صراع الهوية والانتماء في رواية «الفصل الخامس»: قراءة لتحولات الذات بين الماضي والحاضر
صراع الهوية والانتماء في رواية «الفصل الخامس»: قراءة لتحولات الذات بين الماضي والحاضر
د.أحمد الفلاحي
وصلتني رواية “الفصل الخامس” للكاتبة أحلام لقليدة وهي من الروايات الصغيرة بعدد صفحات 118 صفحة، عن دار سليكي أخوين بطنجة.
هذه الرواية أجبرتني على قراءتها دفعة واحدة والكتابة عنها. فهي تعد من الأعمال الأدبية التي تعكس صراعاً إنسانياً عميقاً حول الهوية والانتماء في عالم تتداخل فيه الثقافات وتتزايد فيه التناقضات الاجتماعية بمختلف تنوعاتها. فالرواية تنقل رحلة البطلة التي تعيش بين ضواحي باريس وبلدتها الأصلية في المغرب، حيث تعبر عن معاناتها الشخصية الناتجة عن الفجوة الثقافية بين حياة المدينة والريف، والضغوط الاجتماعية الذي تواجهها كامرأة تسعى لإيجاد مكانها بين تلك العوالم المتباينة.
تعتمد الرواية على أسلوب سردي متداخل بين الماضي والحاضر، أسلوب يعالج مواضيع الهوية، الغربة، والتقاليد بأسلوب شاعري وتأملي. ومن خلال تحليل نقدي معمق لهذه الرواية سوف أقوم بتفكيك عناصرها السردية والشخصيات، إضافة إلى مناقشة المواضيع المحورية والأسلوب الأدبي الذي اتبعته الكاتبة.
البنية السردية
البنية السردية لرواية “الفصل الخامس” معقدة وغير تقليدية، حيث تتمحور حول الانتقال المتكرر بين زمنين، الماضي والحاضر، إذ تبدأ الرواية بوصف البطلة لحياتها اليومية في ضواحي باريس، كما تستعرض تأملاتها من خلال الحنين إلى مسقط رأسها وذكريات طفولتها في قريتها البعيدة. هذا الانتقال المستمر بين الأزمنة يعكس حالة الازدواجية التي تعيشها البطلة، كما يعزز الشعور بالاغتراب الذي يطغى على النص.
ومن مزايا البنية السردية في الراوية ما يعرف بالتداخل الزمني، وهو قدرة الكاتبة على الانتقال بين الماضي والحاضر، مما يضيف للرواية عمقاً نفسياً وشعوراً بأن القارئ يعيش في زمنين متوازيين، حيث لا يُعتبر الماضي مجرد ذكريات، بل جزءً فعلياً من حاضر البطلة.
الشيء الأخر الذي يميز البنية السردية هو مرونة السرد حيث كان الانتقال بين الأحداث والذكريات سلساً، هذا الانتقال ساعد في إبراز التوتر الداخلي للبطلة التي تعيش بين عوالم مختلفة. هذا النهج يبرز بمهارة كيف أن الإنسان قد يظل محاصراً في ذكريات ماضية تؤثر على قراراته وحياته في الحاضر.
ومع تلك المزايا، إلا أنه تظهر بعض الهنات التي أرى أراها ليست مثلبة بل ينبغي الالتفات لها في البنية السردية حتى تكون متكاملة ومتسقة ولا تحدث إرباكا للقارئ. فمثلا يمكن أن يكون الانتقال بين الأزمنة مزعجاً أو يسبب تشثتًا، خاصة عندما لا تتوفر فواصل واضحة بين الماضي والحاضر، كما أن الاعتماد المتكرر على “الفلاش باك” دون إشارة واضحة قد يجعل من الصعب متابعة الرواية بسلاسة. ففي بعض الأحيان، يعاد نفس الشعور بالحنين أو الأسى على نحو متكرر، مما قد يؤدي إلى إبطاء وتيرة السرد دون تقديم عناصر جديدة تدفع القصة إلى الأمام.
الشخصيات
الشخصيات في “الفصل الخامس” تتميز بالعمق النفسي والتعقيد، خاصة الشخصية الرئيسية “راوية” التي تمر برحلة من الاضطراب النفسي والصراع الداخلي، فتعكس شخصية البطلة امرأة تعيش بين عالمين هما القرية والمدينة، الماضي والحاضر، التقليد والحداثة.
- رواية (البطلة الرئيسية)
تعد “رواية” قلب السرد ومحور الأحداث. فمنذ اللحظات الأولى يظهر أن لديها ارتباطاً وثيقاً بماضيها وبالتحديد بقريتها وذكرياتها مع عائلتها. رغم أنها تعيش في باريس، إلا أن ذكريات القرية تظل حاضرة في ذهنها، وتعكس حالتها الداخلية بين الحنين والاغتراب.
ونلحظ تطور شخصية البطلة “راوية »، وهي تعيش في حالة من الاضطراب الداخلي، محاصرة بين ماضيها وحاضرها، لكنها تتطور تدريجياً لتصبح أكثر قوة ووعياً بذاتها مع مرور الزمن، هذا التطور يجعل القارئ يتعاطف معها ويتابع رحلتها النفسية بفضول.
في الرواية يتم تمثيل الازدواجية الثقافية للبطلة “راوية” فهي تمثل حالة الكثير من المهاجرين الذين يعيشون في عالمين مختلفين، فنجدها تمزج بين التقاليد الريفية والحداثة الباريسية.
- الشخصيات الثانوية
في رواية “الفصل الخامس”، تُعد الشخصيات الثانوية جزءاً مهمًا من تطور البطلة “راوية” وصراعاتها الداخلية، ومن أبرز هذه الشخصيات مريام، وهي صديقة البطلة التي تلعب دوراً حيوياً في حياتها. فمريام تعكس القوة والاستقلالية، فهي تمثل نموذجاً للمرأة التي تملك الحرية في اتخاذ قراراتها دون قيود مجتمعية صارمة، ومع ذلك، قد تواجه بعض التحديات التي تشترك فيها مع البطلة. دور مريام يعمق من فهم “راوية” للعلاقات الاجتماعية في مجتمع حديث، ويبرز الصراع الداخلي الذي تعيشه البطلة بين تبني هذه الأفكار الجديدة والتمسك بتقاليدها القديمة.
الشخصية الذكورية “عمي عزوز” تمثل السلطة التقليدية، ويعتبر زواجه من والدة البطلة بعد وفاة الأب دليلًا على قوة وتسيد التقاليد التي تحاول البطلة الهروب منها، مما يعمق الصراع النفسي داخلها.
كما تلعب الشخصيات الثانوية مثل الأم والجدة دوراً مهماً في تعزيز القيم المجتمعية التقليدية التي تحاول “راوية” الهروب منها أو التكيف معها. فالأم تمثل الرمز الأبوي والتقاليد القوية، بينما الجدة تعزز الروابط العائلية والأهمية الكبيرة للقبيلة.
من مزايا الشخصيات الثانوية في الرواية، تحملها للمعاني الرمزية باعتبارها أدواراً رمزية تُستخدم كأدوات لتعزيز الرمزية في الرواية، حيث تعكس الأم والجدة الثقل الاجتماعي للتقاليد والأعراف التي تشكل شخصية البطلة.
إلا أن الشخصيات الذكورية في الرواية مثل “موح” و”عمي عزوز”، تفتقر إلى التعقيد مقارنة بالشخصيات النسائية، وغالباً ما تكون هذه الشخصيات نمطية وتعكس الدور التقليدي للرجل دون تعمق في مشاعرهم أو دوافعهم. عدا شخصية تيراب التي تمثل شخصية مركبة، ولها تأثير مباشر وغير مباشر على البطلة.
فعلاقته بالبطلة تحمل أبعادًا نفسية واجتماعية، تؤثر بشكل كبير على تطور شخصيتها ورؤيتها للعالم. كما يجسد نوعًا من القوة الغامضة، إذ يمثل الماضي الذي يطارد البطلة ويعمق شعورها بالاغتراب.
أما مومو ومارك، فهما شخصيتان تجسدان البُعد الآخر لمسألة الهوية والانتماء. مومو يعكس شخصية المهاجر الذي يواجه تحديات الانتماء والتكيف مع المجتمع الباريسي، بينما مارك يمثل الجانب الغربي من هذا الصراع، حيث يعبر عن الاندماج والتكيف مع الحداثة. كلاهما يظهران كيف أن الهوية يمكن أن تتشكل وتُعاد صياغتها بناءً على التفاعل مع الآخر والمجتمع المحيط.
الأسلوب الأدبي
يتميز أسلوب أحلام لقليدة بالشاعرية والعمق الفلسفي. فهي أتت للرواية من باب الشعر، إذ ظلت روحها الشعرية حاضرة في الرواية، فلغة الرواية تعكس مشاعر البطلة المعقدة والاغتراب الذي تعيشه، كما تعتمد الكاتبة على الوصف الدقيق والتأملات الفلسفية التي تجعل القارئ يغوص في أعماق الشخصية الرئيسية.
وأظن أن اللغة الشعرية تعد ميزة في هذه الرواية. فالكاتبة تستخدم استعارات وصورا وتراكيب شعرية تمنح النص بُعداً فلسفياً ووجدانياً. كما أن لغتها تعكس حالة الاغتراب والحزن التي تعيشها البطلة، وهذا بنظري يعمق العلاقة بين القارئ والنص. كما أن التركيز على التفاصيل مثل الوصف الدقيق للعالمين (القرية وباريس) يعزز من قوة السرد، والذي من خلاله يستطيع القارئ تكوين صورة واضحة عن المكان والزمان في الرواية.
في بعض الأجزاء من الرواية قد يشعر القارئ بالإطالة نتيجة الاستخدام المتكرر للوصف الشاعري وهذا يبطئ من حركة الأحداث دون أن يضيف قيمة جديدة للسرد. أما الاعتماد المفرط على التأملات رغم أنها تضفي على الرواية عمقاً إضافياً، إلا أنه قد يجذب بعض القراء لكنه قد يُبطئ وتيرة القصة لدى البعض الآخر.
المواضيع الرئيسية
تناقش الرواية العديد من المواضيع العميقة التي تتعلق بالهوية والانتماء والاغتراب، والتقاليد مقابل الحداثة، إذ تتمحور الرواية حول هذه التيمات المتداخلة بشكل متكرر في النص، فهي تساهم في تشكيل شخصية البطلة وتطورها عبر أحداث الرواية.
- الهوية والانتماء
من خلال شخصية “راوية”، تناقش الرواية مسألة الهوية والانتماء، وكيف أن الإنسان قد يجد نفسه عالقًا بين ماضيه ومستقبله. فالبطلة تعيش في باريس، لكنها تشعر بأن جزءاً كبيراً من هويتها لا يزال مرتبطاً بالمهد، قريتها وتقاليدها ونشأتها التي شكلت كل شخصيتها.
- الصراع بين التقاليد والحداثة
تُظهر الرواية الصراع الذي تعيشه “راوية” بين تمسكها بتقاليدها الريفية ومحاولتها للاندماج في مجتمع حديث مثل باريس، فهذا الصراع يظهر في عدة مواضع من الرواية، إذ تجد البطلة نفسها عاجزة عن التأقلم الكامل مع أي من العالمين، مما يعمق شعور الاغتراب.
- دور المرأة في المجتمع
تناقش الرواية أيضاً دور المرأة في المجتمع، وكيف أن البطلة تجد نفسها محاصرة بين تقاليد بلدتها التي تتطلب منها أن تتصرف وفقاً لقواعد محددة، وبين رغبتها في التحرر والعيش بطريقة مستقلة، هذا الصراع يظهر بشكل خاص في العلاقات الرومانسية التي تخوضها البطلة، وفي تجربتها مع الزواج التقليدي.
- الاغتراب
الاغتراب هو أحد المحاور الرئيسية التي تحيط بالرواية، حيث تعيش البطلة حالة من الاغتراب المكاني والزماني، سواء في باريس أو في بلدتها، ويتجلى هذا الشعور في التأملات الفلسفية التي تطرحها الرواية حول الهوية والانتماء، وحالة البطلة النفسية التي تجعلها تعيش في حالة دائمة من البحث عن الذات.
النهاية في الرواية
في نهاية الرواية، تظل البطلة “راوية” عالقة في حالة من التساؤل حول هويتها ومصيرها، مما يعكس الطبيعة المفتوحة للرواية، في اعتقادي لم تقدم الرواية حلولًا نهائية للصراعات الداخلية التي تعيشها البطلة، بل تركت النهاية مفتوحة للتأويل، مما يعزز الشعور بالضياع والاغتراب الذي سيطر على النص بأكمله. الكاتبة ومن خلال هذا الأسلوب تدعو القارئ للتفكير في قضايا الهوية والانتماء بطريقة أكثر فلسفية، مما يجعل من الرواية عملًا يتجاوز السرد القصصي التقليدي إلى مستوى أعمق من التأمل الإنساني.
يمكن القول، إن رواية “الفصل الخامس” لأحلام لقليدة هي عمل أدبي غني بالتفاصيل النفسية والاجتماعية، تقدم فيه الكاتبة رؤية معقدة لحياة امرأة تحاول التوفيق بين عالمين متناقضين، وتم استخدام السرد غير الخطي واللغة الشاعرية وهذا يعكس عمق التجربة الإنسانية للبطلة مما يجعل القارئ يشعر بتوترات الهوية والانتماء التي تعيشها.
وقد امتازت الرواية بالأسلوب السردي الفريد فهو يعتمد على التداخل بين الأزمنة، وهذا من وجهة نظري يعمق الفهم النفسي للشخصية. أما الشخصيات النسائية المعقدة في الرواية وخاصة شخصية البطلة فإنها تعكس حالة مزدوجة من الصراع النفسي بين القديم والجديد.
وعن المواضيع الفلسفية التي تطرقت إليها الرواية مثل الهوية والانتماء والغربة فهي تعكس تجارب الكثير من الأفراد في المجتمعات المتغيرة.
وما يمكن أخذه على الكاتبة في هذه الرواية هو إطالة بعض المشاهد، والتي فيها يمكن أن يشعر القارئ أحياناً بالملل بسبب الوصف المطول، مما يؤدي إلى إبطاء إيقاع القصة.
كما أن بعض الشخصيات الثانوية مثل الشخصيات الذكورية، على وجه الخصوص، تبدو أحيانا نمطية ولا تضيف الكثير إلى تعقيدات السرد.
نستطيع القول إن الكاتبة أحلام لقليدة قدمت تجربة عميقة حول البحث عن الذات، وتواجه القارئ بأسئلة حيوية عن الهوية والاغتراب. في هذه الرواية التي تعكس حياة مليئة بالتناقضات تجعل من الصعب الفصل بين الماضي والحاضر، بين التقاليد والحداثة، وبين الانتماء والغربة، هذه التناقضات تجعل النص عملاً أدبياً يستحق التأمل والنقد، حيث يفتح المجال للقارئ للغوص في عوالم متعددة واكتشاف المزيد عن الشخصية الإنسانية.