لبنان: إعادة تكوين السلطة معبر لوقف إطلاق النار
لبنان : إعادة تكوين السلطة معبر لوقف اطلاق النار
د. حارث سليمان
توضح المواقف والوقائع والمعارك في الحرب المندلعة على ارض لبنان ان المسالة تتركز في موقفين لا ثالث لهما؛ الموقف الاول يستعجل الوصول الى وقف لاطلاق النار، ويستقطب هذا الموقف اكثرية واسعة من الشعب اللبناني وهي اكثرية تجلى موقفها مبكرا بمعارضتها حرب الاسناد التي اعلنها حزب الله نصرة لغزة، و قد انضمت لهذه الاكثرية لتصبح كاسحة تقارب الاجماع، شرائح شيعية اضافية واسعة، اكتوت بنار الحرب وذاقت طعم الدمار والتشرد، وهذه الشرائح صمتت، على مضض خلال الاشهر الاولى لحرب الاسناد، حيث كانت كلفة الحرب على المدنيين محصورة النتائج، بعناصر حزب الله وكوادره، وأمكن تحمل كلفتها، لكن الامر تغير منذ بداية شهر ايلول، حيث ان الميدان أظهر تفوقا إسرائيليا حاسما لا يرتدع لا بصواريخ حزب الله ولا حتى بمسيراته، كما أظهر قدرة اسرائيلية صادمة على إصطياد قيادات حزب الله وقصف مقراته وضرب مخازن اسلحته وقواعده العسكرية ومراكز إمداده ومقرات استخباراته واجهزته الامنية.
ويندرج تحت هذا الموقف مطالبة الرئيسين بري وميقاتي بوقف لاطلاق النار مقابل تعهد لبنان بالالتزام بتطبيق القرار الدولي ١٧٠١ ، والمضحك المبكي ان ما تطالب به “أطلال” ما تبقى من سلطة لبنانية كان مطلبا اسرائيليا واوروبيا واميركيا على مدى عشرة اشهر من حرب الاسناد، وقامت السلطة اللبنانية برفضه.
اما الموقف الثاني فهو موقف حزب الله وايران، وهو موقف لا يعترض على وقف اطلاق النار، اذا قبلت به اسرائيل دون مقابل، و يروج حزب الله لأمنية تفترض ان الوضع يمكن ان يستعيد نهاية حرب تموز سنة ٢٠٠٦، وان يكرر حزب الله ما فعله في ذلك الزمان، حيث التزمت حكومة لبنان بالقرار ١٧٠١، فيما قام حزب الله بتجويف مندرجاته، من داخل هذا الالتزام، واقام بناه العسكرية وتجهيزاته وانفاقه ومخازنه جنوب الليطاني، منتهكا القرار الدولي الذي يفرض اقامة منطقة خالية من سلاح حزب الله جنوب الليطاني. واذا كان هذا ألرهان يستند الى تقدير فعلي لقيادة حزب الله حول سير المعارك، فهو تقدير زائف، والارجح ان اطلاق مثل هذه السيناريوهات الوهمية ليست الا تغطية وتعمية عن الموقف الفعلي لحزب الله، الذي يسلم طهران إمرة القتال وامر التفاوض والوصول الى تسوية اقليمية شاملة، تجاهد طهران للوصول اليها مع الادارة الاميركية الجديدة، بقيادة ترامب، وقد اعلن عن ذلك عمليا، المرشد الخامنئي، حين اعتبر ان معركة لبنان هي متلازمة مع معركة غزة وهما مستمرتان، رغم كل المآسي والكوارث التي تسببهما للشعبين اللبناني والفلسطيني.
فالتسوية التي تسعى لعقدها طهران مع اميركا وبالنتيجة مع اسرائيل، هي تسوية اقليمية توقعها طهران في غزة ولبنان، ويتأكد من خلالها نفوذ طهران الاقليمي، وبسبب حظ لبنان العاثر وسوء طالع فلسطين، فان هذه التسوية لا يقبل مناقشتها ترامب، ولاترتضيها اسرائيل بقيادة نتنياهو.
