السلاح الذي وضعه المحارب: الديمقراطية كأداة حماية و مناورة في السياسة الدولية و الإقليمية
السلاح الذي وضعه المحارب :
الديمقراطية كأداة حماية ومناورة في السياسة الدولية والإقليمية
د. محمد بن أحمد المرواني
المقدمة
في عالم السياسة المعقد والمليء بالصراعات، تجد الدول الصغيرة نفسها في مواجهة ضغوط كبيرة من القوى الكبرى، سواء كانت هذه القوى على المستوى الدولي أو الإقليمي. ولأن القوة العسكرية أو الاقتصادية ليست في متناول هذه الدول الصغيرة، فإنها تلجأ إلى استراتيجيات ذكية وأدوات دبلوماسية للتأثير والمناورة، وتحقيق أكبر قدر من الاستقلالية السياسية. ومن بين هذه الأدوات الفعّالة نجد الديمقراطية بمؤسساتها، وخصوصاً البرلمانات المنتخبة، بغض النظر عن صلاحيات هذه البرلمانات الا انها توفر للحكومة غطاءً سياسياً وقانونياً يُمكّنها من مقاومة الضغوط.
في هذا المقال، سنقوم بتسليط الضوء على أنواع الضغوط التي تواجهها الدول الصغيرة من القوى الدولية والإقليمية، وسبل المقاومة كما سنستعرض بعض الأمثلة التاريخية التي توضّح كيف استُخدم البرلمان كأداة لرفض الضغوط، وما يمكن أن ينتج عن غياب هذه المؤسسات من ضعف دبلوماسي وسياسي.
أولاً: طبيعة الضغوط الدولية والإقليمية على الدول الصغيرة
تتعرض الدول الصغيرة لضغوط متنوعة من القوى الكبرى، وتشمل هذه الضغوط الجوانب الاقتصادية والسياسية والعسكرية.
1. الضغوط الاقتصادية
تُعد العقوبات الاقتصادية من أبرز أدوات الضغط التي تستخدمها القوى الكبرى ضد الدول الأصغر منها، وتتخذ هذه العقوبات عدة أشكال:
العقوبات التجارية: فرضت الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي عقوبات اقتصادية على روسيا بعد ضمها لشبه جزيرة القرم عام 2014، مما أثر بشكل مباشر على الاقتصاد الروسي. وكانت هذه العقوبات تهدف إلى عزله اقتصاديًا وإجبار موسكو على تقديم تنازلات سياسية.
المساعدات الدولية المشروطة: تضع القوى الكبرى شروطاً سياسية للحصول على المساعدات المالية، مما يضع الدول الصغيرة تحت ضغوط اقتصادية كبيرة. على سبيل المثال، اشترطت الولايات المتحدة على بعض الدول الأفريقية الالتزام بحقوق الإنسان من المنظور الامريكي والمشاركة في برامج مكافحة الإرهاب على المفهوم الامريكي مقابل المساعدات.
تجميد الأصول: تُستخدم هذه الأداة لمنع الدول المستهدفة من الوصول إلى مواردها المالية. ومن أمثلتها تجميد الولايات المتحدة لأصول إيران وفنزويل و كذلك تجميد اوروبا و اليابات و الولايات المتحدة لاصول روسيا بعد العملية الخاصة في اوكرانيا، مما أدى إلى تضييق الخناق على حكومات تلك الدول.
2. الضغوط السياسية والدبلوماسية
بالإضافة إلى الضغوط الاقتصادية، تستغل القوى الكبرى نفوذها الدبلوماسي والسياسي لفرض إرادتها على الدول الصغيرة:
العزلة الدبلوماسية: تستخدم القوى الكبرى التهديد بعدم الاعتراف بنظام الحكم في الدولة او بالعزلة لإجبار الدول على الانصياع لاجندتها. على سبيل المثال، تلميح الكثير من الدول للقيادة السورية الجديدة بعدم الاعتراف بها و محاولة املاء شروط ييتوافق مع اجندات و مباديء الدول الكبرى .
كما واجهت كوريا الشمالية عزلة دبلوماسية واسعة بسبب برامجها النووية، مما أثّر سلباً على علاقاتها الدولية.
التأثير على نتائج الانتخابات: تتدخل القوى الكبرى أحياناً في الانتخابات الداخلية للدول لضمان فوز مرشحين يخدمون مصالحها، وهو ما تتهم به دول مثل روسيا والولايات المتحدة في بلدان أوروبا الشرقية.
