أولمبياد الأمم المتحدة لقهر الشعوب
أولمبياد الأمم المتحدة لقهر الشعوب
أ. مجدي مكي المرضي
يتدافع قادة وزعماء العالم – قويهم وضعيفهم – للمشاركة في الاجتماعات السنوية للجمعية العامة للأمم المتحدة، ويتبارون في حشد اجندتهم اليومية باللقاءات والاجتماعات “الهامة” لمناقشة القضايا الثنائية والإقليمية والدولية، ثم التقاط الصور التذكارية التي لا تعني شيئاً للشعوب المطحونة وهي التي تدفع ثمن هذه الرحلات الأممية والإقامات ذات النجوم الفلكية، وما ينتج عنها من سمرٍ وأنسٍ وسهرٍ وحسان، لتعود الطائرات الرئاسية إلى الديار وقد أُتخمت البطون وأُذهبت العقول وبقيت عالقة في الأذهان ذكريات الاجتماعات الرئاسية وهمسات اللقاءات الثنائية التي سيتمخض عنها، كما يعتقدون، خلاص الشعوب التي يمثلونها والدول التي قدموا منها!
تبنت الأمم المتحدة هذا العام ما يسمى “بميثاق المستقبل”، وهي نصوص خطها “الأقوياء” بهدف تحسين أوضاع الكوكب البشري، على المدى الطويل، وتعزيز دور المؤسسات الدولية متعددة الأطراف، حتى تتمكن من مواجهة تحديات تغير المناخ والإصلاح المالي وقضايا نزع السلاح. وقد لقي هذا الميثاق معارضة قوية من روسيا وحلفائها، مثل بيلاروسيا وكوريا الشمالية وإيران وسوريا، حيث كانت تسعى إلى إدخال تعديل في الميثاق يمنع الأمم المتحدة من التدخل في الشؤون الداخلية للدول. ومما يدعو إلى السخرية أن الغالبية من الدول رفضت هذا المقترح، مما يعني ضمنياً قبولها بتدخل المنظمة في شؤون الدول “الأخرى”، ليس من بينها دولهم، بطبيعة الحال.
وصفت الأمم المتحدة الميثاق بأنه التزام ببداية جديدة في “التعددية”. وتناول بعض القادة موضوع الديمقراطية، باعتبارها تعني حرية الاختيار، وأن حرية الاختيار هي القلب النابض للديمقراطية، وهلم جرا من المفردات البراقة والمصطلحات الفضفاضة، التي يستعملها “الغرب” بوعيٍ ومعرفة ويطبقها على طريقته، بينما يسمعها “العرب” وهم صمٌ بكمٌ عميٌ، بل يجعلون أصابعهم في آذانهم خشية فهمها وإدراك معانيها، وإن فعلوا فإنهم لا يسمحون بتطبيقها، لأنها لا تتماهى مع الواقع والأنظمة السائدة وتتعارض مع الفكر السياسي الذي تعتنقه وتؤمن به النخب السلطوية الحاكمة في دولنا العربية الإسلامية.
استخدم بعض القادة، ومن بينهم رئيس المجلس الأوروبي، والذي يمثل 27 دولة أوروبية، في خطابه أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، مصطلحات لا توجد في قاموسنا “الإسلاموعربي” وتجهلها دولنا “ذات الحسب والنسب”، حيث استخدم من بين مصطلحات سحرية أخرى، مفردة “التعددية” وهو لا يدري أنها زرعٌ لا ينمو في بيئتنا، فمناخ منطقتنا ينعدم فيه أكسجين الحرية اللازم لنمو هذه النبتة.
كان من الأنسب أن تلزم المنظمة الأممية قادة العالم الكبار، الذين يخاطبون شعوب العالم عبر منصتها، تخير المفردات المناسبة والمصطلحات المفهومة التي يمكن إنزالها على أرض الواقع وتطبيقها على الجميع حتى تكون ذات مصداقية وشمولية.
تنعقد الجمعية العامة للأمم المتحدة كل عام. وتجتهد كثيراً، منذ تأسيسها في أربعينيات القرن الماضي، في طرح قضايا سكان هذا الكوكب، وتطلق الشعارات البراقة التي تلامس أشواق الشعوب المستضعفة والدول مهيضة الجناح، فيعتقد قادتها أنهم على موعد مع الخلاص الأممي عبر تحقيق الأمن والسلام الدوليين. ويحلم “الصغار” بتحقيق العدل والديمقراطية ومحاربة الفقر والجوع والوعد بالرفاهية والنمو والازدهار، بينما يتغامز “الكبار” بأنهم قد نجحوا في تخدير شلة الغوغاء إلى حين، لتعاد الكرة وقد عادت الوفود إلى مباني الأمم المتحدة بنيويورك، لتبدأ فصول المؤامرة والمهزلة السنوية، ثم ينفض السامر كما بدأ!