فحكومة اليمين الاسرائيلي لن تسلم لايران بحيازتها قرار اشعال الجبهات وإخمادها لا في غزة ولا في لبنان، كما انها لم تقبل بقيام مصالحة ايرانية اميركية، كانت تسعى اليها ايران في عهد بايدن، ولذلك سعت الى تخريبها وحاولت اشعال حرب مباشرة مع ايران، تستدرج اميركا للمشاركة فيها، والمحاولة هذه، وان كانت قد فشلت مع إدارة بايدن، فان نجاحها مع ادارة ترامب يبدو احتمالا قويا.
إن تسوية تعقدها ايران مع اميركا ترامب، لن تبصر النور قبل ربيع السنة القادمة حتى لوقدمت فيها ايران كل التنازلات المطلوبة منها، وهي تسوية لا يمكن ان تقبل بها حكومة نتنياهو تحت اي ظرف وضمن اي اعتبار، فالنسبة لهذه الحكومة كل مصالحة ايرانية اميركية لا تتضمن قبولا ايرانياً بضمان امن اسرائيل، هي مصالحة خطرة ويجب اسقاطها.
لا وقف لاطلاق النار، في لبنان، من باب اتفاق اقليمي تعقده ايران، فهل هناك من باب لبناني يفتح الطريق لوقف اطلاق نار لبناني اسرائيلي!؟
المواجهات العسكرية بين الحزب وجيش الاحتلال تظهر تفوقا اسرائيليا لا جدال فيه، وان مقارنة الخسائر في كلا الطرفين تكشف دمارا شاملا في ٢٢ بلدة جنوبية على الحافة الجنوبية الامامية، التي اقتحمها الجيش الاسرائيلي وفجر انفاقها ومستودعاتها ومخازن اسلحتها ومبانيها، يضاف الى ذلك دمارا هائلا في الضاحية الجنوبية ل بيروت واحياء مسحت بكاملها في مدن النبطية وصور وبعلبك، في حين ان الخسائر على الجانب الاسرائيلي لا تتعدى اضرار جزئية في مباني عدد من مستوطنات الشمال لا يتعدى عددها عدد اصابع اليد الواحدة، واما المقارنة بين نتائج القصف الجوي والغارات التي يشنها الطيران الاسرائيلي في كل لبنان، وبين الخسائر الناتجة عن اطلاق حزب الله صواريخه المختلفة ومسيراته الانقضاضية الى شمال اسرائيل، وصولا الى حيفا وتل ابيب، فان الحقيقة التي يقوم الطرفان باغفالها هو ان الخسائر الفعلية الناتجة عن هجومات حزب الله هي قليلة و لا تقارن بما لدينا من خسائر.
يعلن حزب الله يوميا استهدافه شمال اسرائيل باكثر من مائة صاروخ على الاقل، فكم من هذه الصواريخ تصل الى اهدافها وتؤذي الجيش والمستوطنين !!؟
عمليا، اكثر من 80 % منها يتم تفجيرها بالجو بواسطة الدفاعات الجوية الاسرائيلية والقبة الحديدية، و البقية التي يجري عدم تفجيرها قبل وصولها لاهدافها، عائد لكونها موجهة لنقاط خالية مفتوحة، لا تستأهل تكاليف اسقاطها، او انها موجهة عن طريق الخطأ الى بلدات عربية وفلسطينية، وقد اصيبت هذه البلدات ( ك مجد الكروم والمطرة) بصواريخ حزب الله وسقط فيها عشرات الاصابات المعلنة، وبحصيلة قصف مائة صاروخ او مسيرة فان ما يصيب مستوطني الكيان اليهود وجنوده من خلال القصف لا يتعدى ٥ % من القذائف التي يجرى اطلاقها.
