طائر الشؤم الأمريكي يعاود التحليق من جديد!
طائر الشؤم الأمريكي يعاود التحليق من جديد!
أ. مجدي مكي المرضي
لخّص الزعيم الكوبي الراحل، فيدل كاسترو، الجدل الدائر عن أيهما الأفضل لكرسي الرئاسة خلال سباق الانتخابات الأمريكية في العام 1960م بين المرشح الجمهوري، ريتشارد نيكسون، والمرشح الديمقراطي، جون كينيدي، بعبارة تاريخية فحواها أنه لا يمكن المقارنة بين حذاءين يلبسهما الشخص ذاته، مضيفاً أن أمريكا تدار بواسطة حزب واحد وهو الحزب الصهيوني، وله جناحان: فالجناح الجمهوري يُمثّل القوّة الصهيونية المُتشدّدة، والجناح الديمقراطي يُمثّل القوة الصهيونية الناعمة!
كنت أتمنى أن تجلس كامالا هاريس على كرسي الرئاسة في البيت الأبيض، ليس حباً في ثوبها الديمقراطي، وإنما لأسباب جنادرية بحتة، فهي فرصة ليُدار العالم “علناً” بمزاج أنثوي، ولكي ترسم بفرشاتها، ذات الألوان المتعددة، خارطة العالم الجديد على جدران المكتب البيضاوي!
أبدت أوروبا قلقها مبكراً وحبست أنفاسها مسبقاً من النتائج المتوقعة لهذا السباق الانتخابي، إذ أن تجربتها مع دونالد ترامب في نسخته الأولى كانت صعبة وقاسية ولهذا رحبت ترحيباً حاراً بجو بايدن عند فوزه بانتخابات الرئاسة في العام 2020م. وقد استبق حزب الشعب الأوروبي (EPP)، تيار الأغلبية في الاتحاد الأوروبي من يمين الوسط، العودة المحتملة لدونالد ترامب إلى البيت الأبيض، بنداء أطلقه زعيمه الألماني، مانفريد ويبر، دعا فيه الأوروبيين إلى الاستعداد لأي حرب محتملة دون دعم من الولايات المتحدة الأمريكية، بل وطالب أوروبا ببناء مظلة نووية لتشكيل الردع النووي الأوروبي. وقد شدد ويبر على ضرورة تبني أوروبا لذلك الطلب إذ أن حلف شمال الأطلسي الذي تعتمد عليه أوروبا في حمايتها يعتمد حالياً بشكل كبير على الرؤوس الحربية النووية الأمريكية، وهو يشير ضمناً إلى أن الحل النووي هو العامل الحاسم في أي مواجهة عسكرية محتملة بين الكبار.
أعاد الناخبون الأمريكيون، البيض منهم والملونون، ترامب إلى البيت الأبيض وهو الذي هاجم أنصاره مبنى الكابيتول، في مشهد تاريخي لم تألفه أمريكا في العصر الحديث، وهو الرئيس الذي طالته عشرات القضايا والتهم وقصص التحرش بالنساء، ولكن ذلك لم يمنع أمريكا الديمقراطية، التي ينتصب فيها تمثال الحرية الفرنسي، أن ترحب مرة أخرى بالمرشح الجمهوري، ليقود البلاد نحو مصير مفتوح نحو كل الاحتمالات.
ساهم العرب والمسلمون كذلك، في إعادة دونالد ترامب إلى البيت الأبيض، وهو الذي جاهر بعدائه لهم وقال بأنهم غير مرحب بهم في بلاده، ولكنه فاز بدعمهم حتى ولو كانوا لا يمثلون إلا 5% فقط من الأصوات. قاد ترامب اتفاقيات التطبيع الإبراهيمية بين بعض الدول العربية والكيان الصهيوني، ونقل سفارة بلاده من تل أبيب إلى القدس الشرقية، في تحدٍ سافر للجميع، ولكنه عاد مرة أخرى إلى المكتب البيضاوي بأصوات عربية ومسلمة. قال ترامب بأنه سيقف كتفاً إلى كتف بجانب إسرائيل عند فوزه بالرئاسة، في الوقت الذي تقتل فيه تل أبيب النساء والأطفال في غزة ولبنان، ولكن ذلك لم يمنع الناخب العربي والمسلم من منح ترامب بطاقة الدخول إلى البيت الأبيض ليتخذ الأوامر التنفيذية الصارمة بدعم إسرائيل وإبادة الشعب العربي في غزة وجنوب لبنان وغيرها من المناطق. عاد دونالد ترامب إلى السلطة بمساعدة صهره “العربي” الذي نجح في تعبئة الجالية العربية في الولايات المتأرجحة لصالحه، ففاز ترامب وهو ينتظر حفيده “الهجين” الذي سيخرج إلى العالم وهو يحمل جينات عربية وأخرى “ترامبية”، ليترعرع ذلك الحفيد العربي داخل البيت الأبيض الأمريكي ويلهو في حدائقه الغناء بينما يمنح جده الإذن لإسرائيل لقتل أهله في لبنان وجيرانهم في غزة وما عداها.
