كثرة العبر وقلة الاعتبار
كثرة العبر وقلة الاعتبار
أ. يحيى إبراهيم النيل
خلال لقاء مشترك بالعاصمة الكينية نيروبي مساء 14 سبتمبر 2024، اتفقت حركة جيش تحرير السودان بقيادة عبد الواحد محمد نور وحزب المؤتمر السوداني على عدة نقاط وردت في البيان الختامي الذي صدر في اليوم التالي. سنتناول هذه النقاط لنناقشهما حولها، مع احترامنا لخياراتهما ومواقفهما السياسية.
“ضرورة الاسراع لبناء أعرض جبهة مدنية سياسية واسعة وشاملة بمنهجية وأسس جديدة تعالج أخطاء التحالفات والاصطفافات القديمة وتضم جميع القوى المناهضة للحرب والداعية للسلام في السودان، عدا المؤتمر الوطني وواجهاته ومن رفض”
من المعلوم للكافة أن كل القوى السياسية وغالبية الشعب السوداني، خلال كثير من مواقفه، قد عبروا عن رفضهم مشاركة حزب المؤتمر الوطني في مؤسسات الفترة الانتقالية. بل إن رئيس الحزب المكلف نفسه، إبراهيم غندور، قد اعترف في اول ظهور له على قناة فضائية بأن التغيير الذي أطاح بنظام البشير “كان ثورة جماهيرية انحازت خلالها المؤسسة العسكرية لرغبة الشعب”.
لكن كلمة “واجهاته” التي وردت في البيان كلمة فضفاضة جداً لطالما اتخذتها قوى الحرية والتغيير عباءة اتسعت لكل من أرادت إقصاءه. ولو اكتفينا بالاتفاق الإطاري، كمثال، نجد أن الواثق البرير، الأمين العام لحزب الأمة، قد رفض التحاق حزب الأمة، جناح مبارك الفاضل بهذا الاتفاق بحجة: “أن الدعوة لتوسعة قاعدة المؤيدين للإتفاق الإطاري، مع أهميتها، لا تعني إغراقه بمسميات وقوى لا تؤمن بالتحول المدني الديمقراطي ولا تنطبق عليها اشتراطاته”. ومثله فعل رئيس المكتب السياسي لحزبه، محمد الحسن المهدي، الذي “أغلق الباب أمام توقيع القوى الأخرى على الاتفاق الإطاري، باستثناء حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناح مني مناوي والحزب الاتحادي، بزعامة جعفر الميرغني، “خوفاً من إغراقه بمكونات تسعى إلى تخريبه”. وأعلنت القوى المدنية الموقعة على الاتفاق الإطاري رفضها “محاولات إغراق العملية السياسية بقوى غير حقيقية”.
وكررت مريم الصادق المهدي، نائب رئيس حزب الأمة، نفس هذه المواقف، مع ما يشبه الاعتذار، بقولها إن قوى الحرية والتغيير “تريد تجنب إقصاء القوى السياسية، وفي نفس الوقت عدم إغراق العملية السياسية بالقوى التي تسعى فقط إلى الوصول إلى مناصب السلطة”! لكنها شددت، مع ذلك، على “ضرورة إدراج حركة العدل والمساواة وحركة تحرير السودان جناح مناوي في الاتفاق الإطاري، رغم الرفض الشعبي لهاتين الحركتين بعد دعمهما لانقلاب 25 أكتوبر 2021″، مؤكدة أنه لا ينبغي أن يكون موقفهما من الانقلاب مبررا لإقصائهما، باعتبارهما من الموقعين على اتفاقية جوبا للسلام”، في تناقض صارخ مع موقفهم من القوى الأخرى المؤيدة للجيش، الذي عبر عنه كمال عمر، الأمين السياسي للمؤتمر الشعبي، أحد موقعي الاتفاق الإطاري، حين أكد أن ائتلافه “لن يسمح لأحزاب (نداء أهل السودان إلى التوافق الوطني) بالتوقيع على هذه الوثيقة، قبل أن يراجعوا موقفهم حيال الشراكة مع الجيش”.
“مواجهة الخطاب الذي يروج للتقسيم ويعزز الكراهية بين مكونات المجتمع السوداني، وضرورة خطاب الوحدة والسلام”.