3. التهديد العسكري
أخيراً، تستخدم القوى الكبرى التهديد العسكري لتحقيق أهدافها السياسية عندما تفشل الوسائل الأخرى:
التدخل العسكري المباشر: كما حدث في العراق عام 2003، حيث تدخلت الولايات المتحدة عسكرياً بذريعة وجود أسلحة دمار شامل. هذا التدخل أدّى إلى انهيار الحكومة العراقية وزيادة التوترات في المنطقة.
الدعم العسكري للمعارضة: تلجأ القوى الكبرى لدعم فصائل المعارضة في الدول المستهدفة كوسيلة للضغط، كما حدث في سوريا، حيث دعمت قوى مختلفة المعارضة المسلحة بهدف إضعاف الحكومة السورية.
ثانياً: الضغوط من القوى الإقليمية الكبرى على الدول الصغيرة
لا تقتصر الضغوط على القوى الدولية فقط، بل تمارس القوى الإقليمية ضغوطًا كبيرة لتحقيق مصالحها:
1. الضغوط الاقتصادية من القوى الإقليمية
تستغل القوى الإقليمية الكبرى قدراتها الاقتصادية للضغط على الدول الأصغر في منطقتها:
التحكم في الموارد: تعتمد تركيا على التحكم في تدفق مياه نهري دجلة والفرات إلى سوريا والعراق كورقة ضغط. هذا التدفق يُعتبر شريان حياة لتلك الدول، ما يمنح تركيا نفوذًا على جيرانها.
التبادل التجاري المشروط: تفرض الهند بين الحين والآخر قيودًا تجارية على باكستان لتزيد من أزماتها الاقتصادية في فترات تصاعد النزاع بين البلدين، مما يجعل الاقتصاد أداة ضغط قوية.
2. الضغوط السياسية والدبلوماسية من القوى الإقليمية
تمارس القوى الإقليمية أيضًا ضغوطًا سياسية للتأثير على قرارات الدول الصغيرة المجاورة:
دعم الجماعات المحلية: تستغل إيران نفوذها الإقليمي لدعم جماعات معينة في العراق ولبنان، مثل حزب الله في لبنان، مما يزيد من قوتها السياسية في تلك الدول ويُضعف استقلالية الحكومة المركزية.
التدخل السياسي المباشر: تقوم بعض الدول، مثل الاقليمية بالتأثير على السياسات الداخلية للدول المجاورة، حيث يدعم كل منهما جماعات مختلفة في اليمن مثلا ويؤدي ذلك إلى تعقيد الأزمات الداخلية.
3. التهديد العسكري من القوى الإقليمية
تلجأ بعض الدول الإقليمية إلى استخدام القوة العسكرية بشكل مباشر أو التهديد بها لتحقيق مصالحها:
التدخل العسكري المباشر: قامت تركيا بتدخل عسكري في شمال سوريا تحت بقصد محاربة الإرهاب، مما فرض تحديات كبيرة على سيادة سوريا.
الدعم العسكري للجماعات المسلحة: كما فعلت بعض القوى الاقليمية في اليمن بدعم الحوثيين، ما أدى إلى تفاقم الأزمة اليمنية وخلق مزيد من الضغوط على الحكومة اليمنية.
ثالثاً: أساليب المناورة الدبلوماسية للدول الصغيرة
تلجأ الدول الصغيرة إلى استخدام أدوات دبلوماسية مبتكرة لمقاومة هذه الضغوط، وتأتي الديمقراطية والبرلمان كأدوات فعالة لتحقيق ذلك.
1. الاستفتاء الشعبي
يعتبر الاستفتاء الشعبي بمثابة درع دبلوماسي يوفر للحكومة غطاءً سياسيًا، حيث تستطيع استخدام رفض الشعب كحجة للامتناع عن تنفيذ شروط لا تتماشى مع مصالحها.
آيسلندا والأزمة المالية: بعد الأزمة المالية العالمية في 2008، طالبت بريطانيا وهولندا آيسلندا بدفع تعويضات لمستثمرين تضرروا من انهيار بنوك أيسلندية. ايسلندا رفضت هذا الطلب وعرضته في استفتاء شعبي، حيث صوت الشعب بالرفض، مما وفّر للحكومة غطاءً قانونيًا قويًا أمام الضغوط البريطانية والهولندية.