على كل حال، هناك حقيقة ثابتة وهي فوز دونالد ترامب بانتخابات الرئاسة الأمريكية للعام 2024م ومن المنتظر أن ينتقل إليه كرسي الرئاسة في يناير من العام 2025م، وهي شيء يتخلق في رحم الغيب ولا يدري أحدٌ كيف سيصير الغيب واقعاً؟!
ما يُمكن أن يمنع أي شخص من تقلد أدنى درجة وظيفية في أكثر الدول فساداً في العالم، ساهم بأن يصبح الرئيس رقم 45 للولايات المتحدة الأمريكية رئيسها مرة أخرى تحت الرقم 47، الشيء الذي يدفع للاستنتاج بأن الأخلاق والقيم ليست معياراً لانتخاب رئيس أقوى دولة في العالم، وما الديمقراطية واحترام حقوق الإنسان والقانون الدولي إلا ترجمة للقيم والأخلاق على أرض الواقع!
على الصعيد العربي، فإن ترامب لم يخفِ رأيه عن سكان جزيرة العرب حتى قبل أن يدخل عالم السياسة، وقد شاهد العالم كله، ومن بينهم الشعوب العربية المسلمة، اللقاء الشهير الذي جمعه مع الإعلامية الأمريكية أوبرا وينفري، في العام 1988م، والذي تحدث فيه بمرارة عن رغد العيش الذي يعيش فيه أهل الخليج ودولهم باعتبارها حاضنة لأموال وثروات ضخمة لا تستحقها وأن عليها دفع حصة مقدرة لسيدتها أمريكا مقابل أمن واستقرار المنطقة والحفاظ على العروش وكراسي الحكم فيها.
لا يمكن محو آثار بصمات ترامب في القطيعة التي وقعت بين الأشقاء في الخليج، ذلك الشرخ الذي فرق بين أبناء العمومة وقاطع المسلم أخاه المسلم لسنين عددا، بينما وقفت إسرائيل تتفرج وهي تُخرج لسانها للعرب استهزاءً وسخرية وهى ترى الشعوب العربية المسلمة يمسك بعضها بتلابيب بعض وتنصرف عن عدوها التاريخي “دولة الكيان الصهيوني” ليكون العداء فيما بينها، وهو ما دفع مايكل أورين، سفير إسرائيل السابق لدى واشنطن إلى التغريد قائلاً “بأن هناك خطاً جديداً يُرسم في رمال الشرق الأوسط، فلا إسرائيل ضد العرب بعد اليوم بل إسرائيل والعرب ضد الإرهاب الذي تموله قطر”.
لم ينسَ العالم وصول ترامب، الذي أشبهه بطائر الرخِ القادم من بلاد العم سام، إلى أرض جزيرة العرب ومهبط دينهم الإسلامي، خلال ولايته الأولى، وكيف استقبلته الحشود الضخمة، وأعدت على شرفه الولائم الدسمة، فملأ معدته بما لذ وطاب، وحمل بين جناحيه الكنوز والمليارات، ثم قفل عائداً إلى دياره وقد أسكرته النشوة وألجمته الدهشة من احتفاء الفريسة بصيادها، ولربما اعتقد ساخراً أن هذا هو الكرم العربي الأصيل الذي تتغنى به دوماً الشعوب العربية المسلمة!
إن القلق الأوروبي يُفهم في سياق تنافس الكبار، ولهذا أتعجب من مواقف الأنظمة العربية الإسلامية التي تضيع وقتها في تحليل وصول القادم الجديد إلى البيت الأبيض وتظن أنه سيفتح صفحة جديدة في العلاقات الأمريكية-العربية الإسلامية، بل وتعتقد جازمة أن سيد البيت الأبيض الجديد سيكون نداً نبيلاً، بل ونظيراً مخلصاً، يدفع باتجاه تطوير العلاقات بين الطرفين، وتعزيز أواصر التعاون المشترك، وما درى هؤلاء المساكين، أن الرئيس الأمريكي الحالي أو القادم، هو بحكم الأمر الواقع سيدٌ عليهم، شاءوا أم أبوا، ولن يكونوا رصفاء له ولو اجتمعوا، وسوف لن يجتمعوا، بطبيعة الحال، حتى ولو ولج الجمل في سم الخياط!