نعتقد أنه ليس هناك خطاب يدعو للتقسيم وبذر الكراهية بين مكونات المجتمع السوداني أكثر من الإقصاء، استقواء بالسلطة، مدنية كانت أو عسكرية، رغم أن التجارب أثبتت في كل الحقب السياسية في السودان أن من تم إقصاؤهم لم يستسلموا وإنما هدموا المعبد على رؤوس الجميع. والأدهى وأمر أن الوزن السياسي لمن يحاول إقصاء الآخرين، في بعض الأحيان، أخف من بيض النمل!
“تطابق موقف الحركة والحزب المناهض للحرب وغير المنحاز لأي من أطرافها، وإدانة كافة الانتهاكات البشعة التي ارتكبها طرفا النزاع في حق المدنيين الأبرياء”
لا شك أن كل ذي فطرة سليمة يدين تسبيب الأذى حتى للحيوان. لكن دائماً ما تسعى بعض القوى السياسية جاهدة لإدانة الطرفين معاً، وهذا موقف أخلاقي لا غبار عليه. لكنها تتخذ هذا الموقف تجنباً لإدانة فظائع الدعم السريع ضد المدنيين الأبرياء. إذ يمكن للجيش أن يقول، صدقاً أو كذباً، إنه لم يستهدف المدنيين عمداً حين يقصف مواقع المتمردين، خلافاً لأفراد الدعم السريع الذين طردوا المدنيين الأبرياء من منازلهم والتقطوا الصور التذكارية وهم يعبثون بمحتوياتها، مؤكدين أنهم باقون فيها، وسرقوا ومقتنياتهم وشحنوها لمناطقهم أو أقاموا لها الأسواق في المناطق التي يحتلونها، وأذلوا المواطنين بالضرب أمام ذويهم، ومنهم الطفلة التي أظهروها بأنفسهم وهي تتوسل لجلادها. بل سبوا واغتصبوا الحرائر وصوروا هذا الفعل الشنيع ونشروه في الوسائط كأنه مدعاة مفخرة. الأمر الذي جعل صحيفة الغارديان تكتب: ” يبدو أن المتمردين السودانيين ينشرون مقاطع فيديو تدينهم بارتكاب أعمال تعذيب وحرق على وسائل التواصل الاجتماعي “. وقال أليساندرو أكورسي، المحلل البارز في منظمة كرايسز قروب غير الحكومية: “نحن في وضع يصور فيه المعتدون أنفسهم، ويعطوننا أدلة على ما يحدث في وقت لا نمتلك فيه الكثير من المعلومات بشكل عام”. وقال آخرون غيره نفس الشيء في نفس التقرير الذي نشر في 11 سبتمبر الجاري.
العزم على العمل الدؤوب لإنهاء الحروب وتأسيس دولة سودانية تعبر عن جميع أبناءها وبناتها وتتحقق فيها غايات ثورة ديسمبر المجيدة.
من عجب ان يتحدث عبد الواحد نور عن “العمل الدؤوب لإنهاء الحروب” وهو الذي ظل يقاتل منذ أكثر من عشرين عاماً كل الحكومات المركزية، بما فيها حكومتا الدكتور عبد الله حمدوك، الذي التقاه بباريس في 29 سبتمبر 2019، ولم يسالمه حتى إطاح البرهان بحكومته في 25 أكتوبر 2021. وظل يرفض كل دعوات الحوار حتى أُطلق عليه لقب (Mr. No)! مما سبب حرجاً للحكومة الفرنسية وجعل وزير الخارجية الفرنسي بيرنارد كوشنير يصرح في 2007 بأن بلاده تبحث إمكانية طرد عبد الواحد من فرنسا بسبب رفضه المشاركة في مفاوضات السلام المقرر اجراؤها في طرابلس. وكان قبلها قد رفض حضور محادثات أروشا بتنزانيا (التي ترعاها الأمم المتحدة والاتحاد الأفريقي) لتوحيد مواقف الفصائل المسلحة قبل تحديد موعد للمفوضات مع الحكومة السودانية. بل حتى الرئيس ماكرون قال في مؤتمر صحفي مشترك بباريس مع دكتور عبد الله حمدوك في 30 سبتمبر 2019، فيما يشبه الاعتذار، “إن عبد الواحد نور ليس لاجئاً سياسياً في فرنسا، لكنه موجود فيها”!