تركيا وضغوط الاتحاد الأوروبي: استخدم الرئيس التركي رجب طيب أردوغان إرادة الشعب كحجة للتملص من ضغوط الاتحاد الأوروبي في عدة قضايا، منها ملف حقوق الإنسان من وجهة النظر الاوروبية وحرية الصحافة بللمنظور الاوروبي، مؤكداً أن القرار يجب أن يتماشى مع إرادة الشعب التي .
2. تكوين التحالفات الإقليمية والدولية
تسعى الدول الصغيرة لتكوين تحالفات مع دول أخرى لتعزيز موقفها الدبلوماسي والدفاعي أمام القوى الكبرى:
مجلس التعاون الخليجي: توحدت دول الخليج ضمن مجلس التعاون الخليجي لمواجهة التهديدات الإقليمية و الدولية، مما زاد من قدرتها التفاوضية والدفاعية أمام هذه الضغوط .
حركة عدم الانحياز: كانت حركة عدم الانحياز ملاذًا للدول الصغيرة خلال الحرب الباردة، حيث وفرت مساحة لدول مثل الهند وإندونيسيا للوقوف بوجه الضغوط السوفيتية والأمريكية.
3. استخدام الإعلام الدولي لتشكيل الرأي العام العالمي
تسعى الدول الصغيرة لاستخدام الإعلام الدولي كوسيلة للتأثير في الرأي العام وكسب التأييد الدولي:
القضية الفلسطينية: تستغل السلطة الفلسطينية الإعلام الدولي لكسب التعاطف مع قضيتها، مما أدى إلى تأثير كبير على قرارات المجتمع الدولي، وحصولها على دعم شعبي عالمي.
رابعاً: البرلمان المنتخب كسلاح استراتيجي في المناورات السياسية
أهمية البرلمان كدرع سيادي
يُعتبر البرلمان المنتخب بغض النظر عن صلاحيات الفعلية أداة قوية للشرعية الوطنية. فهو يمنح الحكومة مبررًا قويًا أمام المجتمع الدولي ويُظهر تمثيلاً حقيقيًا و مقبولا للإرادة الشعبية بمختلف اطيافها :
البرلمان الأيسلندي: استخدم البرلمان الأيسلندي إرادة الشعب لرفض دفع تعويضات كبيرة بعد الأزمة المالية، مما حمى البلاد من التبعات المالية الثقيلة التي كانت ستُضعف اقتصادها.
التذرع بالديمقراطية كحجة للرفض
أحياناً يُستخدم البرلمان كحجة للرفض، حيث تستطيع الحكومة التظاهر بقبول الاتفاقيات، ولكن “ترمي” قرار الرفض إلى البرلمان باعتباره ممثلاً للشعب:
المجر والاتحاد الأوروبي: استخدم رئيس الوزراء المجري فيكتور أوربان البرلمان كحجة لرفض مطالب الاتحاد الأوروبي بشأن سياسات الهجرة، مشيرًا إلى أن هذه القرارات تعكس إرادة الشعب المجري، وأن البرلمان هو المؤسسة التشريعية التي تمثل هذه الإرادة. بهذه الطريقة، تمكّن أوربان من مقاومة ضغوط الاتحاد الأوروبي دون الدخول في مواجهة مباشرة مع قادة الاتحاد، إذ ألقى بالمسؤولية على البرلمان الذي يعتبر تعبيرًا عن رغبة الشعب.
خامساً: التخلي عن البرلمان المنتخب : نزع سلاح هام من يد الدبلوماسية
يُعتبر البرلمان المنتخب مهما كانت صلاحيات صورية أو فعلية أحد أقوى الأدوات التي يمكن استخدامها في مواجهة الضغوط الخارجية، إذ يُتيح للدولة التحرك بمرونة كبيرة. لكن التخلي عن البرلمان المنتخب يؤدي إلى نتائج عكسية، حيث يجعل الدولة عرضة للضغوط الخارجية وفاقدة لأحد أهم أدوات المناورة الدبلوماسية.
امثلة عن التخلي عن البرلمان و إضعاف السيادة الوطنية
بدون برلمان منتخب، تصبح الحكومة عاجزة عن تبرير رفضها للضغوط الدولية بناءً على الإرادة الشعبية. في حالات عديدة، يؤدي انهاء دور البرلمان إلى إضعاف الموقف الدبلوماسي للدولة:
تونس بعد ثورة 2011: بعد الثورة، شهدت تونس تجربة ديمقراطية واعدة ببرلمان منتخب، لكن مع تصاعد الأزمة السياسية في السنوات الأخيرة وتجميد البرلمان، واجهت البلاد تحديات كبيرة في الحصول على دعم دولي، حيث يعتبر المجتمع الدولي أن البرلمان هو رمز الشرعية السياسية.