على الكبار فقط أن يقلقوا ويفكروا في آليات التواصل مع القطب الأمريكي، أما الصغار فعليهم أن يلجأوا إلى ركن قصي في انتظار القادم عبر الأطلسي، ومن الأفضل أن يجهزوا مخزوناً كافياً من “المناديل”، فالنسخة الثانية من ترامب سوف تكون مسلسل رعبٍ وابتزاز يستمر لأربع سنين عجاف!
لا يمكن التنبوء بخطوات ترامب والسياسة التي سينتهجها في ولايته الثانية، ولهذا فعلى “دول الفتات العربي” و”دول الدومينو الأفريقي”، أن تنتظر مصيرها المجهول القادم من الثقب الأسود الجمهوري، فليس لدى “دول الهامش” امتياز التفكير في كيفية التعاطي مع القادم الجديد، فهو قدرهم المحتوم، وماعليهم سوى الانتظار!
ليس من المستغرب أن يقوم ترامب بزيارة خاطفة إلى جزيرة العرب ليطالب قادتها بدفع فواتير حرب غزة وتعويض إسرائيل عن كل الخسائر التي لحقت بها جراء هذه الحرب، فمن قام بمغامرة “طوفان الأقصى” هم عرب مسلمون، ولهذا يجب على الأنظمة العربية الإسلامية أن تتحمل تبعات شطط هذه العناصر المارقة، ولربما ذكرهم بالتضامن بين المسلمين ونصرة المسلم لأخيه المسلم وأن المسلم للمسلم كالبنيان يشد بعضه بعضا! أليست هذه قيم الدين الذي نزل على أرض جزيرة العرب؟!
أما السودان “المنسي” فلن يكون له في ودّ ترامب نصيب، فهو قد عرف ذلك الجزء من أفريقيا من خلال موجة التطبيع في ولايته الأولى، أما وقد جرف “طوفان الأقصى” هذا المشروع الصهيوني، ولو إلى حين، فسينزوي السودان أكثر ولربما تم تغييبه تماماً وسط سيل الأولويات الاستراتيجية للحقبة الجمهورية القادمة، فلا مصلحة لترامب في بلدٍ مهدّمٍ، صارت بيوته قبوراً، وقراه ومدنه سجوناً، وشوارعه مساكن للأشباح والهوام!
إن أفضل خدمة يمكن أن يقدمها ترامب للسودان، هي أن يقوم بايدن، وهو في الرمق الأخير من ولايته، بتسريع حسم ملف الحرب في السودان، ولو عن طريق الحلفاء في المنطقة، حتى يُحسب ذلك في سجل انجازاته المتواضعة في هذا البلد، ومن بينها تعيينه متدرباً غراً في منصب مبعوث أمريكي خاص لبلد بحجم السودان، وتفويت الفرصة على خلفه إذا فكر في ذلك!
متى تعي العربُ الدرس وتفهم أن الغرب ينظر إليهم بعين ذليلة وأن الأنا العربية الزائفة تُسحق كل يوم داخل الغرف المغلقة عندما يُناقش “الشأن العربي الإسلامي” وأن ما يقوله الغرب عنهم علناً يخفي وراءه صورة قميئة للعربي المسلم الذي تُذهب عقله قنينة خمر معتق وتلهب دواخله تنورة قصيرة على جسد غانية شقراء فلا يملك إلا أن يجري وراءها ليبيع شرف أمة بأكملها في لحظة شبق وضعف، بينما يستشهد الشرفاء في معارك الكرامة والدفاع عن الأرض والعرض!
ليت الدول العربية المسلمة تحظر التحليق فوق سماواتها على طائر الشؤم الأمريكي الذي يرفرف بجناحيه الكبيرين استعداداً لرحلة القنص العربي، وإن عجزت فعليها أن تنصب سرادق العزاء لشرفها الذي سيستباح على أعين الأشهاد، وسيقف العربي المسلم ذليلاً يسترق السمع لصرخات كرامته المغتصبة! فلمن تكون الغلبة يا ترى، معسكر الكرامة والمواقف والشهامة، أم جماعة الخنوع والخذلان والخيانة؟!