مقالات كل العرب

السودان بين التوهان و الوصول

شارك

السودان بين التوهان والوصول

أ. كمال أشواك

بعد ثورة ديسمبر التي كانت نتيجة تراكم من نضال القوى السياسية والمدنية تمت الإطاحة بنظام الإنقاذ في نسخته الثالثة التي كانت تديرها مع “البشير” مجموعة ضيقة من العسكريين المنقلبين عليه لاحقاً، بعدها عصفت بالسودان أزمة سياسية وإنسانية مطولة لم تبارح مكانها؛ لأن القوى السياسية التي أعدت الوثيقة الدستورية كانت ضيقة الأفق في تفكيرها المتعلق بتلك الوثيقة من ناحية تصوراتها المكتوبة ومن ناحية عدم إنفتاحها على كثير من القوى السياسية في الداخل والخارج سيطر على تفاصيلها البعد السلطوي وتصفية الحسابات السياسية وكأن هذه الثورة جاءت لتهدم الوطن من جديد وتقصي الجغرافيات المهمشة تاريخياً في تعارض ظاهر مع شعارات الثورة، الجيش لم يكن أفضل حالاً من القوى السياسية في تصوراته للإنتقال السياسي وتسليم السلطة إكتفى الجيش بتهدئة المحتجين، حيث كان واضحاً أنه كان مجرد إنقلاب لصالح نفس النظام صُمم استراتيجياً للحفاظ على وضع الجيش في السلطة، وضح ذلك من خلال تشكيل مجلس عسكري إنتقالي برئاسة الفريق أول ركن “عوض بن عوف” الذي فرض حالة الطوارئ لمدة ثلاثة أشهر، ثم فترة إنتقالية لمدة عامين لتهيئة البلاد لحكم مدني،عقب هذه القرارات تحركت قوى المعارضة باسم “قوى الحرية والتغيير” وحثث المتظاهرين على مواصلة التظاهرات والدعوة إلى تشكيل حكومة إنتقالية بقيادة مدنية والخروج على قوانين حظر التجول الذي فرضه المجلس العسكري، وفي 11 أبريل 2019 بعد ضغوطات كبيرة من قِبل الثوار إستقال “عوض بن عوف” الذي لم يكمل يوم في رئاسة المجلس العسكري الإنتقالي، وجاء “عبد الفتاح البرهان” بديلاً له في 20 أغسطس 2019.
في تلك الفترة حل المجلس العسكري وشكلّ مجلس سيادة إنتقالي مكوناً من أحد عشر عضواً لحكم السودان لمدة ثلاث سنوات حتى الإنتخابات العامة في عام 2022، وضم مجلس السيادة السوداني ستة مدنيين وخمسة عسكريين بقيادة “البرهان” لمدة ثمانية عشر شهراً ، بعدها يعقبه على القيادة شخص مدني يتوافق عليه الثوار والقوى السياسية يحكم فيها الثمانية عشر شهراً المتبقية من الفترة الإنتقالية حيث توافقت القوى السياسية في 21 أغسطس 2021 على رئاسة الدكتور “عبدالله حمدوك” رئيساً للوزراء، من هنا بدأت فترة المكائد والتوترات السياسية المعقدة بين العسكر والمدنيين كلها حول السلطة وفكرة الهيمنة السياسية وهنا برز المأزق حيث أن العملية السياسية برمتها كانت مبنية على مفهوم “التسوية السياسية” بين القيادتين العسكرية والمدنية كل منهما كان لديه أهداف وتصورات مختلفة عن الآخر، الجيش كان دافعه الأساسي هو وقف الخسارة المفاجئة للسلطة التي كانت تحمي مصالحه الإقتصادية الضخمة، صحيح أن القادة المدنيين كان دافعهم تشكيل حكومة مدنية وديمقراطية .