ولكي تكتمل صورة الميدان، فان المسيرات الكبيرة هي اكثر ايذاء من الصواريخ وهو ما ظهر في قصف معسكر جولاني شرق حيفا في بنيامينا، لكن هذه المسيرات رغم فعاليتها يمكن اكتشافها قبل وصولها في اغلب الاحيان.
رغم ذلك يصر امين عام حزب الله الحي الشيخ نعيم قاسم على ترداد جملة اعلنها الامين العام السابق المرحوم السيد حسن نصرالله، من أن الكلمة للميدان، وهو إصرار على جملة مضى اوانها، وقيلت في موازين وظروف اخرى، ويتبدى الميدان مأساة لبنانية خالصة تنشر الدمار والموت والخراب انى تواجد مبنى تابع لحزب الله، او تخفى عنصر من عناصره، ولو كان في اقاصي لبنان من عكار الى برجا او بعل شماية.
الكلام المتكرر عن ألميدان يفترض ان الميدان هو الذي سيفرض انهاء القتال دون تقديم اية تنازلات، وكأن الميدان العسكري يتبدى عن ازمة اسرائيلية حرجة، وهو امر ليس حقيقيا…
في حروب سابقة كانت اسرائيل تخوض حروبا خاطفة على مدى بضعة ايام او اسابيع، وكانت الخسائر البشرية في الجيش عاملا مقلقا لقيادتها تلتزم اولا بتلافيها، وجديد الميدان اليوم يقتضي الوعي الاكيد، ان اسرائيل الراهنة لم تعد كما كانت سابقا، فهي تخوض حربا طويلة منذ ٤٠٠ يوم، وقد دفعت في هذه الحرب بضعة الاف من القتلى واكثر من عشرين الف جريح، وهي عازمة على متابعة معاركها في غزة ولبنان وسورية وايران، الى اي وقت يتطلبه الوصول الى اهدافها.
ويتبدى السؤال حرجا، في ظل انخفاض الضغط العسكري الميداني على اسرائيل، وفي ظل صمت دولي وغربي وعربي تجاه الحرب على لبنان، يتبدى السؤال عن كيفية الوصول الى وقف اطلاق نار في لبنان لا ينتظر صفقة ايرانية اميركية!؟
والجواب هو الذهاب الى تسوية لبنانية اسرائيلية، جوهرها القرارات الدولية وعلى الاخص القرار رقم ١٧٠١، وهو امر ممكن التحقيق، اذا ما تم استيلاد سلطة لبنانية ذات مصداقية لبنانية وتتمع بثقة عربية وغربية، وتكون قادرة من جهةاولى على تنفيذ الالتزامات المدرجة في اتفاق التسوية، كما تكون مؤهلة لتقديم ضمانات مستمرة ودائمة لمنع نكوص حزب الله لاحقا عن بنود التسوية والعمل على تفريغ الاجراءات من مضامينها.
الازمة الاضافية هنا ان اطلال السلطة المتبقية، في ثنائي بري _ ميقاتي لا تملك اية مصداقية وغير مؤهلة لتقديم اية ضمانات. لذلك فإن الفبركات عن اتصالات ومراسلات تتم عبر الثنائي الرسمي، ليست الا لعبا في وقت ضائع، تتفاقم خلاله الكارثة الشيعية واللبنانية، وتمنح آلة الحرب الاسرائيلية مزيدا من الوقت لرخصة القتل الوحشي الذي تمارسه اسرائيل.
ان انتخاب رئيس للجمهورية وتشكيل حكومة جديدة واعادة تكوين السلطة وإنتظام المؤسسات الدستورية بات معبرا اجباريا ليس لانهاء الكارثة واستعادة الدولة فقط، بل لاقرار وقف لاطلاق النار أيضا!
ملاحظة: نشرته جنوبية اليوم 2024/11/14