لم نسمع أن المنظمة الأممية قد نجحت في نزع فتيل أزمة ما خلال الصراعات العنيفة التي يشهدها العالم منذ زمن طويل، ولم تستطع أن تتدخل بشكل مباشر في وقف نزيف الدم وقتل الشعوب وهدم الدول كما يحدث الآن في السودان وغزة ولبنان. ولربما تساءل الكثيرون عن جدوى هذه المؤسسة الكرتونية العبثية التي لا تستطيع إلا أن تشجب وتدين وتستنكر قتل الأبرياء وسحق الشعوب وهدم الدول!
ما الذي يمنع الكيان الصهيوني، إن رغب، من التوغل أكثر في لبنان وقصف سوريا وهدم الأردن ودك إيران؟ أي قانون يمنع هؤلاء من حرق آبار النفط في دول الخليج، ليشاهدوا ألسنة اللهب المتصاعدة، عبر الشاشات العملاقة داخل مقارهم المحصنة، وهي تقضي على الأخضر واليابس، وتلون بالسواد سماوات دول الخليج حداداً على دولٍ تهدم وشعوب تباد، بينما تتعالى ضحكاتهم فرحاً بالانتصار؟ وقد أحرق “نيرون” روما فقط لكي يغني!
عندما لا يردع القانون إجرام الدولة، بل وتساعدها دولٌ كبرى في غيها وطغيانها وهي تمد لسانها استهزاءً بالقانون وقرارات أجهزة العدل الدولية، فليذهب ذلك القانون غير مأسوف عليه، بكل مؤسساته وأجهزته، وليحكم العالم قانون الغاب الذي ينص على البقاء للأقوى، وهو القانون الوحيد الذي لا يحتمل التلاعب به أو الالتفاف عليه.
إن ازدواجية المعايير والنفاق الدولي يتربعان على قائمة المبادئ التي تعمل بها الأمم المتحدة ومجلسها الأمني، وينزوي تماماً مبدأ القانون الإنساني الدولي، فهو مثل “خيال المآته” الذي تخاف منه الطيور باعتباره حائلاً بينها وبين صيدها من زرع وثمار وغيره، لكنه في الحقيقة لا يعدو أن يكون خرقة بالية على عود يابس! ومن المفارقة أيضاً أن مبدأ القانون الإنساني الدولي المعاصر، والذي يتم تدنيسه كل ثانية في عالم اليوم، قد نتج في لحظة إنسانية صادقة، عندما شاهد هنري دونان، رجل الأعمال السويسري، ما حدث في معركة سولفرينو، بين الجيشين الفرنسي والنمساوي، والتي سقط فيها أربعون ألف جندي، ما بين قتيل وجريح من الجانبين خلال 16 ساعة فقط، ليقوم بحث الأهالي على مساعدة الجميع دون فرز، لتنبثق بعد ذلك فكرة تأسيس اللجنة الدولية للصليب الأحمر ليتطور الأمر بعد ذلك إلى صياغة قانون إنساني دولي لحماية الناس في زمن الحروب.
ما يحدث الآن في السودان وغزة ولبنان هو سقوط شنيع لكل معاني القيم الأخلاقية والمبادئ الإنسانية، وقد أصبحت كل بيانات الشجب والإدانة عبارة عن أسطوانات مشروخة يمل الشخص من سماعها، بل صارت دون مستوى توصيف ما يحدث في هذه البؤر المستعرة والدول المنكوبة.
إذا لم يكن باستطاعة الأمم المتحدة ومجلسها الأمني وكل الجهات المعنية بإنفاذ القانون الدولي أن تقوم بواجبها في تطبيق القانون، وتوقف مذابح غزة ولبنان والقتل والدمار في السودان، فعليها أن ترفع البطاقة الحمراء لنفسها وتنسحب من الميدان، ولتتحول إلى مؤسسة تُعنى بتنظيم أولمبياد ضخم لقهر الشعوب، ليكون التنافس الحقيقي في ابتكار أبشع صنوف العذاب والقهر والإذلال للشعوب والهدم والدمار للدول، ولتكن منصة الأمم المتحدة مكاناً لتتويج “الكبار” على سحقهم “للصغار”!