لكن للأسف كان هم أول من خرق هذه السفينة لأنهم تعاملوا بشكل حاد مع التيارات الإسلامية ذات التباينات المختلفة حيث عاملوهم كحلفاء للنظام السابق علماً أن هذا التيار هو تيار معتبر في التاريخ السياسي السوداني، كل هذه التصرفات زادت من حدة التعقيدات السياسية في إقامة حكومة إنتقالية حقيقية حيث إتهم المدنيون العسكريين بالفشل في السيطرة على قواتهم وذلك بالإبقاء على الضباط المؤدلجين لصالح النظام السابق وسط صفوف الجيش، بينما إتهم الجيش الحكومة المدنية بسوء إدارة التنوع السياسي وتحديات واقع الإقتصاد المنهار، هذا التشاكس بينهما تسبب في زعزعة الإستقرار نتيجة الخلافات السياسية بينهما في التعاطي مع المرحلة الإنتقالية و تطور الأمر بشكل متسارع وحاد لينتهي المشهد بإحتجاز الجيش لرئيس الوزراء السابق “عبدالله حمدوك” وأعضاء آخرين في حكومته في 25 أكتوبر 2021، وهذا ما جاء في أعقاب ورود تقارير عن محاولة إنقلاب فاشلة دبّرها مجموعة من المتعاطفين مع النظام السابق، ليأتي تبرير الجيش إنّ هذه الإجراءات التي اتخذها في 25 أكتوبر الماضي بأنها جاءت لإعادة المرحلة الإنتقالية إلى اتجاهها الصحيح ودعم الإستقرار السياسي، وهنا طرحت القوى السياسية السؤال، لماذا في هذا التوقيت بالذات؟!!
حيث جاءت في وقت كان من المقرر أن يسلّم فيه الجيش قيادة مجلس السيادة السابق إلى قيادة مدنية خلال الأشهر المقبلة بعدها وبشكل غريب يعلن الجيش إنسحابه من السلطة وتعيين الدكتور “عبد الله حمدوك” رئيساً للوزراء،والحقيقة هي أن الجيش فشل في الإحتفاظ بالسلطة الكاملة لذلك لجأ لهذا التكتيك ليستفيد الثوار من موقف الجيش الضعيف ويمارسوا مزيد من الضغوطات إنتهت بتقديم مزيد من التنازلات من بينها إطلاق سراح جميع المعتقلين السياسيين، ومحاكمة ضباط الجيش المتورطين في قتل 42 متظاهراً خلال أعمال العصيان التي إستمرت شهراً، وإقامة حكومة ذات قيادة مدنية و يقتصر دور الجيش على أعمال وزارة الدفاع،ورغم كل هذه التنازلات ظلت كثير من القوى السياسية التي كانت داعمة لهذا التحول رافضة لهذه التغييرات ووصفتها بالصفقة بين الجيش وحمدوك وإتهم حمدوك بإعطاء الجيش الشرعية والقبول لإستمرار هيمنته على المجال السياسي، شكّل حمدوك حكومته من “التكنوقراط” بدلاً من الحكومة السابقة التي تألفت من ساسة و قادة آخرين، وقد رأى الكثيرون أن الجيش كان يعزز سلطته للإبقاء على الوضع الراهن من خلال الوكالة عن طريق دفع القيادة المدنية التي تتمتع بالمصداقية إلى هامش المشهد السياسي، أدت هشاشة الوضع الاقتصادي إلى تفاقم الأزمة السياسية كما ذكرنا قبلاً على الرغم من بوادر الانتعاش والإستقرار التي ظهرت في أعقاب الإطاحة بالبشير في عام 2019.
ما يحدث الآن من حرب لا ينفصل عن واقع الراهن الاقتصادي المتدهور للسودان وصراع القوى الإقليمية كل منها يريد تحقيق مصالحه الخاصة في السودان، هذه الأطماع الدولية لبعض الدول صادفت توفر الطموح الشخصي للجنرالين فكل منهما يريد السلطة وهو يستند على حليفه الخارجي، صراع الرجلين ما هو إلا تمظهر لصراع إستخباراتي وإقتصادي كبير لقوى خارجية حول ساحل البحر الاحمر “المواني السودانية”.