وظل متمترساً خلف هذا الموقف فيما بعد، إذ صرح في نوفمبر 2022 بأن الموجودين على الساحة السياسية وقتذاك، بما فيهم حزب المؤتمر السوداني نفسه، ” “جزء من الأزمة وليس الحل، لأنهم أبعدوا الثوار الحقيقيين”. ووصف الاتفاق الإطاري الذي كان يدافع عنه حزب المؤتمر السوداني بـ”اختطاف للمشهد السياسي بواسطة النخب السودانية”. وقال عنه إنه “ولد ميتا، وتم إبرامه عبر محاور إقليمية، ودعمته قرارات مجلس الأمن الدولي، دون الأخذ في الاعتبار إرادة الشعب السوداني”.
مع ذلك نتمنى أن يصمد اتفاق المؤتمر السوداني مع حركة نور، فكل تراضٍ بين السودانيين مرحب به. لكننا رأينا تناسلاً في عقد التحالفات ومهر الاتفاقيات بالتوقيع، قبل أن يدير لها موقعوها ظهورهم لتوقيع اتفاقيات أخرى وعقد تحالفات جديدة.
فقد أحصت لجنة (حكماء السودان) في ابريل 2022، 35 مبادرة مختلفة، وحاولت توحيدها. ثم نجد بعد ذلك أنه في 19 ابريل 2022 وقع رؤساء وممثلو (79) من الأحزاب (منهم حزب الأمة القومي والاتحادي الأصل) والحركات المسلحة (منها العدل والمساواة وحركتا الطاهر حجر والهادي ادريس) مع آخرين على “الوثيقة السودانية التوافقية لإدارة الفترة الانتقالية”. وفي 25 مايو 2022 كشف علي كرتي عن اصطفاف إسلامي على وثيقة جديدة. وفي 15 يونيو 2022 أجازت الحرية والتغيير\المجلس المركزي “وثيقة مطلوبات وإجراءات إنهاء الانقلاب”. وفي 22 يوليو 2023 طرحت مجموعة (غاضبون بلا حدود) “رؤية جديدة لتوحيد قوى الثورة على أساس التغيير الجذري الشامل والعميق”. وفي 29 سبتمبر 2022 وقع أكثر من خمسين لجنة مقاومة “الميثاق الثوري لتأسيس سلطة الشعب”. وفي 4 أكتوبر 2022 دعت لجان المقاومة لحضور حفل التوقيع على “الميثاق الثوري الموحد”. وفي 8 أكتوبر 2022 وقعت الحرية والتغيير\التوافق الوطني والمبادرة السودانية للترتيبات الدستورية بقيادة جعفر الصادق الميرغني على “إعلان سياسي حول الترتيبات الدستورية”. وفي 6 مارس 2023 كشف الصوارمي خالد سعد، رئيس قوات (كيان الوطن)، عن “ميثاق الشموخ الوطني”. وفي 18 مارس 2023 وقع 109 كياناً مهنياً وأهلياً ومدنياً ومنظمات مجتمع مدني وكتل شبابية على “ميثاق جديد من أجل وحدة السودان.
علاوة على ذلك، فقد طرح (الموقعون أعلاه!) أكثر من عشر مبادرات جديدة، منها خارطة طريق حزب الأمة القومي (استعادة الشرعية واستكمال المرحة الانتقالية)، ومبادرة المؤتمر الشعبي (تدابير الانتقال) ومبادرة تجمع المهنيين (ميثاق استكمال ثورة ديسمبر المجيدة).
ومما يقلل من جدوى هذه الاتفاقيات والتفاهمات أنها تتم بين من يتبنون مواقف سياسية متقاربة، مع رفض الذين يقفون في الضفة الأخرى، وعدم الاستعداد للحوار معهم للوصول إلى قواسم مشتركة تسرّع إطفاء الحرائق. بل حتى الذين يُبدون، في حالات نادرة، استعداداً للانضمام للركب يتم رفضهم. فقد أعلن الواثق البرير في ديسمبر 2022 أن التحالف المدني الموقع على الاتفاق الإطاري قد تلقى 60 طلباً للتوقيع على هذه الوثيقة. لكن، كما رأينا أعلاه فقد رفضت طلباتهم بحجج واهية. وعندما قامت الحرب، صاح الشامتون فينا: “الصيف ضيعتم اللبن”.