآب/أغسطس 2024.
وفي سياق هذه العملية العسكرية الصهيونية الواسعة على الضفة الغربية؛ لاجتثاث سكان المخيمات ومصادرة الأراضي، صرَّح وزيرُ الخارجية الإسرائيلي يوم الأربعاء 28 آب/أغسطس: علينا التعامل مع الضفة الغربية كما نتعامل مع غزة بما في ذلك الإخلاء المؤقت للسكان، مشددًا على أن العملية العسكرية تستهدف ما أسماه “البنى التحتية الإرهابية التي أقيمت هناك.. والقيام بأي خطوات أخرى مطلوبة”، مبررًا ذلك بالقول إن “هذه حرب على كل شيء وعلينا أن ننتصر فيها”. في حين ذكرت صحيفة يديعوت أحرونوت أنه من المحتمل “تنفيذ إجلاء منظم للسكان الفلسطينيين المدنيين وفقًا لمراكز القتال المتوقعة” خلال العملية العسكرية. وهو ما ترجمته العملية العسكرية في مطالبة السكان بإخلاء مناطقهم، وتجريف البنى التحتية بما في ذلك قطع خطوط المياه، ومحاصرة المستشفيات، وقطع الطرقات، بالإضافة إلى اقتحام قطعان المستوطنين للمسجد الأقصى، وإقامة شعائرهم فيه لتهويده بتحريض من بن غفير، الذي دعا قبل أيام إلى بناء كنيس يهودي داخله. وهذا فضلًا عن هجمات المستوطنين الوحشية على قرى الفلسطينيين وإرهابهم بالقتل والتنكيل وحرق الممتلكات وهدم البيوت؛ لدفع سكانها إلى ترك مساكنهم وأراضيهم.
غير أن استهداف مخيمات الضفة بالذات، واستهداف المسجد الأقصى، وقطاع غزة أيضًا، له خصوصية متعلقة بجذور قضية فلسطين وملفاتها النابضة، وهي ملف المقدسات وملف اللاجئين. كما له تعلق بالمشروع الصهيوني المزمع استكماله على الأرض والذي يعتبر أراضي الضفة الغربية والقدس جوهر المشروع الصهيوني وفق المزاعم التوراتية. وهذا فضلًا عما تمثله المخيمات الفلسطينية في الضفة من رمز ثوري ، يستوجب تصفيته لطمأنة قطعان الكيان وبخاصة بعد عمليتي تل أبيب والأغوار الشمالية. ذلك أن وجود المخيمات يجسد قضية شعب اقتلع من بيته وأرضه وحل مكانه مستعمر أجنبي، وهو الأمر الذي يصور الكيان الغاصب على حقيقته المتمثلة باللص الذي سطا على ملك الآخرين، ومن ثم يُكذب السردية الصهيونية ويُبقي قضية فلسطين حية في وعي أهلها وظهيرهم العربي الإسلامي جيلًا بعد جيل، وهو ما يقتضي محو آثار جريمة السطو المسلح والاحتلال بإزالة المخيمات وسكانها في الضفة، وإيجاد بيئة طاردة للسكان في غزة، والذين ترجع أصولهم لمناطق “فلسطين التاريخية”. ومن ثم ترحيل مشكلة المهجرين الفلسطينيين للدول العربية لتوطينهم.
ولذلك لا تنفصل حرب الإبادة الوحشية على غزة عما يصاحبها من عمليات متدحرجة في الشدة والأهداف في الضفة الغربية. فمشروع التهجير والوطن البديل أو ما يسمى بالخيار الأردني هو هدف الهجمة الصهيونية الشرسة على الضفة الغربية. وقد تم التمهيد له عبر محطات وعناوين مختلفة، وعبر الإعلان عنه على لسان نتنياهو ومداد قلمه، وقرارات الحكومات الصهيونية المتعاقبة حتى بعد اتفاق أوسلو . حيث تضاعف النشاط الاستيطاني الالتفافي الذي جعل مناطق الفلسطينيين في الضفة الغربية أرخبيلًا مقطوع التواصل، وازداد عدد المستوطنين الإسرائيليين (غير القانونيين) في الضفة الغربية بأكثر من أربعة أضعاف منذ عام 2008. وصار إقامة “دولة فلسطينية ناجزة” على حدود سنة 1967 ضربًا من المستحيل، وليس لـ”حل الدولتين” المقترح حيز في الواقع سوى “الاسم” الذي يلزم لتسويق الوهم وتمرير “الوطن البديل” في الأردن باسم حركي وهو الكونفدرالية، التي تحسم جدل التوطين في الأردن تحت مظلة “الهوية الجامعة”، وتمنح الأردن إدارة سكان الضفة، تمامًا كإدارته للأوقاف الإسلامية والمسيحية في القدس. وبهذا المعنى فإن مشروع “حل الدولتين” المزعوم لا يعدو عن كونه ذرًا للرماد في العيون، وغطاءً للدولة اليهودية الناجزة. وهو ما يضع العملية “السلمية” ومفاوضات صفقة تبادل الأسرى في خانة التضليل وشراء الوقت لفرض مزيد من الوقائع المعيقة لقيام دولة فلسطينية على حدود 1967.