البرهان وحميدتي كل منهما يستخدم فزاعة لإقناع السودانيين أنه المنقذ ورجل المرحلة، البرهان يستخدم فزاعة الوطن وسلامة أراضيه وهو أول من فرط في قضية السيادة الوطنية، حميدتي أيضاً يمارس ذات المنهج وهو يتبنى نظرية الهامش والمركز وتوظيفها لصالحه، الغريب في الامر أن حميدتي مارس نفس سلوك المركز القديم وهو يحتكر كل شيء لصالح محيطه الخاص مع وجود تمثيل مضلل لبعض الأقاليم في قواته وشركاته.الحقيقة التي يجب أن يعيها السودانيين ليس ثمة خلاف حول مفهوم وجود الجيش كمؤسسة وحيدة تحافظ على سيادة البلد وأمنه، في المقابل نحن أمام جيش تاريخه غير مهني مارس إنتهاكات موثقة تجاه شعبه في جبال النوبة، دارفور، جنوب طوكر، قرى المناصير و غيرها، تاريخياً هذا جيش لا يعبر عن تنوع السودانيين لا في قيادته العليا وهنا أعني كبار الضباط الممسكين بالقرار العسكري حيث ظلت تنفرد به إثنيات وأقاليم بعينها ظهر ذلك في تحركات الجيش الأخيرة.في الجانب الآخر نحن أمام مليشيا كانت تنتمي لنفس هذا الجيش المؤدلج حيث إرتكبت الفظائع في حق هذا الشعب في مناطق دارفور، الخرطوم، الفاشر، الجزيرة وغيرها لأنها تشبه الجيش من ناحية الفوات الأخلاقي وفي بطشها،القوى السياسية ليست أفضل حالاً من العسكر في هيكلتها وممارستها للديمقراطية داخل مواعينها المختلفة ينعدم التنوع الجغرافي والثقافي على مستوى برامجها وقياداتها، إجمالاً ما يحدث الآن هو تجلي حقيقي لأسوأ الحقب في تاريخ السودان الحديث، هذا التدهور يحتاج إلى قوى سياسية وطنية وبروز شخصيات عسكرية جديدة في المشهد تعلي من قيمة الوطن وتعيد للجيش قوميته المختطفة من قبل المتأسلميين عناصر النظام السابق لصالح مشروع عودتهم للسلطة وصراعهم الشخصي مع إبنهم العاق “حميدتي” ،ليس من مخرج سوى حوار “سوداني سوداني” مفتوح يحتاج إلى شجاعة كبيرة وتنازلات كبيرة،لأن هذه الحرب في بداياتها لم تكن تحمل نزعات ونكهات عنصرية ومناطقية لكن للأسف أصبح هذا الأمر أكثر بروزاً الآن وهنا مكمن الخطر، عليه يجب على جميع السودانيين بمختلف أقاليمهم وإثنياتهم التحلي بالروح الوطنية وترك المزايدات العرقية والإستعلاء الثقافي تجاه بعضهم من أجل خلق مناخ معافى يمارس فيه كل مواطن حقوقه الدستورية دون تمييز، أيضاً علينا ضبط خطاب الحقوق والمظالم التاريخية مع عدم المبالغة في خطابات المركز والهامش وتحميلها أكثر من طاقتها لأنه يمكن أن يتحول إلى صراع عنصري لن يسهم في صناعة واقع مختلف ننشده للوطن، الآن الجميع جرب نار الحرب ولظاها ومرارة الفقد وبؤس التشريد، أخيراً كسودانيين علينا عدم التعويل على القوى الدولية التي أدارت ظهرها للسودان باكراً وإنشغلت بالعديد من الأحداث الملتهبة والمتسارعة في بقية العالم كونها أكثر إهمية من السودان هكذا تفكر هذه القوى الدوليه،فهل يتنبه السودانيين لمأزقهم الكبير أم يستمروا في متاهة المزايدات؟.

كاتب وباحث في الشأن السوداني – ألمانيا

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

زر الذهاب إلى الأعلى