فنزويلا وتقييد البرلمان: بعد أن قيدت حكومة فنزويلا سلطات البرلمان الذي تسيطر عليه المعارضة، فقدت البلاد جزءًا من الشرعية في أعين المجتمع الدولي، مما جعلها عرضة لمزيد من العقوبات الاقتصادية والسياسية، وأصبحت أقل قدرة على الدفاع عن سياساتها أمام المجتمع الدولي.
سادساً: أمثلة تاريخية معاصرة للدروس المستفادة
تعكس الأمثلة السابقة أهمية البرلمان المنتخب كأداة دبلوماسية ومصدر للشرعية، ويمكن للدول التي تتبنى نظاما البرلمانيا منتخبا تحقيق عدة أهداف من خلاله. ومن بين الدروس المستفادة من التاريخ الحديث:
1. أهمية البرلمان كوسيلة لتعزيز الشرعية الداخلية والخارجية
اليونان وأزمة الديون: خلال أزمة الديون في اليونان في 2010-2015، استخدم البرلمان اليوناني استفتاءات شعبية وقرارات برلمانية لرفض سياسات التقشف التي فرضها الاتحاد الأوروبي وصندوق النقد الدولي. منح هذا البرلمان الحكومة غطاءً داخلياً للتفاوض ورفض السياسات التي تُعتبر غير عادلة بالنسبة للشعب اليوناني.
2. البرلمان كوسيلة للمناورة دون مواجهة مباشرة
يمكن للدول الصغيرة تجنب مواجهة القوى الكبرى باستخدام البرلمان كوسيلة للرفض غير المباشر، وهو ما يُعزز من قدرة الدولة على المناورة.
سويسرا والاتفاقيات الأوروبية: سويسرا ليست عضوًا في الاتحاد الأوروبي، لكنها ترتبط بعدد من الاتفاقيات الثنائية معه. في حالات متعددة، استخدمت سويسرا البرلمان لرفض ضغوط الاتحاد الأوروبي دون أن تدخل في مواجهة علنية، حيث استطاعت المناورة بين القبول الشعبي ورفض التدخل الخارجي.
3. غياب البرلمان كتحدٍ للشرعية الوطنية
إن غياب البرلمان المنتخب يُضعف من قدرة الدولة على حماية مصالحها في بعض الاحيان لمن أراد استغلال ذلك ويعرضها لضغوط خارجية لا تستطيع مواجهتها بشكل مباشر.
مصر ما بعد 2013: بعد حل البرلمان وتجميد الحياة البرلمانية، واجهت مصر تحديات كبيرة على الصعيدين الداخلي والدولي، حيث استخدمت بعض القوى الدولية هذه الحالة كذريعة للتدخل السياسي ومحاولة فرض رؤى محددة في القضايا الداخلية.
الخاتمة
في عالم اليوم، تتعرض الدول الصغيرة لضغوط متزايدة من القوى الكبرى، سواء الدولية أو الإقليمية. تتنوع هذه الضغوط بين العقوبات الاقتصادية، والعزلة السياسية، والتدخل العسكري المباشر أو غير المباشر، مما يجعل الدول بحاجة إلى أدوات دفاعية قوية. يُعتبر البرلمان المنتخب أحد أهم هذه الأدوات، حيث يمنح الحكومة غطاءً سياسياً ودبلوماسياً، ويعزز قدرتها على مقاومة الضغوط من خلال تبرير القرارات بإرادة الشعب.
إن التخلي عن البرلمان المنتخب يُضعف الدولة ويجعلها عرضة للمزيد من الضغوط، حيث يصبح من الصعب عليها الادعاء بأن قراراتها تمثل إرادة شعبية. تعلمنا الأمثلة التاريخية أن الدول التي تمتلك برلمانات منتخبة قادرة على المناورة في الساحة الدولية بشكل أفضل، وتستطيع الدفاع عن مصالحها بمرونة أعلى.
يظل البرلمان المنتخب بمثابة سلاح استراتيجي في يد الدول الصغيرة، ليس فقط في الداخل بل أيضًا في علاقاتها الخارجية، حيث يساعدها في بناء سيادة وطنية قوية ومستقلة.