الحالة السودانية و الاستجارة من الرمضاء بالنار
الحالة السودانية والاستجارة من الرمضاء بالنار
أ. يحيى إبراهيم النيل
نشأنا ونحن نترنم بنشيد (في الفؤاد ترعاه العناية) للشاعر يوسف مصطفى التِنَيْ، الذي يؤكد فيه أننا، معشر السودانيين، لا نريد عصبية القبيلة:
نحن للقومية النبيلة
ما بِنْدُور عصبية القبيلة
تربي فينا ضغائن وبيلة
تزيد مصائب الوطن العزيز
لكن وجدنا أنفسنا مضطرين للجوء لعصبية القبيلة المنتنة لنحل مشاكل عجز عن حلها سادتنا وكبراؤنا، رغم ما نالوه من تعليم أكاديمي حديث يحتقر القبلية، وما وقفوا عليه من تجارب آخرين من أمم أخرى رموا هذه الآفة وراءهم ظهرياً.
في مداخلة لي مع راديو مونت كارلو بتاريخ 25 يوليو الماضي حول مؤتمر جنيف (قبل انعقاده) قلت إنني لا أبني آمالاً عراضاً على هذه المؤتمر، ولا أعَوِّل عليه، ولا أرى فرص نجاح لما سيتمخض عنه، لأسباب عدّدتها، منها: غياب الإرادة وغياب كروت الضغط لدى الوسطاء، وتغليب مصالحهم على فضيلة إيقاف الحرب في السودان. علاوة على أن قوات الدعم السريع لم تعد قوات عسكرية لها قيادة تصدر أوامر فتطاع، وأن الحرب لم تعد بين قوات مسلحة وميليشيا مسلحة وإنما، في جزء منها على الأقل، بين ميليشيا متفلتة ومواطنين حملوا السلاح لحماية أنفسهم ضد اعتداءات هذه الميليشيا. وقلت إن الحل يكمن في مخاطبة زعماء الحواضن الاجتماعية، لأن العامل القَبَلي والمحلي أقوى من العوامل الإقليمية والدولية. ودعوت إلى إقناع زعماء القبائل بسحب أبنائهم من ساحات المعارك، وذلك بدحض الحجج التي يبرر بها هؤلاء انخراطهم في الحرب (محاربة أنصار النظام السابق، ونشر الديمقراطية، والقضاء على دولة 1956 التي نشأت بعد استقلال السودان) وتذكيرهم بالخسائر البشرية الفادحة التي لحقت بقبائلهم، واعترفوا هم أنفسهم بها.
عدتُ لهذه المداخلة مؤخراً بعدما رأيت دور قبيلة وعشيرة (أبي عاقلة كيكل) في اقناعه بنفض يده من ميليشيا الدعم السريع والعودة إلى حضن القوات المسلحة. ولا أريد أن أسهب في وصف ثمرة انسلاخ (كيكل) من الدعم السريع، فقد تحدث كثيرون وأسهبوا وعددوا. بل سأكتفي بمحاولة إظهار العامل القبلي في هذه الواقعة.
لقد نحج العامل القبلي، بداية، في حماية مناطق البطانة وشرق الجزيرة، معقل قبيلة وعشيرة (كيكل)، من انتهاكات ميليشيا الدعم السريع بعد دخولها إلى ولاية الجزيرة، عكس ما حدث في محليات غرب الجزيرة.
ورأيناه في ردة فعل قوات الدعم السريع على انسلاخ (كيكل). فقد هاجمت هذه الميليشيا مدينة (تمبول) وبعض قرى المنطقة انتقاماً من (كيكل)، ونكلت بعدد من أفراد قواته. بل أصدر أحد قادة هذه الميليشيا أوامر لجنوده، في فيديو رائج، بتعذيب من يقع في أيديهم بوضع رأسه في كيس به فلفل حار وتركه عدة دقائق داخل حاوية مغلقة حتى يعترف، ثم تصفيته بعد ذلك، مؤكداً نجاعة هذه الوسيلة التي جربوها من قبل. ودعا آخرون إلى فرز قبلي بين حواضن الدعم السريع وبقية مكونات المجتمع السوداني الأخرى.
ورأيناه في نفرة قبيلة الشكرية لنصرة الأهل والعشيرة في تمبول والقرى المجاورة لها بعد هجوم الدعم السريع عليها. وفي نفرة قبيلة الكواهلة لنصرة الأهل في (سليم) بعد أن استباحتها ميليشيا الدعم السريع، ردة فعل على انسلاخ كيكل.
لذلك، نُصِرّ، وفي النفس حسرات، على تجرع سم القبلية لإقناع آخرين بأن يسلكوا درب كيكل ويضعوا السلاح وينضموا إلى القوات المسلحة، إذا شاءوا، مع أمنياتنا ألا يضطروا لحمله بأن تتوقف الحرب ويحملوا أدوات البذر ومناجل الحصاد.
ومثلما افتتحنا مقالنا بأبيات التني، نختم بأبيات له أخرى، كتبها وكأنه يستشرف المستقبل ويرى بعين الكشف لما سيؤول إليه حال وطنه بعد نصف قرن من وفاته، رحمه الله:
وطني شَقيتَ بشِيبه وشبابِهِ
زمناً سقاكَ السُّمَّ من أكوابهِ
قد أسلموكَ إلى الخرابِ ضحيةً
واليومَ قد طرِبوا لصوتِ غُرابهِ
وطني تَنازَعه التحزُّبُ والهوى
هذا يَكيدُ له وذاك طغى بهِ
ولقد يُعاني مِن جفا أبنائهِ
فوق الذي عاناهُ من أغْرابه