ولعل “معايير كلنتون” لبنود “حل الدولتين” وتبادل الأراضي، ومقترح الكنيست سنة 2010 حول “دولتين لشعبين على جانبي نهر الأردن” وخطة إيغال آلون التي تعطي الفلسطينيين بعض أجزاءٍ من الضفة الغربية، وخطاب نتنياهو الأخير في الأمم المتحدة ورفعه خارطة لدولة “إسرائيل” من النهر إلى البحر، والقرار الذي أقره الكنيست لحظر قيام دولة فلسطينية قبل زيارة نتنياهو الأخيرة إلى واشنطن، والذي نص على أن الكنيست “يعارض إقامة دولة فلسطينية على أي قطعة أرض تقع غرب نهر الأردن”، ونص على أن “وجود دولة فلسطينية في قلب إسرائيل من شأنه أن يشكل تهديدًا وجوديًّا لدولة إسرائيل ومواطنيها، وسوف يعمل على توسيع الصراع العربي الإسرائيلي الفلسطيني، وسوف يكون مصدرًا لزعزعة الاستقرار في المنطقة بأسرها”، بالإضافة إلى قرار الحكومة الصهيونية بنقل إدارة الضفة الغربية من المؤسسة العسكرية إلى الإدارة المدنية بقيادة سيموترتش بغرض نفي الصفة الاحتلالية العسكرية عن الضفة، كل ذلك يؤكد على تفعيل الكيان الصهيوني لمشروع الوطن البديل و”الدولة اليهودية الواحدة” بشكل متسارع. وهذا ما يفسر عدم اعتراف وزراء التيار الصهيوني الديني بالسلطة الفلسطينية القائمة وتجاهل نتنياهو لها، رغم ضعفها السياسي ، واعمالها الشرطية المحدودة.
وفي هذا السياق أكد وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش في حزيران/يونيو الماضي صحة تسجيل صوتي حصلت عليه صحيفة “نيويورك تايمز” الأميركية يتحدث فيه عن “خطة سرية” لضم الضفة الغربية إلى “إسرائيل”، وإجهاض أي محاولة لتصبح جزءًا من الدولة الفلسطينية. وفي المقابل اكتفت الأنظمة العربية بالإدانات التقليدية ، وهو ما يعني أن هذه الأنظمة عاجزة بشكل واضح عن ممارسات الاحتلال الوحشية، وتصفية قضية فلسطين بالصيغة الكونفدرالية مع الأردن (سيادة إسرائيلية على الأرض والحدود، وإدارة أردنية فلسطينية خدمية للسكان)، رغم أن الكيان الصهيوني لا يزال يرفض منح الفلسطينيين “اسم دولة” لتمرير الصيغة الكونفدرالية رغم المطالب الدولية. وبالتالي فإن هذا الموقف العاجز للدول العربية إنما يدل على أن خيارها الموسوم بالعجز ، هو التبعية للسيد الأمريكي الذي يكافىء الإحتلال على احتلاله .
و إذ إن الصهيونية تقوم على فكرة الدولة اليهودية القومية الاستعمارية على أرض فلسطين، فلا يخفى أن دولا عربية وازنة تعترف بهذه الدولة من خلال تثبيتها بـ”النهج الإبراهيمي”، وبما أنه ليس بالضرورة أن تكون يهوديًا حتى تكون صهيونيًّا كما قال بايدن، فلا شك أن الصهيونية تعدت جغرافية فلسطين التاريخية .

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى