المطالبة بتدخل أممي في السودان: ازمة اللاواقعية المزمنة لدى القوى السياسية السودانية
المطالبة بتدخل أممي في السوادان: أزمة اللاواقعية المزمنة لدى القوى السياسية السودانية
أ. المعز محمد الحسن
الاعتقاد بإمكانية تدخل أممي في السودان ينطوي على الكثير من عدم الإدراك للتغييرات العميقة التي حدثت في النظام العالمي، والعلاقات الدولية، وطبيعة القوى المؤثرة في العالم، وتعقد وتشابك المصالح التي تحرك هذه القوى، بما يجعل عملية التدخل الدولي في الصراعات في غاية العسر، خصوصاً بسبب صعوبة الوصول لتوافق دولي حولها.
يضاف إلى ذلك الكلفة المالية العالية لبعثات حفظ السلام الدولية وما يقابلها من معدل متدن لنجاحها في تحقيق الاستقرار والأمن في مناطق تدخلها. لنأخذ، كمثال، بعثة حفظ السلام الحالية في هاييتي التي أقرها مجلس الأمن في أكتوبر 2023 والمكونة من 12 ألف شخص. قدرت التكلفة السنوية لهذه البعثة ب 600 مليون دولار، إلا أن ما تم توفيره لم يتجاوز 400 مليون دولار في العام. وعلى الرغم من مرور أكثر من عام على قيام هذه البعثة، إلا أن ما حققته كان محبطاً، وأقل بكثير من المستوى المأمول. فلا زالت هاييتي ترزح تحت مجازر العصابات الإرهابية التي قتلت خلال ثلاث سنوات ما يقارب 10 آلاف شخص، وهجرت أكثر من 700 ألف شخص. ذلك يجعل الكثير من الدول المانحة تنظر لتلك النفقات كإهدار لأموال هي في أمس الحاجة إليها لمواجهة أوضاع داخلية صعبة. ولذلك لا غرابة في أن المنظمات والمؤسسات الدولية كالأمم المتحدة أصبحت تعاني كثيراً في توفير ما يلزمها من نفقات بسبب التراجع المتزايد من قبل الدول الغنية تجاه المساهمة في تلك النفقات. فهذه الحكومات أصبحت تولي اهتماماً أكبر لأوضاعها الداخلية حيث يعتمد وجودها قبل كل شيء على تقييم أدائها الاقتصادي بما في ذلك مؤشرات النمو والبطالة والديون والتضخم وقيمة العملة، وغير ذلك، بما يجعل أي تغير في هذه المؤشرات، صعوداً أو هبوطاً، وإن كان بمقدار كسر من واحد بالمائة، ذا تأثير على الحكم على نجاح الحكومات.
وفقاً للكاتب النيجيري أوبي أنياديكي (Obi Anyadike)، المتخصص في الشؤون الإنسانية والصراعات في أفريقيا، فإن عدد الجنود العاملين في مهام حفظ السلام في أفريقيا قد تناقص بشكل متواتر من أكثر من 80 ألف جندي في العام 2014 ليصل بنهاية هذا العام إلى 35 ألف جندي تقريباً. ويرى أنياديكي أن بعثات التدخل الدولي تعاني من ازمة حقيقة تتجلى بشكل واضح في جمهورية الكنغو الديمقراطية حيث تستعد بعثة حفظ السلام المعروفة باسم “مونسكو” لمغادرة البلاد بعد عشرين عاماً من المصاعب دون أن تنجح في حماية المدنيين وإعادة الاستقرار للمنطقة. لقد كانت تلك البعثة المكونة من 16 ألف جندي هي الأكبر والأكثر كلفة في تاريخ الأمم المتحدة على الإطلاق. يعتقد الكاتب أن هنالك ثلاث إشكالات رئيسية وراء الأزمة التي تعاني منها مسألة التدخل الدولي: الإشكال الأول هو التغير في طبيعة الصراعات حيث أن الأطراف المتنازعة أصبحت أكثر قوة وأكثر سرعة في الحركة. ويتمثل الإشكال الثاني في لا واقعية المهام والأهداف التي يكلف بها مجلس الأمن بعثات حفظ السلام وعدم تناسب الأدوات التي يضعها تحت تصرفها لتنفيذ تلك المهام. أما الثالث فهو الانقسامات الكبيرة في النظام العالمي التي تجعل التوافق حول أهداف البعثات الدولية من الصعوبة بمكان.
تجربة هاييتي تبين أن إمكانية إرسال بعثة دولية لحفظ الأمن في السودان هي مسألة شبه مستحيلة. فمن ناحية المساحة تبلغ مساحة هاييتي حوالي 27 ألف كيلو متر مربع، أي ما يعادل مساحة ولاية الخرطوم تقريباً. ذلك يعطينا فكرة عن حجم التمويل المهول المحتمل المطلوب لقيام بعثة أممية في مناطق النزاع الممتدة على مساحات شاسعة في عدة أقاليم كل منها بحجم دولة أو أكثر، وما يترتب على ذلك من صعوبات لوجستية وأمنية وصعوبات متعلقة بطبيعة الصراع المعقدة ووجود الكثير من القوات والعصابات التي لا تخضع لأية سيطرة. علماً بأنه من جملة أكثر من مليار دولار طلبتها الأمم المتحدة لتمويل عملية إغاثة اللاجئين السودانيين في دول الجوار، بلغ ما حصلت عليه من المانحين اقل من ثلاثمائة مليون دولار.
بالأمس غرد المحلل الأمريكي كاميرون هدسون قائلاً: “إن الذين يعتقدون، ولو قليلاً، بإمكانية فرض نوع من الحماية في السودان بتصريح من الأمم المتحدة، سواء كان ذلك تحت مظلة الإتحاد الأفريقي أو الأمم المتحدة، عليهم أن يعيدوا التفكير. سوف تكون الأمم المتحدة محظوظة إذا استطاعت أن تحصل على ميزانيتها في العام القادم”.